ثقل التسعين لم يكبح تمرد فتى بعلبك.. طلال حيدر آخر عمالقة شعر المحكية

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

البقاع

منذ 80 عامًا وأنا أقرأ في دفتر بعلبك، باختصار، ودون إطالة، هذا أنا طلال حيدر.

هكذا وصف نفسه أشهر شعراء اللغة العربية المحكية في لبنان والوطن العربي، ناقلًا بصره بين لوحات عديدة زينت جدران منزل أجداده القديم، حيث استقر منذ سنوات في بلدة بدنايل البقاعية، المجاورة لملهمته التاريخية والأزلية، بعلبك.

وبعلبك، التي تعرضت لقصف إسرائيلي مدمر خلال الأشهر القليلة الماضية، تركت في نفس آخر كبار شعراء المحكية جرحًا عميقًا، وهو الذي لم يغادر منزله قط، رغم موجات النزوح، وتصاعد خطر التدمير الممنهج للمدينة وقراها.

سألته: ألم تخف؟ وماذا تركت في نفسك مشاهد الدخان الأسود المتصاعد من مرتع طفولتك؟

فأجاب على طريقته:

“الخوف مثل الليل، مثل عاصفة على شاطئ البحر، متل اللي نايم وعم بيقوم، وطراطيش المي عم تطفي النجوم، قلوا الحجر للحجر، شو عم نعمّر هون، قلوا بعل اللي كان بحبها ملبك، بدو هدية للشمس، عمرلها بعلبك”

@mariamseyf0 “بعل اللي كان بحبها ملبك بدو هدية للشمس عمّرلها #بعلبك ♬ original sound – Mariam Seif

وأضاف خلال لقاء خاص مع الجزيرة نت “ما حدث في بعلبك لم يصب الحجارة فحسب، بل أصاب البنايات والمنازل التي تسكنني وتتهدم بداخلي، الدخان لم يتصاعد من بعلبك، بل مني أنا، كنت أحترق، لأنه لا فرق بيني وبين بعلبك، هي تسميني طلال، وأنا أسميها بعلبك”.

 

“ما عندي وقت إكبر”

  • سألته: هل تسنى لك زيارة المدينة بعد وقف إطلاق النار الهش؟ هل تفقدت ما حل بـ”هدية الشمس”؟

أجاب: “لأسباب صحية لم أزرها حتى اليوم”. وأكمل باللهجة المحكية:

بعلبك إجت لعندي وحكتني بالمنام وبالصحو، قالتلي وينك؟ قلتلها انطريني، إذا قمت قبل المية رايح سلم عليكي

وعن ثقل 9 عقود فوق كاهله (ولد في 22 أغسطس/آب 1937 في بعلبك)، وما إذا كانت سببًا في محو ذلك الفتى العاشق، المجنون، المتوثب للحب والفرح بين أزقة وزواريب المدينة وشوارعها، قال:

كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبَر، الطفولي اللي ساكني فيي، بتفيقني كل يوم، وبتقلوا للزمان بعاد عنو

افتحي يا قدس أبوابك

  • سألته: ما أصاب بعلبك، أصاب غزة، وأنت القائل “وجعي المركزي فلسطين”، فكيف تقرأ هذا التلازم؟

فأجاب بأبيات:

وجهك برج وعمرتو وعبيتو سلاح

وجهك قطعان المعزي بجبل التفاح

وجهك كبش فزعان وعم يصرخ وحش

وجهك يا فلسطين قزاز

خاتم دهب وعلية وصندوق جهاز

وجهك سرقة البساتين

وجهك سجر النوم اللي قبالي

وجهك هالباب العالي

وجهك رعيان

وإنت كتاب الحكايا وملك الزمان

إنتي الوشم عا إيدين العرب، النَوَر اللي ضاعوا بهالعتم

إنت الرعد اللي عم يقصف بجبل الرعد

إنت البرج اللي جاي وما تعمر بعد

زمن البكي جاي على كل البيوت

فتحي يا قدس بوابك وقوليلو يفوت

فيروز لا تكبر

ربطت الشاعر حيدر، علاقة متينة بالرحابنة على مدى عقود سته، أثمرت أعمالًا مسرحية وأغاني، تكامل فيها شعر المحكية لطلال حيدر مع صوت السيدة فيروز وألحان الأخوين رحباني، والموسيقي والمسرحي زياد عاصي الرحباني. ولعل أشهر ما غنت فيروز من قصائد حيدر “وحدن بيبقوا” و”راعي القصب”، لكن الأحب إلى قلب حيدر هي “وحدن بيبقوا”.

  • سألته: لماذا؟ وما قصة هذه القصيدة التي نُشرت عنها روايات كثيرة؟

هنا رفض حيدر الحديث عن المناسبة التي ألهمته لكتابتها قائلًا: “هاي الحكاية اللي ما بحكيها لحدا، خلي كل واحد يحكي الرواية اللي بدو اياها”.

وأما عن “القصيدة التي تبحث عن فيروز حتى تصبح شعرًا” كما جاء في تصريحات سابقة له، وهل من رسالة يبعث بها في عيد ميلادها التسعين (ولدت السيدة فيروز بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1935)، وماذا يقول بالمناسبة لأجمل مَن غنى شعره؟

أجاب: فيروز لا تكبر، ولا أنا أكبر، فالصوت يسرق الكلام، ولكن خلال هذه الفترة، أصبحت فيروز هي التي تكتب القصيدة، لأن صوتها علمني المعاني التي كتبتها. وفيروز لا تحتفل بعيد ميلاد، مثلي أنا، فالزمن يقف على أكتافنا ونحن نسير، والوقت لا ينتظر أحدا.

خليفة آخر الأوفياء

إلى جانب عشقه لفيروز، كان لطلال حيدر تجربة مهمة مع الفنان الملتزم والموسيقي “مرسيل خليفة” وفرقته الميادين. إذ لحن خليفة وغنى وأنشد مجموعة من قصائده، أبرزها “بغيبتك نزل الشتي”، “سجر البن”، “ركوة عرب”، “بيتي”، و”لبسو الكفافي” بصوت أميمة الخليل. يقول عن مرسيل “إنه قمة الإبداع في الموسيقى والأداء، إنه آخر الأوفياء، هذا الرجل لم يتركني ولو للحظة، ورائعة “بغيبتك نزل الشتي” قصيدة وأغنية لكل الأزمنة”.

  • سألته: وماذا قصدت بقولك “صوتن متل مصر المرا وبعلبك الرجال” في قصيدتك “بغيبتك نزل الشتي”؟

أجاب: “لا تسألني، أنا أريد أن أسأل، أنا لا أعرف. عندما يأتي الشعر يقول لك أنا شعر، اكتبني. والذي لم يُكتب حتى الآن أعظم مما كُتب، الذي لم يُكتب ما زال سرًا لم يكتشفه أحد”.

حيدر باللغة الصينية

يفخر حيدر بأن شعره تُرجم إلى لغات عدة: الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية، والألمانية. ويكشف للجزيرة نت عن “مفاوضات تجري معي هذه الفترة لترجمته إلى اللغة الصينية”.

حصد حيدر جوائز كثيرة، محلية وعربية وأوروبية. ويتحدث بفخر عن تكريم مصر له: “مصر لم تكرم غيري من لبنان، نلت جائزة تكريمية من اتحاد كتاب مصر والفنانين والشعراء. لم يستطيعوا تجاهل أن الشعر المحكي اللبناني هو شعر كوني، وهذا يشرفني”.

ولفت إلى حفلات تكريم كثيرة في لبنان وإيطاليا، ونيله وسام الاستحقاق اللبناني “فضي ذو السعفة الذهبية”، وجائزة فؤاد حداد العربية للإبداع الشعري في دورتها الأولى عام 2020، تقديرًا لمسيرته الأدبية المتميزة.

  • سألته: هل تعتبر أنك نلت حقك من التكريم؟

سارع إلى القول “ما حدا بيقدر يعطيني حقي، ولا حدا بيقدر ياخذو مني، أنا بعرف حالي”.

لبنان لن يموت

أسهم الشاعر في نهضة ثقافية وفنية عرفها لبنان والوطن العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى جانب عمالقة الشعر والفن، أمثال أنسي الحاج، سعيد عقل، ميشال طراد، جوزف حرب، فيروز، صباح، مرسيل خليفة، وديع الصافي، ماجدة الرومي، فرقة كركلا، نضال الأشقر، جوزيف صقر، وغيرهم.

  • سألته: هل من بارقة أمل باستعادة بعض من ذلك الألق، أم أن الزمن طوى تلك المرحلة؟

أجاب “لبنان لا يموت، مر عليه حثيون، وأشوريون، وفينيقيون وغيرهم، لكن لبنان كطائر الفينيق، يحترق لكنه ينهض من رماده، لبنان بلد لا يموت ولن يموت”.

  • وسألته: هل أنت متفائل باستمرارية الشعر المحكي في لبنان؟ هل من جيل شاب يسير على خطاك؟

يجزم حيدر: “إذا لم يأت من بعدي من يتابع الطريق، أكون أنا كالكذبة. من سيأتي بعدي سيكون أفضل مني، لأن الشعر بحر يمتد عبر الزمان. اليوم لم نعثر على أحد من الشباب، لكنني في اللغة الفصحى أؤمن بالشاعر شوقي بزيع”.

المرأة والمرآة

لحيدر علاقة مثيرة بالمرأة والمرآة. سألته عن حكايته معهما، وعن ذلك المزج الرائع بين المرأة والطبيعة في قصائد كثيرة له، وهل فعلًا تقاعد من العشق؟

انتفض من مقعده مستنكرًا: “هذا الكلام كذب، إذا لم أكن عاشقًا في عمر المئتين، وليس فقط في عمر التسعين، فهذا يعني أنني حجر أصم”. واستطرد شعرًا:

كل اللي فاتو بالمراية طلعوا برات الزمان

فوتي عالمراية تا سكر عليكِ

قاعد بالمراية اتنوقس* عليكِ

الوهم

وعن جديده، من قصائد ودواوين، أشار إلى “لون” قصيدة مهداة إلى صديقه (جميل مُلاعب) الفنان والرسام التشكيلي، وديوان تحت الطبع يصدرقريبا بعنوان “الوهم” ينضم لاحقا إلى عائلة إصداراته السابقة، ومنها، “بياع الزمان”، “آن الأوان”، “الزمان”. وحينما سألته لماذا الوهم؟ فرد قائلا “لأن الزمان وهم”.

  • وأخيرا سألته: ماذا يعني لك الموت؟ وهل تخافه؟

أجاب: “الموت هو لحظة الحياة، وزمن الموت هو عبور، فعندما تغمض عينيك، تدخل إلى عالم أوسع، وأجمل وهم هو أنك إذا مت ستعود، فعندما تعبر الموت تصبح الدنيا أوسع”.

بعدها ختم آخر كبار شعراء اللغة العربية المحكية البعلبكي طلال حيدر.

———————————–

* اتنوقس: أنظر خلسة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *