ينتمي المؤرخ السياسي الفلسطيني عبد القادر ياسين لطينة خاصة من المؤرخين للقضية، فعلى مدار عمره البحثي الطويل عمل على التأريخ لفصول القضية وجوانبها الحركية والاجتماعية والسياسية، فضلا عن التأريخ للجدل الفكري والأيديولوجي، بالتوازي مع مراحل حياته التي تصلح في حد ذاتها للتأريخ للقضية منذ الانتداب والنكبة مرورا بالنكسة والكفاح والمقاومة.
وألف ياسين -على مدار عمره البحثي الطويل- كتبا مرجعية للتأريخ للقضية الفلسطينية، بينها “كفاح الشعب الفلسطيني حتى عام 1948″ و”الحركة الوطنية الفلسطينية 1948-1970″، و”شبهات حول الثورة الفلسطينية”، و”الصراع الطبقي”، و”تجربة الجبهة الوطنية في قطاع غزة”، و”فكر اليسار المصري وتصفية فلسطين” و”تاريخ الطبقة العاملة الفلسطينية”، وكذلك “أزمة فتح”.
وولد ياسين في 26 يناير/كانون الثاني 1936 في مدينة يافا، وقبيل وصول العصابات الصهيونية إلى مدينته عام 1948 ذهب مع أهله إلى مصر في رحلة كان من المفترض أن تكون قصيرة، لكنه خرج مطلع عام 1948 من بيته، ولم يعد إليه مرة أخرى، وحاورته الجزيرة نت حول فصول التهجير والاستيطان منذ النكبة وآثارها على المشهد الفلسطيني الراهن.
-
في البداية نود الاستماع إلى روايتك كشاهد عيان عاصر التهجير من بيته ومدينته، ثم انتقل إلى حياة المخيمات في بداية حياته؟
خرجنا في نهاية يناير/كانون الثاني 1948 من يافا إلى بورسعيد بتصريح من القنصلية المصرية في القدس عبر قطار الشرق السريع لأن أخوال أبي مصريون، فذهبنا إلى زيارتهم لمدة أسبوعين أو ثلاثة ثم طالت الزيارة ودخلت القوات الصهيونية إلى يافا في أواسط أبريل/نيسان، وبعد 15 شهرا من وجودنا في مصر دخلنا إلى معسكر مهجور للإنجليز في القنطرة شرق (شرق قناة السويس)، ضم بضعة آلاف من أهالي يافا ممن هاجروا إلى مصر.
وبعد توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل في فبراير/شباط 1949، زارنا وزير المعارف عبد الرزاق السنهوري فتظاهرنا مطالبين بالانتقال إلى غزة، فاستجاب ونُقلنا إلى معسكر المغازي في القطاع.
-
تثير الدعاية الصهيونية أنها حصلت على الأراضي الفلسطينية طواعية عندما باعها الفلسطينيون لليهود قبل عام 1947، ما ينفي فكرة تهجيرهم من أراضيهم، فما مدى دقة ذلك؟
حين اندلعت حرب 1948 الفلسطينية الإسرائيلية ثم العربية الإسرائيلية، كان لدى المستوطنين اليهود زهاء 6% من مجموع أراضي فلسطين، وهي مقسمة إلى 3 أجزاء متساوية إلى حد بعيد، وقد حصل اليهود المستوطنون على الأراضي الفلسطينية قبل عام 1948 بأحد 3 طرق؛ إما الشراء من موظفين أتراك فاسدين، أو شراء أراضي الملاك العرب غير الفلسطينيين الذين مُنعوا من دخول فلسطين بعد الاحتلال البريطاني عام 1918، فاضطر الملَّاك إلى عرض مساكنهم للبيع، واشتراها اليهود الذين كانوا يملكون قوة شرائية هائلة غير متوفرة للفلسطينيين، وأخيرا عبر شراء “الأراضي الأميرية” من حكومة الانتداب البريطاني، وبالطبع باع بعض الفلسطينيين لليهود، لكن عبر سماسرة دون أن يعرفوا أنه بيع لليهود.
بعد ذلك حين صدر القرار رقم 181 لعام 1947 بخصوص تقسيم فلسطين، انتشر “الشاي” (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي وقتها) في مصر؛ ليُشيع أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود، بغرض منع التعاطف المصري مع الفلسطينيين، وعندما اجتمعت وزارة النقراشي قررت عدم إرسال الجيش المصري للمشاركة في حرب 1948، لكن الملك فاروق قرر إرساله وكان أكبر جيش عربي وقتها.
-
هل كانت حركة الصهاينة لنشر الشائعات في المجتمع سرية؟
لا، فقد كانت هناك 15 صحيفة صهيونية رسمية، وكان الصهاينة يتدربون علنا على السلاح في مصر.
-
لماذا لم يُمنعوا أم كان الإنجليز يحمونهم؟
منذ 50 أو 60 عاما كنت قد التقيت الناشط السياسي والمؤرخ اليهودي المصري ألبير آريه الذي كان منضما للرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية، وأخبرني أنه كانت هناك انتخابات في نادي مكابي، وفاز الشيوعيون على الصهاينة، فتدخَّل البوليس السياسي لصالح الصهاينة، فالحركة الصهيونية كان لها مكتب هنا في مصر ويتحرك أعضاؤها بحرية، وكان البوليس السياسي يقف مع الصهاينة ضد الشيوعيين من اليهود.
-
استولى اليهود على 85% من مساحة فلسطين، رغم أن قرار التقسيم حدد لهم مساحة 55%، فكيف حدث التهجير بعد عام 1948؟
بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها بعد عام 1948 لفتح الهجرة المجانية للفلسطينيين إلى أستراليا وأوروبا ودول أخرى، وكان الوضع الاقتصادي لنا في الحضيض، ومع ذلك لم يخرج إلا الآحاد.
ثم في عام 1953 قدمت الولايات المتحدة 3 مشاريع توطين وإسكان للاجئين الفلسطينيين:
الأول مشروع سيناء الذي وقّعه الرئيس المصري جمال عبد الناصر والجانب الأميركي في يونيو/حزيران 1953، ومورست ضغوط على الفلسطينيين للانتقال من غزة إلى مكان قرب مدينة بورفؤاد المصرية على مساحة 50 ألف فدان.
والمشروع الثاني هو مشروع “الجزيرة” شمال شرق سوريا، لاستيعاب الفلسطينيين الموجودين في سوريا ولبنان.
والمشروع الثالث مشروع “جونسون” في وادي الأردن، لاستيعاب الفلسطينيين في ضفتي الأردن، لتُستوعب دول الطوق كلها.
-
ذكرتَ الفلسطينيين الموجودين في بورفؤاد بعد عام 1948، لكن المعروف أنه لم تكن هناك مخيمات في مصر، أليس كذلك؟
لا. لم تكن هناك مخيمات، ومُنع الفلسطينيون من إقامتها، وقد كانت معاملة الفلسطينيين الذين خرجوا إلى مصر بعد عام 1948 سيئة، فحكومة النقراشي منعت دخول الفلسطينيين الذي قدموا من البحر إلى مصر، ووضعتهم في “حَجْرِ المَزَارِيطَة الصحي” جنوب بورفؤاد، وكنتُ في بورسعيد وقتها وذهبتُ إلى زيارتهم، ومع الضغوط على النقراشي، سمح لمن يملك 10 آلاف جنيه بالخروج من الحجر، وهذا مبلغ كبير جدا آنذاك فلم يخرج أحد، فأعلن السماح للفلسطينيين بالخروج لكن دون أن يكون لأحدهم عمل ولو دون أجر.
كانت حكومتا النقراشي وإبراهيم عبد الهادي من بعده سيئتيْن في التعامل مع القضية الوطنية المصرية، فكان طبيعيا أن يكون موقفهم من الفلسطينيين سيئا، ثم جاءت حكومة الوفد فحسَّنت أوضاعنا قليلا، ثم جاء عبد الناصر في عام 1954 وساوى الفلسطينيين بالمصريين في كل شيء، عدا حقَّيْ الترشيح والانتخاب، ثم ألغى أنور السادات كل الامتيازات عام 1978 على خلفية اغتيال إرهابيين عراقيين للأديب ووزير الثقافة المصري يوسف السباعي، وأصبحنا (الفلسطينيون في مصر) نُعامل مثل الأجانب.
-
بالعودة إلى المشاريع الثلاثة، ما الذي نجح منها؟
كان التركيز على مشروع سيناء، وتوالت الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة بغرض دفع الفلسطينيين إلى تركها، وقتل وجُرح المئات من الفلسطينيين، إلى أن وقع اعتداء 28 فبراير/شباط 1955 وقتل فيه 39 جنديا مصريا وسودانيا وفلسطينيا، فاندلعت مظاهرات عارمة في أيام 1 إلى 3 مارس/آذار، وتوقفت الانتفاضة بعدما وعد عبد الناصر بتلبية مطالب المتظاهرين، وهي إلغاء مشروع سيناء، وتسليح القطاع وتحصينه وتدريب أهله، وإشاعة الحريات والديمقراطية في القطاع.
استجاب عبد الناصر لأول مطلبين، وسقط بالتبعية مشروعا (الجزيرة ووادي الأردن)، لكنه لم يستجب للمطلب الثالث إذ كنا نُحكَم بقانون الطوارئ في غزة، إلا أنه زاد على المطلبين بتأسيس “الكتيبة (141) فدائيون”، بقيادة البكباشي مصطفى حافظ مدير المخابرات الحربية المصرية في قطاع غزة، وأخرج من السجن كل من سبقت إدانته بتهمة التسلل إلى الوطن المحتل، وكان من يُقبض عليه متسللا إلى إسرائيل للقيام بعمليات هناك يُحكم عليه بالسجن لمدة قد تصل إلى 10 سنوات، وكانوا أدرى بطبيعة الأرض والقتال مع الصهاينة.
خرج من السجن قرابة 700 شخص، وأدت العمليات في العمق الإسرائيلي إلى قتل 1400 شخص في بضعة أسابيع، وهو رقم لا تتحمله إسرائيل في بدايتها، وكان هذا أحد أهم أسباب مشاركة إسرائيل في عدوان 1956، وكانت هجمات غزة سببا في تمني (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق) بن غوريون أن يستيقظ ويجد غزة قد ابتلعها البحر.
-
ألا يبدو أن لعبد الناصر موقفين؛ أحدهما في 1953 عندما قبل التوطين، والآخر في 1955 بدعم العمليات المسلحة؟
تسببت حادثة 1955 في تحول جذري في موقف عبد الناصر، فقد كان صاحب نظرة وردية إلى الأميركيين، إلا أنه ليلة العدوان كان يتناول طعام العشاء مع السفير الأميركي الجديد في مصر هنري بايرود، وبعد عودته علم بالعدوان، وفي اليوم التالي وجد انتفاضة تهتف بسقوطه، فحصل التحول عنده.
بعدها بشهر كان في مؤتمر باندونغ والتقى رئيس وزراء الصين وطلب منه سلاحا لمصر، فاعتذر لعدم قدرة بلده ووعده بالتحدث مع السوفيات، فلما عاد عبد الناصر إلى مصر وجد السفير السوفياتي بانتظاره، وأعطاه السلاح الذي يريد وأسموها الأسلحة التشيكية لتخفيف وقعها على الإدارة الأميركية.
-
بحسب الأونروا، فإنها تعمل في سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة، فهي موجودة في الداخل الفلسطيني وجميع دول الطوق باستثناء مصر، فلماذا امتنعت مصر عن توطين الفلسطينيين في مخيمات للاجئين؟
منعت مصر عمل وكالة الأونروا هنا، لأن النقراشي لم يكن يريد التعامل مع قضية اللاجئين، وأيضا حكومة إبراهيم عبد الهادي.
-
لكن ماذا عن الحكومات اللاحقة، سواء الوفد أو عبد الناصر؟
كان الوضع الذي بدأ في قضية اللاجئين قد استقر حينها فلم يغيروه، باستثناء ما منحه عبد الناصر من تساوي حقوق الفلسطينيين بالمصريين.
-
بعض المؤرخين اليهود روّجوا أن هجرة العرب من أراضيهم في فلسطين كانت استجابة لدعوة القادة العرب بإخلاء مناطق القتال من المدنيين، والسماح للجيوش النظامية بالتمركز، فهل كانت هناك مثل هذه الدعوات؟
القتال عندما كان فلسطينيا إسرائيليا كان الوضع لصالح العرب، إلى درجة أن المندوب الأميركي في الأمم المتحدة وارين أوستن طلب إلغاء قرار التقسيم، حينها قرر قادة الصهاينة إحداث مذبحة في أوساط الفلسطينيين، فوقعت مجزرة دير ياسين، ثم دخلت الجيوش العربية إلى القتال، وقد بذل الجيشان المصري والأردني قصارى جهدهما لنزع السلاح الفلسطيني، ومَن رفضَ تسليم سلاحه قُدِّم إلى المحاكمة.
-
هل كانت عمليات الاستيطان عشوائية أم كانت تعتمد على اختيارات جغرافية محددة؟
كان المستوطنون قبل 1948 يختارون أماكن مرتفعة تصلح للدفاع عن المستوطنة، وتحتها مخزون من المياه، ويسلحون مجموعات لحماية المستوطنة، كما كان تحت كل شارع من الأسفلت شارع يوازيه أسفل منه للمرافق مثل المياه أو الكهرباء أو خطوط الهواتف وما إلى ذلك، على غرار الشوارع الأوروبية، ونحن لم نكن نعرف هذا.
استفاد المستوطنون من هذا الشارع الموازي في المعارك العسكرية، فكانت القوات العربية تسيطر على المستوطنة في النهار، وفي المساء يخرج المستوطنون من البالوعات ويسيطرون عليها مرة أخرى، دون أن تعرف القوات العربية أماكن خروجهم.
-
بدأت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة منذ مؤتمر مدريد عام 1991، ومنذ ذلك الوقت يُلاحَظ أن قضية “عودة اللاجئين” دائما ما تكون مُرْجَأَة إلى ما تُسمَّى بـ”مفاوضات الوضع النهائي”، فلماذا ينخرط المفاوض الفلسطيني في نقاشات لا تطرح أحد أهم الملفات الفلسطينية الأساسية؟
أي مفاوضات تكون نتائجها انعكاسا لميزان القوة على أرض المعركة، فإذا كانت قوتك توازي الصفر يكون هذا وضعك في المفاوضات، وهكذا كانوا دوما، وعندما انخرطوا في أوسلو كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحت عدة ضغوط، أهمها أنه كان قد أيد الغزو العراقي للكويت عام 1991، ما جعل العرب يوقفون الدعم المالي عنه، وهنا شعر أن النظام العربي سيستبدل به آخرين فذهب إلى أوسلو، ثم عاد العرب إلى التعامل معه مرة أخرى.
-
في العدوان الإسرائيلي الحالي عقب عملية طوفان الأقصى، يرتفع الصوت الإسرائيلي المطالب بتهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة إلى سيناء، فما احتمالية نجاح هذا المخطط؟
المذابح ضد المدنيين التي تجاوزت 20 ألف شهيد، عدا قرابة 4 أضعافهم من الجرحى والمعاقين تمارس ضغوطا كبيرة، لأنهم في وضع كارثي وليس صعبا فقط، وهم بشر من لحم ودم، فمفهومٌ أن يضعف البعض أمام هذا الوضع ويقبل بالخروج إلى سيناء، ولا بد من مراعاة الاحتياجات الضرورية للناس.
-
لكن يُلاحظ أن كثيرا من الفلسطينيين في شمال القطاع لا يزالون يرفضون ترك مخيماتهم ومنازلهم رغم القصف والدمار، ألا يُعد ذلك رفضا منهم لخطة التهجير؟ وأيضا مفهوم أن البعض قد يستجيب للضغط الهائل، لكن هناك فارقا بين استجابة عدد قد يصل إلى آلاف، وبين استجابة مئات الآلاف، ومقياس كثافة الاستجابة يشير إلى نجاح أو فشل المخطط.. أليس كذلك؟
النتائج العسكرية ستترتب عليها مسائل كثيرة بما في ذلك التوطين في سيناء أو غيرها، فلو توقف القتال اليوم مع الصمود الفلسطيني فسيفشل المخطط، لكن غدا لا نعرف ما سيحصل، والتركيز الآن على إفراغ غزة، ويقال إن السبب في ذلك يرجع إلى وجود بئر غاز قبالة ساحلها، كما يُقال إن غزة ستكون في مسار القناة البديلة لقناة السويس التي ستمتد من إيلات إليها.
-
هل ستقبل مصر قرار التوطين مع ما يقال عن إغراءات مالية كبيرة؟
أعتقد أن القرار بيد إسرائيل دون غيرها، فالطرف العربي في هذا الصراع يتلقى وإسرائيل تُملي.