في الآونة الأخيرة صار الروائي والصحفي والمترجم العراقي الألماني، نجم والي، يعيش حياة كاتبَين ينتمي كل منهما إلى ثقافة بلد مختلف، أو، إذا جاز التعبير، صار يعيش حياتين تنتمي كل واحدة إلى ثقافة مختلفة.
وليس من السهل على الكاتب العربي، الذي يعيش في بلد غربي منذ عقود، ويكتب بلغة ذلك البلد الذي يُقيم فيه، أن ينتمي لأدب البلد الذي ولد وتعلم فيه وشكّل مخزونا لأغلب أعماله الإبداعية، إن لم نقل كلها.
وهي ليست قضية سهلة على الكاتب؛ أن يكتب رواية، على سبيل المثال، عن بلد مسقط الرأس وبلغة غير لغة ذلك البلد، وأن ينتمي لأدب البلد الغريب. وهذا ما ينطبق على كثير من الكتاب العرب الذين عاشوا ويعيشون في الغرب، ويكتبون بلغة ذلك البلد، وصار أدبهم ينتمي لأدب بلد اللغة وجمهور القراءة، وليس لبلده الذي غادره إراديّا أو إجباريا. ويمكن أن نذكر كثيرا من الأسماء التي صارت تنتمي لبلد اللغة التي كتب بها، منها، على سبيل المثال، الطاهر بن جلّون وعباس خضر ورفيق شامي وليلى سليماني.
لغتان وحياتان
وجد نجم والي حلا في عدم الانفصال عن الانتماء إلى عوالم الأدب العربي من خلال استمرار الكتابة باللغة العربية. أما رواياته التي ستنتمي إلى الأدب الألماني فيكتبها باللغة الألمانية مباشرة، مثل رواية “مدينة النصال”، التي صدرت قبل أيام عن دار سيسسيون السويسرية.
وفي عمله الأحدث “عمتي الرومانتيكية” يتابع نجم والي (ولد في عام 1956) حكاياته التي لا تنتهي عن العراق، وعن نساء العراق، وعن الآلام التي لا تنتهي في العراق. ورغم مضي أكثر من 40 عاما، منذ فراره من العراق، فإن ذلك المخزون السردي عن مسقط الرأس لم ينضب. وقد ظن المتابع لأعماله أنه ما عاد عنده المزيد عن العراق بعد صدور روايتيه “إثم سارة”، التي تدور أحداثها الرئيسية في السعودية، و”سعاد والعسكر”، والتي لاحقت حياة وانتحار الممثلة المصرية الشهيرة سعاد حسني في القاهرة ولندن. ولكن نجم والي عاد مع هذه الرواية إلى العراق مجددا.
ومجددا عن شخصية رئيسية تُدعى سعاد، وهي عمّة الراوي الذي لقّبها بالرومانتيكية، مثلما لقّبتها أمها وكذلك صديقاتها. وهي صفة ثبّتتها العمة على نفسها من خلال أفكارها التي كانت تكتبها في دفتر مذكراتها.
نساء وعشّاق
هذه الرواية ينسجها نجم والي ليس فحسب من حكاية بطلة الرواية مع عشاقها من الرجال، بل من حكايات صديقاتها وعشّاقهنّ، ولكنه يجمع هذه الخيوط ليصنع منها فضاء عاما عن النسوة، وكذلك عن الرجال، الذين عاشوا فترة حروب متواصلة في العراق، منذ وصول الرئيس صدام حسين إلى السلطة، وقصد بذلك الحرب مع إيران، أو حرب الخليج الأولى، والتي امتدت من عام 1980 وحتى عام 1988، ثم غزو الكويت في عام 1990، وحرب الخليج الثانية، أو أم المعارك أو عملية درع الصحراء، والتي امتدت من عام 1990 حتى عام 1991. وبعدها الحصار الشديد على شعب العراق، وتجويعه وتفريغه من الحياة نفسها، إلى أن يصل الكاتب إلى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، وتفتيت كل شيء فيه.
ورغم أن السياسة هي المحرك الرئيسي في تلك الأحداث الكارثية، إلا أن نجم والي ذهب إلى التفاصيل الحياتية البسيطة، ليحللها وليسردها من خلال حكايات كثيرة، بعيدا عن الشعارات التي قد تأخذ الرواية إلى منحى المباشرة والتنميط.
كما أن نجم والي بقي مخلصا لتقديم الهامشي والهامش، فالشخصيات الرئيسية في الرواية هي شخصيات عادية، غير مؤثرة سواء في الحياة العامة أو السياسة أو الحزب، ولكنها تعرّضت لمصائر غير عادية، خاصة شخصيات سعاد ومنار وإبراهيم ووالد الراوي، أدّت بها إلى دخول السجن والتعذيب والقهر.
وصحيح أن المكان الأساسي هو بغداد، ونجم والي قدم في رواياته السابقة أمكنة غير مركزية كالعاصمة، فإن الشخصيات تبدو كأنها من مكان هامشيّ لا يخصّ بغداد. وفي الحروب والحصار تحوّل العراق نفسه إلى مكان هامشي خالٍ من أبسط الأمور التي تسمح بإنشاء مكان مركزي.
التحليل النفسي والحكايات
في 18 فصلا و323 صفحة قدّم نجم والي أكثر من 20 شخصية أنثوية ورجالية، من خلال حكاياتها ودواخلها ورقّتها وعنفها ومصائرها العنيفة، من خلال راوٍ واحد، هو ابن أخ للشخصية الرئيسية سعاد، استخدم عدة حلول سردية في معمار هذا العمل، من خلال الحوار والمذكرات. وبدا التحليل النفسي للشخصيات، حتى لشخصية فاروق السلطوية العسكرية الفاشية ولابن اخته الضابط العاجز إبراهيم، مرافقا دائما للحكايات التي كانت تنتقل بين شخصية وأخرى بشكل سلس، لدرجة أن الراوي بدا دائما راويا وليس مؤلّفا لكل ذلك.
وبالاستفسار عن استمرار الاعتماد على شخصيات أنثوية في رواياته، قال صاحب “ملائكة الجنوب” للجزيرة نت إن سبب ذلك ربما يعود لأنه “ترعرع وتربّى بين نساء”. كما هو حال جميع أطفال الشرق تقريبا، لأن “الأب يذهب للعمل وبعد نهاية الدوام يذهب إلى المقهى، وتبقى الأمهات في البيت، بينما يلعب الأطفال في الشارع”.
ثم يقول إن النساء كانت تجلس في حلقات أمام باب الدار، أو يروين همومهن لبعض، و”كم كنت أحب حكاياتهن. كنتُ أجلس إلى جانب أمي وأسمع القصص، وإن لم أفهم بعضها”. ويجد أن تلك القصص شكلت مخزونا “كبيرا، وهو الذي يظهر من حين إلى آخر وفي مواقع متفرقة من رواياتي”.
ويردّ ذلك إلى أنه ربما شعر بالتعاطف معهن آنذاك، ” لماذا يذهب الرجال إلى المقهى ويبقين هنّ جالسات في البيت؟ ربما شعرتُ آنذاك بأنهن مهمّشات، على الرغم من الوعي البسيط. وحين كبرت ونضجت، تحول هذا التضامن إلى مبدأ أساسي عندي”.
وعن الهامشي يقول نجم والي إنه منذ البداية “أبديت اهتمامي في رواياتي والقصص بالمهمش، سواء فيما خص المكان أو فيما خص الإنسان، وعادة -إلى حين صدور روايتي الأولى “الحرب في حي الطرب” عام 1989- كانت الروايات العراقية بمجملها تدور أحداثها في العاصمة بغداد، وبطلها دائما مثقف يلقي بمنلوجه الداخلي على الآخرين، وكان أكثر ما يهمني الحديث عن تلك الأماكن الصغيرة، لكنها كبيرة بالحيوات التي تكتظ بها”.
رواية “عمتي الرومانتيكيّة” لن تكون العمل الأخير لنجم والي عن العراق، فهو قد انتهى من رواية جديدة له تجري أحداثها في العراق، وسيقوم بمراجعتها قبل دفعها للنشر، لتشكل حلقة جديدة من سلسلة طويلة في كتابات نجم والي عن مسقط الرأس الذي، رغم مرور 4 عقود، لا يُمكن نسيانه أبدا.
وكان نجم والي قد فرّ من العراق، في 28 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1980، ووقتها لم يكن قد صدر له أي عمل سردي، سواء في الرواية أو القصة، إذ تابع دراسته الجامعية في الأدب الألماني (جامعة هامبورغ) وفي الأدب الإسباني (مدريد)، قبل أن تصدر روايته الأولى “الحرب في حي الطرب” عام 1989، والتي كتبها باللغة العربية، ثم أصدر بعدها بعام مجموعة قصصية بعنوان “هنا في تلك المدينة البعيدة” كتبها باللغة الألمانية (دار إم جالجنبيرج – هامبورغ 1990).
وفي عام 1994 سيصدر المجموعة القصصية “ليلة ماري الأخيرة” باللغة العربية، حيث سيصدر بعدها أكثر من عمل أدبي باللغة العربية محافظا على تلك الصلة بينه وبين الأدب المكتوب باللغة العربية، حيث سيصدر رواية “مكان اسمه كميت” (1997)، ومن ثم مجموعته القصصية “فالس مع ماتيلدا” (1999)، التي ستكون مجموعته القصصية الأخيرة، حتى الآن، ليصدر بعدها روايات فقط، مثل “تل اللحم” (2001) و”صورة يوسف” (2005) و”ملائكة الجنوب” (2009)، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة يان ميشالسكي عام 2014، و”بغداد مالبورو” (2012)، والتي نالت جائزة برونو كرايسكي عام 2014، و”إثم سارة” (2019)، و”سعاد والعسكر” (2020)، والتي نالت جائزة دور النشر الألمانية، حتى صدور روايته الجديدة “عمتي الرومانتيكية” عن دار روايات (2024). ويعيش نجم والي حاليا في العاصمة الألمانية برلين، ويعمل فيها، وهو نائب لرئيس مركز القلم الألماني لشؤون الكتّاب المضهدين، والمشرف على مشروع “محادثات السلام الأدبية” الذي يُعقد سنويا في ألمانيا.