حديث عن أزمة الثقة وتجلياتها في العمل الإسلامي

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

في الأزمات الكبيرة نحن أحوج ما نكون إلى العقول الكبيرة والقلوب الكبيرة والنفوس ‏الكبيرة، وأحوج ما نكون إلى وجود هذا في العمل الإسلامي اليوم الذي يتصدر العمل في الأزمات على اختلاف أطيافه وتوجهاته.

ورغم حضور هم العمل المشترك، وضرورة تجسيده بأشكاله المختلفة وحدة واندماجا وتنسيقا وتحالفا لتحقيق الفلاح، والشعور المتزايد بأنه أول السبل للخروج من النكسات المتتالية، والنكبات المتعاقبة، فإن أهم العوائق التي تعترض طريق العمل الإسلامي المشترك، وتحول دون تجسيده واقعا حقيقيا لا تكمن في وجود الاختلافات في الرؤى والتوجهات والمشارب الفكرية، فهذا أمر تفرضه سنن الله تعالى في الشعوب والأمم وعجلة الحياة.

ولكن العائق الأهم الذي تتحطم على صخرته محاولات رفع البنيان المرصوص من القواعد، ويجعل صور التقارب المنشود عالية الشأو في المؤتمرات والندوات والمهرجانات الخطابية، بينما تغيب عن الميدان غيابا يجعل أفئدة العاملين فارغة كفؤاد أم موسى إذ غاب رضيعها، يتمثل في فقدان الثقة بين مكونات العمل الإسلامي، أحزابا وتنظيمات وجماعات وتيارات وهيئات ومنظمات وروابط ومؤسسات، سياسية أو اجتماعية أو دعوية، مدنية أو عسكرية.

وأكثر ما رسخ عدم الثقة هذا شعور المكونات بأنها أفراس رهان، تتنافس في مضمار غنائم سرابية وهمية، لا جنود مبدأ يشتركون معا في تحقيقه وحماية بنيانه.

فعدم الثقة المتجذر للأسف بين هذه المكونات يرجع في غالبه إلى أسباب نفسية ذاتية يتم إلباسها ثوبا فكريا لتبريره وتمريره.

ومع ذلك فإن حرص هذه المكونات على تحقيق الوحدة التي أمر الله تعالى بها حدا بالقائمين عليها إلى التعاون في إنشاء صور عدة للعمل المشترك بينهم، تجلى ذلك في تشكيل جبهات وتحالفات ومجالس واتحادات.

غير أن أزمة الثقة الراسخة جعلت من هذه النتاجات مجرد كيانات هشة، صار الهم بعد تشكيلها يتركز في كيفية الحفاظ عليها، واستمرار بقائها.

فتحولت من وسيلة للانطلاق في فضاءات العمل الرحب إلى غاية تستنفد الطاقات اللازمة للعمل من أجل المحافظة على صورتها، خشية التشظي المتوقع الذي سيؤدي بالناس إلى مزيد من الإحباط وزيادة في اليأس من هذه المكونات وقدرتها على تحقيق آمالهم في انتشال المشروع من أوحال الذات الضيقة.

عدم الثقة والإعراض المشؤوم

وكان من ثمار أزمة الثقة أن مكونات العمل الإسلامي غدت قادرة على التعامل مع المكونات غير الإسلامية وغير المسلمة أكثر من تعاملها مع المكونات الإسلامية المخالفة أو المنافسة التي تشترك معها في أصل المشروع وخطر الاستهداف.

بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى تحالف مكونات العمل الإسلامي مع خصومها في الفكر أو الأيديولوجيا أو الممارسة ضد بعضها البعض.

ثم ترى كل مكون من هذه المكونات يلبس هذا الإعراض المشؤوم ثوبا شرعيا وخطابا يبرر فيه تدابره مع إخوانه وإقباله على خصومه في مشهد أقرب إلى الكوميديا السوداء.

ثقافة التقية خطابا وممارسة

وإن من أهم مظاهر أزمة الثقة بين مكونات العمل الإسلامي ممارسة التقية التي تتمثل في وجود خطابين ينعكسان على السلوك عند كل مكون من هذه المكونات، خطاب عام خارجي إعلامي، يغازل المكونات الأخرى، ويرفع الصوت عاليا بضرورة وحدة الصف ولم الشمل وجمع الكلمة، والحديث عن ضرورة التنسيق في العمل على أنه أضعف الإيمان، وهذا الخطاب يتسم بالموضوعية والواقعية في الطرح، والرفعة والسمو في الأسلوب والطريقة، وهو ينسجم مع الخطاب الإسلامي المنشود والمطلوب.

غير أن هذا الخطاب الخارجي الذي يستهدف عادة المكونات الأخرى وعموم الناس، يتلازم مع خطاب داخلي، يستهدف قواعد المكون وأفراده وكوادره العاملة، وهذا الخطاب الداخلي يقوم على تعبئة أبناء المكون وأفراده بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بأنهم أهل الحق، وجماعة المسلمين، والفرقة الناجية، وأنهم المقصودون بمصطلح أهل السنة والجماعة.

وعادة ما يقوم الخطاب الداخلي للمكون على استقصاء أخطاء المكونات الأخرى، وتسليط الضوء على ما فيها وما في أفرادها من مثالب وعيوب فكرية وسلوكية، وتضخيم نقاط الاختلاف، وإغفال الحديث عن نقاط الالتقاء والاشتراك، فيتنامى الشعور عند المستهدفين بالخطاب بأن الخلاف هو الأصل، وأن هذه المكونات لا يمكن التقاؤها والعمل معها، وإن رفعت الإسلام شعارا ومنهاجا، حتى غدا كثير من العاملين في قواعد هذه المكونات، ينظرون إلى لقاء قياداتهم مع قيادات المكونات الإسلامية الأخرى على أنه ضرب من المجاملة المطلوبة لإنجاح العمل، ولا يرونه مختلفا كثيرا عن اللقاء مع قيادات المكونات غير الإسلامية أو غير المسلمة، ولا يرون فيه الأخوة الإيمانية المنشودة، والواجب الشرعي اللازم للنهوض بأعباء المشروع الإسلامي الواحد.

إجراءات فكرية لاستعادة الثقة

وهنا تظهر الحاجة الملحة إلى أن تعيد مكونات العمل الإسلامي الاعتبار للخطاب الإسلامي الناضج والصادق والنقي من التقية الفكرية والسلوكية التي يمارسها كثير من الإسلاميين واقعيا، رغم رفضهم لها ومهاجمتها نظريا.

على أن يعتمد هذا الخطاب تعبئة أبناء المكونات من القاعدة إلى الرأس بمعاني الأخوة الإيمانية بمفهومها الواسع الذي يتجاوز حدود المكون ليشمل أبناء المسلمين جميعا، وفي مقدمتهم العاملين للمشروع الإسلامي من أبناء المكونات الأخرى، وتربية الأفراد على أن أي مكون إسلامي مهما بلغ حجمه وعدد أفراده وانتشاره، ومهما كان الأقرب للحق والصواب إنما هو من جماعة المسلمين، وأن المشروع الإسلامي لن يقوم به وحده، بل هو محتاج إلى مكونات العمل الإسلامي كافة ليقوم بالمهمة الموكلة إليه، والأمانة الملقاة على عاتقه على أتم وجه وأكمل صورة.

إجراءات سلوكية لمد الجسور وكسر الجليد

ومباشرة هذه النهضة الفكرية الداخلية تعد السبيل الأمثل لاستعادة الثقة التي تمر بأزمة خانقة، على أن يلازم تنفيذها القيام ببعض النشاطات السلوكية المرافقة لكسر الجليد الذي بناه عدم التواصل الحقيقي بين أبناء المكونات المختلفة، واقتصار التواصل على الصور البروتوكولية والأشكال الرسمية، فلا بد من القيام بأنشطة تجمع الشباب من المكونات المختلفة، يعيشون فيها معا لأيام، ويكسرون ما بينهم من حواجز نفسية، ويزيلون ما يعتريهم من نفور قلبي، ليس له سبب إلا أزمة الثقة التي نشأت عن تعبئة داخلية تقوم على السماع عن المكونات الأخرى، فإن أتيح لأفراد كل مكون السماع من أفراد المكون الآخر مباشرة، والاحتكاك بهم فإنهم سيعلمون أن ما بين أبناء المشروع الإسلامي من التوافق القلبي والانسجام النفسي والتلاؤم الفكري ووحدة الهدف أكبر بكثير مما حشيت به قلوبهم وعقولهم.

وإن تلازم الطريقين الفكري والسلوكي يضمن تذليل العقبات والتجاوز عن الزلل، والوصول في خاتمة المطاف إلى تحقيق الوحدة المنشودة، التي غدا كثير من العاملين يراها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، على أن استعادة الثقة لن تكون بين عشية وضحاها، ولن تحققها الجهود الكليلة ولا الأنفاس القصيرة.

فإن واظب عليها المصلحون أصحاب العقول الواعية والقلوب الواسعة والآفاق الرحبة والهمم العالية المرابطة من كل مكون، فإن الثقة بين أخوة المشروع ستكون واقعا قريبا لا حلما سرابيا.


  • الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *