ما أكثر ما يغيظ مما يبدو من أفواه المطبعين وشانئي الحق الفلسطيني وخاذلي قضيته العادلة.. غير أن ثمة ملاحظة ينبغي استحضارها، إذ ربما اضطرت المحرر إكراهات لغة الإعلام إلى استخدام عبارات من نوع “مسؤول إسرائيلي”، لعدم وجود -أو تبادر- معادل مناسب لأداء الدور التعبيري لكلمة “مسؤول”، إذا ما تعلق الأمر بعضو في حكومة الاحتلال، أو شخصية ذات موقع رسمي، لكن اللفظة -على كل حال- لا تحيل إلى مدلول “المسؤولية” الذي هو الأمانة والرزانة، بل تعبر عن تقلد المنصب -أو إمساك الموقع- لا أكثر!
ومما يرد على ألسنة الإعلاميين وأقلام الصحفيين إطلاق عبارة “ماء وجه نتنياهو”، وإنما يسوغ ذلك الإطلاق تبعا للسياق، فإن ورد في معرض نفي الوجود ارتفع الإشكال واستبان المخلص، كما في عبارة “يحاول نتنياهو حفظ ماء وجهه”، فإنما ذكر هنا “ماء الوجه” -المنعدم- على سبيل المجاز، ومن باب “التسليم الجدلي”، وإلا فإنه لا حياء لرئيس حكومة الاحتلال ولا ماء لوجهه أصلا!
ومما لا يصدر عن مؤمن بالقضية، ولا مسلم بمعطيات التاريخ وحقائق الواقع، إطلاق عبارة “دولة إسرائيل”، ولا سيما إن كان في سياق سافر “بحيث لا يبقى السامع منتظرا شيئا آخر” على حد تعبير النحاة!
على أن الإعلامي قد يجد نفسه مضطرا إلى إطلاق عبارة “الاحتلال الإسرائيلي”، أو “دولة الاحتلال” أو استخدام مصطلح “جريمة دولة”، ليس اعترافا بوجود شيء اسمه “دولة إسرائيل” أو “أرض إسرائيل”، ونحن في زمن حائر خنق فيه “حق القوة” “قوة الحق”، وزاحم الادعاء الإثبات على منابر الإعلام الدولي ومنصات الإعراب العالمية، حتى أصبح الإعلامي محاطا بحقل ألغام مفرداتي، لا يكاد ينزع منه لغم حتى ينفجر آخر!..
وإن الإعلامي -المتحرر من إصر “الخط التحريري” الضاغط- ليجد نفسه مدينا لمن دشنوا -ومهدوا- طريق “تحرير المصطلحات الإعلامية” باستحداث معادلات لفظية، ومقابلات مصطلحية للكلمات التي دستها دعاية الغزو الغربي الحديث، وورثها آخر احتلال -مباشر- للعالم العربي، وأقرب مثال على ذلك كلمة “الاستعمار” ومشتقاتها..
فقد طويت صفحة استعمال تلك اللفظة “الملغومة”، وسمي “الاستعمار” “احتلالا”، كما هي حقيقته في “الفطرة اللغوية”!
ومن تجليات تحرير المصطلحات في قاموس الشأن الفلسطيني إحلال كلمة “المغتصبات” مكان لفظة “المستوطنات”، حتى يطابق الاسم التوصيف.. كما أن من أبرز أمثلة المقابلات المصطلحية تلك العبارة المركبة “الكيان الصهيوني”، ولاجتناب النسبة لـ”إسرائيل”، يستخدم إعلاميو الخط التحريري المقاوم عبارات سائرة من قبيل “الصحيفة العبرية”، “المحلل العبري”، “الرأي العام العبري”، “الشارع العبري”..
وتحت هذا “التطهير الإعلامي” خدمة لغوية جليلة، إذ هو -في جانب منه- “تحرير للألفاظ” من أسر الاستعمال وزنزانة التداول.. كما أن ثمة ملمحا آخر من ملامح العناية بدقة التعبير ومراعاة الذوق الاستخدامي، سأضرب له مثلا: عدول رهيفي الذوق من المحررين عن الفعل “لف” إلى مقابله “سجّى” عند التعبير عن تغطية الشهيد بالعلم الوطني الفلسطيني، ولا يخفى ما تبعثه كلمة “لف” -في النفس- من إيحاء بالجفاء، مع ما فيها من الاستهلاكية والسطحية، ويغتفر لتقرير الشأن الفلس𓂆طيني ما لا يغتفر لغيره من الأحداث الرسمية والأخبار الجافة.. فليس على محرره جناح إذا ما وصله بكهرباء الأدبية، تبعا لصبغة الموضوع وطبيعة الحدث، من دون إسراف ولا توعر!
- الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.