المؤرخ التركي خليل بركتاي: الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 29 دقيقة للقراءة

يتصاعد الحديث في الأعوام الأخيرة عن تزايد احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، ومع كل حدث أو تطور جديد في العالم منذ الحرب الروسية الأوكرانية، تظهر المخاوف مجددا من تكرار سيناريوهات سبق للعالم رؤيتها في الماضي حين تطور أثر الفراشة من عملية اغتيال إلى حرب عالمية قتلت نحو 17 مليون شخص في أربعة أعوام ونصف، وأخرى ثانية قتلت حوالي الضعف.

قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتياح الأراضي الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022، بعد حوالي عقد من هجومه على جزيرة القرم وضمها إلى الأراضي الروسية، ولم يتمكن بعد عامين ونصف من الحرب من الوصول إلى العاصمة كييف، بعد انحصار المعارك عند المدن الحدودية في شرق أوكرانيا أمام تحالف غربي واسع لمد كييف بالدعم العسكري واللوجستي.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

يحيى بن الوليد: السند الأكاديمي سر نجاح نص إدوارد سعيد

list 2 of 2

الصراع كجوهر الوجود.. ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟

end of list

وتتصارع الولايات المتحدة والصين على تايوان في شرق الكرة الأرضية، فيما يبدو أن الدولة الصغيرة ليست سوى “مسمار جحا” لتبرير حرب النفوذ المتصاعدة بين البلدين على جميع المستويات.

تستمر إسرائيل في حربها على قطاع غزة منذ أكثر من عام، وبينما يتصدر القطاع العناوين، فإن الحرب على الأرض آخذة في التوسع، وقد بدأت بالفعل في لبنان ومن حين لآخر في سوريا، مع تصاعد التهديدات والمواجهات الجوية بين إيران وإسرائيل على مبدأ “اقرص واهرب”.

في ظل هذه الأجواء، حاورت الجزيرة نت المؤرخ التركي خليل بركتاي، حول طريقة استقراء التاريخ والاستفادة من أحداثه في توقع الأحداث القادمة والاستعداد لها أو محاولة تجنبها، مع التعريج على رأيه كمؤرخ حول الأحداث الجارية في الشرق الأوسط وأوكرانيا وتايوان.

خليل بركتاي مؤرخ تركي وبروفيسور فخري بجامعة ابن خلدون في إسطنبول، وكان قبلها في جامعات سابانجي التركية وهارفرد وميشيغان الأميركية بعد تخرجه من جامعة ييل الأميركية وحصوله على درجة الماجستير في الاقتصاد، ثم على الدكتوراه في التاريخ من جامعة برمنغهام في بريطانيا عام 1991، ولديه 6 مؤلفات والعديد من الأوراق البحثية التي تهتم بالتاريخ العثماني والثورات والاستيلاء العسكري والتكاليف البشرية للحداثة والدولة القومية، فإلى الحوار.

  • هل يمكننا توقع المستقبل من خلال قراءة التاريخ؟

لا يمكننا ويمكننا، نفي مبدئي ثم بعض الاستثناءات، وهذا الموضوع لديه تاريخ من النقاش الفكري حوله، فالمؤرخون، أو لنقل فلاسفة التاريخ، كانوا يعتقدون أن بإمكانهم تعميم أحداث التاريخ لاستشراف المستقبل بطريقة ظنوا أنها صلبة وحتمية.
كانت هناك فلسفة قائمة على قراءة التاريخ والتمعن في أحداثه، ثم استنتاج خلاصات عامة ترسم في شكل أسباب ونتائج، ومن بعد ذلك تطويرها إلى مرتبة “قوانين التاريخ” أو “قوانين التطور البشري”، وبطبيعة الحال أكبر مثال على هذه الفلسفة هي قراءة ماركس للتاريخ، لكن ماذا حدث للماركسية اليوم؟ لقد كانت أفضل من اتبع هذه المنهجية.
نظر كارل ماركس وزميله فريدريك إنجلز إلى ما قبل التاريخ والعصور القديمة والعصور الوسطى ثم الثورة الفرنسية مرورا بالصناعية الرأسمالية التي كانا يعيشان في حقبتها، ورسما الطريقة التي يتحرك بها التاريخ والاتجاه الذي يسلكه، بناء على ما اعتبروه “قوانين تطور التاريخ”.
ما حدث في الحقيقة هو أن نظريتهما لم تكن ثابتة ولا علمية، فالثورات، أو الثورات المناهضة للرأسمالية بالأخص، لم تندلع في كل مكان، وفي ذروة انتشار ما يسمى الكتلة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك 17 أو 18 دولة اشتراكية، انخفضت إلى 4 أو 5 دول تعرّف نفسها كدول شيوعية تعيش تحت دكتاتورية الحزب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990.
لذلك توجد شكوك خطيرة تحوم حول المقولة التي تعتقد أن البشرية تسير دون انحراف نحو اتجاه معين، وقد دحضت تجريبيا، واعترض على منهجيتها علماء أنثروبولوجيا بارزون، بل اتفقوا -إلى جانب علماء الاجتماع التاريخي- إلى حد كبير على المقولة الموجزة التي قدمها إرنست غيلنر بأن البشر حيوانات غير مبرمجة، بمعنى أن ردة فعلهم لن تكون موحدة تجاه تحدٍّ معين.

ما يفعله المؤرخون الأكاديميون الجادون والعلميون اليوم هو أنهم يدرسون التاريخ، ويستخلصون منه ما يمكن تسميته بالدروس، ففي مسألة الإنفاق العسكري مثلا، يمكننا القول، كما قال إدوارد كينيدي في كتابه الشهير عن القوى العظمى، إن الإنفاق العسكري المفرط ضار بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، فإذا كنت تستثمر كثيرًا في الحروب المحتملة، فأنت لا تضع استثمارات كافية في الاقتصاد.
يمكن تسمية هذا درسا تاريخيا، ويمكن القول إنه في المستقبل، بغض النظر عن عوامل أخرى، ستكون الاقتصادات المتقدمة والقوية والمتقدمة في وضع أفضل إذا تمكنت بطريقة ما من إبقاء إنفاقها العسكري أقل من عتبة معينة، حتى تتمكن من الاستثمار بشكل أكبر في الرعاية الاجتماعية الشاملة، أو بعبارة أخرى، يمكننا القول إن العسكرة المفرطة سيئة، هذا أمر يمكن التنبؤ به.
بناءً على دراسة تاريخ القرن 19 وأوائل القرن 20 وحتى التاريخ الحديث، يمكن للمؤرخين القول إن معظم هذه الجهود ستؤدي على الأرجح إلى معاناة إنسانية لا تصدق، لذلك كان بإمكاني بسهولة أن أتنبأ بما يحدث في أوكرانيا.
أعني أن هذا ليس تنبؤًا بالاتجاه العام للتاريخ، لكن كان واضحا إلى حد ما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه أيديولوجية قومية متطرفة ووحدوية حول محاولة إحياء العظمة السابقة للإمبراطورية الروسية، أو الاتحاد السوفياتي، وأنه بسبب هذه الأيديولوجية القومية سيهاجم أوكرانيا في النهاية ويبدأ حربًا جديدة.
يمكن إجراء هذا النوع من التنبؤ حول حدث فعلي والكارثة المحتملة عنه، وفي الأغلب فإن المؤرخين جيدون عموما في التنبؤ بالكوارث، لكنهم ليسوا جيدين جدًا في التنبؤ بالجنة، وعلى نحو مماثل، خذ مثلا حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل في غزة، فقد كان بالإمكان التنبؤ بها.
أعتقد أن هناك حلاً واقعياً واحدا في الشرق الأوسط، وهو حل الدولتين، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأيديولوجية اليمين الإسرائيلي وسياساتهما على مدى السنوات 10 أو 15 الماضية، استندت إلى رفض حل الدولتين والضغط على الفلسطينيين أكثر فأكثر حتى دفعهم إلى حالة من اليأس التام، الذي بدوره يجر إلى انفجار عنيف يستدعي عنفا أكبر بكثير من جانب الدولة الإسرائيلية.

دعني أكرر مرة أخرى أنني لا أتحدث عن الاتجاه العام للتاريخ، ولكني أقول إنه إذا واصلتَ ارتكاب خطأ ما، فمن المرجح أن تحصل على نفس النتيجة، وهذا ما نشهده اليوم، والمؤرخون جيدون جدًا في هذا النوع من التنبؤ، ولكن لسوء الحظ لا يستمع إليهم أحد، هم مثل كاساندرا في الأساطير اليونانية القديمة.

 

  • كيف يتطور التاريخ؟

التطور والتقدم مفهومان مختلفان، فالتطور أشبه بمصطلح محايد أو موضوعي، والتقدم فيه نوع من القيمة، لذا فإن المجتمعات البشرية تتطور، بمعنى أنها تنتقل من البسيط إلى المعقد، ومن الأقل تعقيدًا إلى الأكثر تعقيدًا، من السابق إلى اللاحق، من مستويات أدنى من التطور إلى مستويات أعلى من التطور، فلا شك على الإطلاق في أن هناك تطورًا بطريقة أو بأخرى في التاريخ البشري.
لكن أي نوع من التطور؟ على سبيل المثال، إن أردنا تمثيل هذا التطور بصريًا، هل هو مثل منحنًى سلس؟ أي هل يتسارع طوال الوقت أم يتباطأ طوال الوقت؟ أم أنه في ارتفاع، ولكن بين الحين والآخر يتراجع ثم يرتفع مرة أخرى؟ بحيث يرتفع في مجمله إلى حد ما ثم ينخفض؟ هو شيء من هذا القبيل.. ازدهار ثم انحدار.

الرسومات التوضيحية لنظريات تطور التاريخ

كان القرن 19 قرنًا متفائلا بشكل لا يصدق، بدءًا بالثورة الصناعية ثم الانفجار الهائل للاكتشافات العلمية والتطور التكنولوجي والاقتصادي، وهو ما أدى إلى إنشاء أول المجتمعات الصناعية في العالم، وخلق الرفاهية الأولية، والبدء في نشر الرفاهية في كل مكان، رغم الاختلافات الهائلة بين البرجوازية والطبقة العاملة، لكن كان هناك انتشار تدريجي لما قد نسميه الرفاهية الصناعية الأولية والازدهار في النصف الثاني من القرن 19.
هناك دائماً نهاية سعيدة على نطاق واسع، نتيجة منتصرة من حيث الحضارة، لذا فهو قرن عظيم من التفاؤل، وكانت رؤية القرن 19 عبارة عن خط مستقيم أو خط ذي تصاعد متزايد، أو منحنى سلس ذي تصاعد متزايد. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى والفاشية والنازية والستالينية والحرب العالمية الثانية والمحرقة ومعسكرات الاعتقال والتسلح النووي، ولم يعد لدينا اليوم سوى القليل من هذا التفاؤل الذي كان سائداً في ذلك القرن.
لذا أولاً، نميل إلى حصر أنفسنا في التطور وعدم الانخراط حقاً في الشعور بالتقدم، أو ربما في أسطورة التقدم أو إضفاء المثالية عليه، ولكن في الإجمال، هناك منحنى صاعد. من الواضح أننا لم نعد في العصر الحجري، ومن الواضح أننا لم نعد في اقتصاد فلاحي من العصور الوسطى، ومن الواضح أننا قادرون على الذهاب إلى الفضاء الخارجي، ومن الواضح أننا حاولنا على مدى أكثر من 200 عام أو نحو ذلك تطوير شيء يسمى الديمقراطية، أو شيء يسمى دولة القانون، حتى مع التعرجات، فنحن نتقدم.
في أواخر القرن 20، قال عالم الاقتصاد الشهير في جامعة كامبريدج والحائز على جائزة نوبل، أمارتيا كومارسن، إن المكسب الأهم في القرن 20 هو أن الديمقراطية أصبحت لا رجعة فيها، وأصبحت مبدأ مقبولا عالميًّا.
لكن من الواضح جدًا على مدى الأعوام 15 أو 20 الماضية أن الديمقراطية دخلت في أزمة مرة أخرى، حتى في الولايات المتحدة حيث ترامب، وفي الصين حيث شي جين بينغ، وبوتين في روسيا، ولوكاشينكو في بيلاروسيا، وأوربان في المجر، ومودي في الهند، وفي كل مكان تتزايد فيه القومية تتزايد فيه الأنظمة المناهضة للديمقراطية، إنهم لا يسيئون استخدام الديمقراطية فحسب، بل يحتقرونها علنا.

مرحلة الأزمة وانحدار الديمقراطية هذه شبيهة في الواقع بما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1914، لم يكن هناك سوى خمس جمهوريات في أوروبا كلها، ثم خلال العامين 1918 و1919، أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أصبح عدد الجمهوريات 18 جمهورية، لماذا؟ لأن الإمبراطورية النمساوية تحطمت، وروسيا القيصرية تحطمت بالثورة، والإمبراطورية العثمانية تحطمت، وظهرت كل هذه الدول القومية الجديدة التي تبنت الدساتير وأعلنت عن الجمهوريات. لذا كان هناك في البداية انتعاش للديمقراطية، لكنها تحولت بسرعة كبيرة إلى نقيضها.
أعني أنني لا أعتقد أن أي شخص يستطيع أن يقول اليوم بثقة إن العالم يتجه نحو الديمقراطية، لا يمكن أن يكون هذا إلا تفكيراً مثاليا في هذه المرحلة، لذا، مع كل خطوة نخطوها نحو المستقبل، ومع كل خطوة نتخذها نحو المستقبل، أو سياسة نتبعها، فإن بعض الأبواب تنفتح وبعض الأبواب تغلق، “لن تحصل أبداً على وجبة مجانية”، ولن تحصل أبداً على شيء بلا مقابل، وسواء أدركت ذلك أم لا، فإنك تدفع الثمن دائماً.

 

  • لماذا نتحدث عن تاريخ واحد؟ لماذا لا نتحدث عن تواريخ مختلفة توثق مرحلة صعود أمة وانحدار أخرى؟

لا أعتقد أن هذا سؤال صعب للغاية، فالتاريخ ككل هو في الواقع إضافة معقدة وتشابك للعديد من التواريخ الفردية، فنحن قادرون على التمييز بين اثنين: التاريخ العثماني على سبيل المثال هو تاريخ فردي، وأوروبا في العصور الوسطى تاريخ فردي آخر، والإمبراطورية البريطانية تاريخ فردي ثالث، أيًا كان، فهذه خيوط أخرى لا حصر لها.
نحن قادرون على رؤيتها بشكل فردي وفي السياق الأوسع للتاريخ العالمي، وقادرون على قول شيء ما عن التاريخ العالمي بشكل عام وكذلك عن التواريخ الفردية، فانحدار الإمبراطورية العثمانية وانهيارها النهائي في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 لا يعني بالضرورة، ولا يعني بالطبع، ولا يدل أبدا على انحدار التاريخ العالمي وانهياره النهائي، ربما قد يكون هناك نوع من التفكك في النُسج الاجتماعية أو الدولة أو الاقتصاد أو غير ذلك، بينما هناك تطور مستمر في التاريخ العالمي ككل.

أو قد تمر دولة أو حضارة معينة بمرحلة مشرقة في الوقت يعيش فيه العالم في ظلام عام أو تراجع أو انحدار هابط للتاريخ العالمي ككل، ولكن عندما نتحدث عن التطور، فإننا نتحدث عنه بمصطلحات كبيرة جدًا للتاريخ العالمي. يمكن أن ننظر إلى التاريخ العالمي كموضوع، دون إهمال كل أوجه عدم المساواة التي يحتويها، ولكن مع كل ذلك، نصل بطريقة ما إلى تقييم كلي على المستوى الجمعي.

 

  • هل تعتقد أن الأسلحة النووية ستمنع الصراعات الواسعة، ناهيك عن حرب عالمية محتملة؟

أعتقد أنه بالنظر إلى السنوات 75 أو 80 الماضية، يمكن القول إن للأسلحة النووية نوعا من التأثير المثبط والمقيد، ولكن دعنا نواجه الأمر، خطر الحرب النووية أكبر بكثير من أن تتمكن الدول، والقوى العظمى بشكل خاص، من التفكير فيه، فماذا يحدث إذا استخدم شخص ما، ربما عن طريق الخطأ أو بسبب سوء التقدير، ما يسمى الأسلحة النووية التكتيكية في الميدان، أي القنابل النووية الصغيرة على نطاق ميدان العمليات، وليس الأسلحة النووية الإستراتيجية؟ ستنشأ عتبة ضخمة، ليست مجرد عتبة للعنف، بل عتبة نفسية وسياسية هائلة، إذ ستصبح تحديًا من المستحيل تجاهله.
على سبيل المثال، لنتأمل ما يجري بين إسرائيل وإيران في الوقت الحالي، لو لم تكن هذه الحرب مميتة، ولو لم يكن الناس يموتون، لكان الأمر أشبه بلعبة، إنهما يتظاهران بالرد على بعضهما البعض، تغتال إسرائيل إسماعيل هنية أو حسن نصر الله، وتقول إيران إن هذا لا يمكن أن يمر دون عقاب، ثم تطلق إيران 180 صاروخاً باليستياً ضد إسرائيل، وهذه المرة يقول نتنياهو إن هذا لا يمكن أن يمر دون عقاب، وهكذا تتواصل الكثير من الخطابات الرنانة من الجانبين.

في الوقت نفسه، يوجه الطرفان لبعضهما البعض تحديات من النوع الذي لا يمكن تجاهله.. في الأساس يتظاهران بالرد، ولكنهما في الوقت نفسه يكبحان نفسيهما عن نوع أكبر كثيراً من الانتقام، إنهما يحجمان عن الرد، ويحرصان على عدم توجيه نوع من التحدي لا يمكن للطرف الآخر أن يتجاهله، والذي لا يملك الطرف الآخر خياراً آخر سوى الرد عليه بقوة كاملة.
إن استخدام الأسلحة النووية ليس بهذه الطريقة.. أعني أنه إذا استخدم أي طرف في أي صراع أسلحة نووية تكتيكية صغيرة، فذلك يعني اختراق سقف سياسي ونفسي، وهو أمر لا يمكن تجاهله، وبالتالي فإن الطرف الآخر، أياً كان، سيضطر إلى الرد بطريقة أو بأخرى، وعندها ستندلع جولة أخرى من التصعيد، وربما أيضاً من الناحية النووية.
لذا فإنني أتفق على أن الأمر يتعلق بنوع مختلف من التكنولوجيا، ونوع مختلف من الأسلحة، التي من الأفضل الاحتفاظ بها كاحتياطي وعدم استخدامها، لأنها تشكل نوعا من أنواع الردع، ومن الأفضل الاحتفاظ بها كرادع بدلاً من استخدامها فعلياً.
لا أعتقد أنني أستطيع تخيل ما يسمى السلوك العقلاني لكوريا الشمالية أو النوع الكوري الشمالي من الدول، ففي أوكرانيا على سبيل المثال، وجّه بوتين في حربه العدوانية الحالية ضد أوكرانيا تهديدات نووية في المراحل الأولى من الصراع، خاصة عندما فشل في اجتياحها بسرعة كبيرة، لكنه تراجع، أو لنقل توقف عن إطلاق تهديداته لفترة طويلة، ثم عاد إليها مؤخرا.

MOCHOVCE, SLOVAKIA - NOVEMBER 6: A general view shows the cooling towers of the Mochovce nuclear power plant on November 6, 2023 in Mochovce, Slovakia. The key to Slovakia's nuclear strategy, Unit 3 of Slovakia's Mochovce NPP, has achieved 100 per cent power. The power plant is expected to cover 13 percent of the country's electricity needs, making Slovakia self-sufficient, according to the plant's administrator Branislav Strycek, CEO of Slovenske Elektrarne. (Photo by Janos Kummer/Getty Images)

النقطة هي أنه منذ عام 1945، كان لدينا نوع من السياسة الدولية بقواعد معروفة وراسخة، لفترة طويلة، كان الاتحاد السوفياتي موجودًا، وفي الصراع بين القوتين العظميَين، كان كل منهما حريصًا جدًا على عدم القيام بأشياء معينة.. مثلا كانت أوروبا المقسمة غير قابلة للمساس، الجزء الغربي كان مجال نفوذ الولايات المتحدة، وأوروبا الشرقية كانت مجال نفوذ السوفيات، وللجانبين أن يعملا على كسب دول خارج أوروبا، من خلال تنفيذ عمليات الاستيلاء العسكرية وتحريض التمردات والحروب الأهلية ومحاولة شراء النخب الحاكمة، كان كل شيء مسموحًا به تقريبًا، أما داخل أوروبا، فمن غير المسموح محاولة العبث بمنطقة نفوذ الطرف الآخر، بما يعني أن الأمر كان لعبة دبلوماسية دولية بقواعد معروفة وراسخة.
الآن لم يعد الأمر كذلك، لقد انهار النظام الدولي القديم، وتبخرت القواعد القديمة حول ما لا يمكنك فعله أو ما لا ينبغي لك فعله، والأمثلة أمامنا واضحة، الهجوم الإسرائيلي على غزة ولبنان، ورفض إسرائيل الاعتراف بالأمم المتحدة، حين أعلنت أمينَها العام شخصاً غير مرغوب فيه، إنه أمر لا يمكن تصوره، بصرف النظر عن رأيي الشخصي في حماس أو حزب الله أو إيران، لكن إسرائيل تتصرف وكأنها قاتل إقليمي، سواء في بيروت أو طهران أو في أي مكان آخر، والعالم كله يشاهد عاجزاً عن إيقافها، والطرف الوحيد القادر تقريباً على كبح جماح إسرائيل هو الولايات المتحدة، وهي لا تفعل ذلك.
وهذا يعني أنه عندما تحاول الإجابة على سؤال مثل تأثير الأسلحة النووية، فإنك تحاول عزل هذا السؤال وتحاول الإجابة عليه على أساس أن كل شيء آخر متساوٍ، في حال تساوي كل شيء آخر، أي بغض النظر عن العوامل الثانوية، فإن وجود الأسلحة النووية في أيدي عدد صغير من القوى الرائدة، في اعتقادي، يقلل من خطر اندلاع حرب شاملة، ولكن ما يزيد من الخطر في هذه الحالة هو أن كل شيء آخر لم يعد متساوياً.. الأمر لا يتعلق بالأسلحة النووية نفسها، بل بمن يقرر إطلاقها.

 

  • لدينا الآن ثلاثة صراعات دولية على الأقل: الحرب الروسية الأوكرانية، والصراع في الشرق الأوسط، والصراعات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، وبشكل أساسي حول تايوان، فهل يمكننا القول إننا على أبواب حرب عالمية ثالثة؟

أعتقد أنها بدأت بالفعل، لقد كتبتُ ذلك صراحةً في الرأي العام التركي بأن الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل بمجرد أن هاجمت روسيا أوكرانيا، وقلت إن هذه في الواقع بداية الحرب العالمية الثالثة، لكن دعني أشرح ما أقصده تماما.
يعتقد الناس أن الحرب العالمية الثانية بدأت في الأول من سبتمبر/أيلول 1939، عندما هاجمت ألمانيا بولندا، ولكن قبل ذلك في أواخر عام 1938، غزت ألمانيا النازية تشيكوسلوفاكيا واحتلتها، وقبل ذلك في أوائل العام نفسه، ضمت ألمانيا النازية النمسا إلى أراضيها، وقبل ذلك، انتهكت ألمانيا النازية معاهدة فرساي للسلام وبدأت في إعادة التسليح على نطاق واسع، وغزت منطقة الرور وأعادت تسليحها وقالت إنها منذ تلك اللحظة ستتجاهل جميع معاهدات نزع السلاح. وفي شرق آسيا خلقت اليابان حادثة موكدين وبدأت في مهاجمة منشوريا والصين، كما هاجمت إيطاليا ألبانيا وغزتها واحتلتها، ثم تسببت في حادثة على الحدود بين إريتريا وإثيوبيا بدأت من خلالها في غزو واحتلال إثيوبيا، التي كانت تسمى آنذاك الحبشة.
لذا بغض النظر عما يحدث في غزة، فإن التصعيد المستمر للصراع الأميركي الصيني حول تايوان في الشرق، والهجوم الروسي الهائل على أوكرانيا في الغرب، هما سببان جليان بالنسبة لي لأقول إننا نمر بمرحلة تشبه إلى حد كبير ما حدث بين عامي 1934 و1939، قبل الهجوم النازي على بولندا، بمعنى أنه في ذلك الوقت، كانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت بالفعل، لكنها لم تتحول بعد إلى حريق كامل ومباشر ورسمي بين القوى العظمى، وكان الأمر أشبه بحروب صغيرة وحروب بالوكالة تتراكم تدريجيًا حتى وصلت إلى الحريق الرئيسي، والوضع اليوم مشابه للغاية.

وعلاوة على ذلك، هناك العدوان الإسرائيلي الشامل والجامح وغير المقيد في الشرق الأوسط، وكما قلت آنفا بأنها تخلق خطرًا هائلا يتمثل في صراع نووي أو شبه نووي، أو نووي من جانب واحد، بين إسرائيل وإيران، خاصة إذا انتُخب ترامب بطريقة ما في الولايات المتحدة، فإنني أخشى بشدة أن يتمكن نتنياهو وترامب معًا من تدبير نوع من المؤامرة لشن هجوم نووي على إيران، أخشى ذلك بشدة.
لقد كانت إسرائيل، وخاصة نتنياهو واليمين الإسرائيلي، يضغطان بشدة على الإدارات الأميركية لعقود من الزمن كي تسمح بالقيام بذلك، أو بشن هجوم شامل وعنيف للغاية على إيران بهدف تدمير القدرة النووية الإيرانية.
وبالطبع، لن تقبل الإدارات الديمقراطية أيًا من ذلك، ولكن إذا انتُخِب ترامب مرة أخرى، ونحن نعلم أن ترامب كان معاديا للغاية لكل الاتفاقيات أو التسويات مع إيران، فما يمكن أن يفعله ترامب ونتنياهو معا أمرٌ مرعب.
من الخطأ أن نتوقع أنه في تصعيدات متعددة من هذا النوع، سيستمر كل جانب في التصرف بطريقة هادئة ورصينة ومنضبطة وعقلانية. هناك هذا النهج شبه الفكاهي الذي اتبعه المؤرخون في التعامل مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وتحديدا بعد أزمة الصيف إثر اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته في سراييفو على يد القوميين الصرب، حينها اعتبر العديد من المؤرخين ذلك حالةً من هز الذيل للكلب، والمضحك أن الكلب هو من يهز ذيله عادة.

  • السؤال5: بالحديث عن الفاعلين من غير الدولة وحروب الوكالة، نرى اليوم حروب الوكالة في كل مكان، ليس فقط من جانب إيران، بل وأيضًا من جانب روسيا عبر مجموعة فاغنر، وقبل ذلك، من جانب الولايات المتحدة عبر بلاك ووتر، فهل نستطيع أن نقول إن الحرب ستتوقف عند هذا المستوى؟ وأن كل قوة عظمى لديها وكلاؤها لتنفيذ الحرب بدلاً منها وتجنب الصراع المباشر بين الجيوش النظامية؟

هذا نظريا، ولكن ما يحدث هو أن كل هذه الجهات الفاعلة غير الحكومية أو “الوكلاء” يتورطون أكثر فأكثر في المشكلة، ويميلون إلى جر أسيادهم، إذا جاز التعبير، إلى هذه المشكلة أكثر فأكثر. أعني أنه في كل يوم تستمر فيه إسرائيل مثلا في مهاجمة الشمال والجنوب، تتورط الولايات المتحدة أكثر فأكثر، ونحن نرى هذا الوضع الغريب. من الواضح أن الإدارة الأميركية تحاول وضع المكابح، وتحاول احتواء إسرائيل، لكن هذا مستحيل، فإسرائيل تتجاهل تماماً تحذيرات الولايات المتحدة، وهو ما ينجر عنه غرقها في الأمر أكثر مما ينبغي.
إذا كنت تفكر في كل هذه الحروب بالوكالة، أو كل هذه المنظمات الثانوية التابعة، كنوع من شبكة الطوربيد لحماية البوارج الكبيرة، فإنها اليوم تتآكل، وتختفي تدريجيا، بحيث تُترَك القوى الرئيسية بشكل متزايد في مواجهة بعضها البعض. لذلك لا أعرف، ولا أستطيع أن أقول: إلى متى ستتمكن الفواعل من غير الدولة من لعب دور العازل؟.. أعني أنها ستتوقف ذات يوم، وربما تنهار، أو ربما تتجاهل الأطراف الرئيسية وجودها، وتواجه بعضها البعض مباشرة.

ومن نافلة القول إن الديمقراطيات الغربية أكثر وعياً بمخاطر الحرب، إلى جانب كل عيوبها ونفاقها، لكنها تتمتع بدرجة عالية جدًا من المساءلة العامة، وكذلك الشفافية الصحفية، هاتان الميزتان حاسمتان، بمعنى أنه يمكننا القول إنها أكثر عقلانية لتجنب حرب مباشرة، لكن هل يمكننا أن نقول أيضاً إن هذه البلدان ستستمر في استخدام الوكلاء بدلاً من الذهاب إلى صراع مباشر؟ لستُ متأكدا.

 

  • هل أصبحت الأمم المتحدة في كل هذه الخريطة غير فعالة؟

نعم، أصبحت غير قادرة على القيام بوظيفتها فهي نتاج الحرب العالمية الثانية، إنها نتاج عام 1945، حين تأسست من قبل 50 عضوًا مؤسسًا فقط، وكان بعضهم في الواقع أعضاء في الاتحاد السوفياتي، لذا، من حيث التوازن الدولي، تم العثور على طريقة لعدم اعتبار الاتحاد السوفياتي دولة واحدة، بل دولتان أو ثلاث أو أربع دول.
اليوم أصبح عدد أعضائها يقارب 200 عضو، ومن أين جاءت الدول 150 الجديدة؟ لقد أتت من فترة إنهاء الاستعمار، وأين كانت في عام 1945؟ كانت جميعها جزءًا من الإمبراطوريات الاستعمارية البريطانية أو الفرنسية أو الهولندية أو الإسبانية أو البرتغالية أو جزءًا من الاتحاد السوفياتي، ومع استقلالها، ومع تحقيقها للسيادة الوطنية، أصبحت أعضاء في الجمعية العامة.
أصبحت الجمعية العامة أكبر وأكبر، وظلت كل القوة، من حيث الشروط التي تلت عام 1945 مباشرة، متركزة في أيدي الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، الذين يعرفون بالفائزين في الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين والاتحاد السوفياتي.

اليوم أصبح هذا التحالف الكبير الذي انتصر في الحرب العالمية الثانية منقسماً داخل نفسه، حتى إن القوى الغربية اليوم أصبحت على جانب واحد، وروسيا والصين أصبحتا على الجانب الآخر، حيث تستخدم الولايات المتحدة وروسيا أو الصين حق النقض باستمرار ضد بعضهما البعض بشأن أكثر الأمور أهمية وحساسية، وبينهما أصبحت الجمعية العامة عاجزة إلى حد كبير.
أعني أن الجمعية العامة كان لها، على سبيل المثال، موقف بشأن مسألة إسرائيل، فالغالبية العظمى من أعضاء الأمم المتحدة معادون بشكل واضح لسياسات إسرائيل وعدوانها، وإسرائيل ترفض الاعتراف بذلك، حتى أصبحت إدانة إسرائيل دون أي تأثير واضح أو عملي مقابل ما تفعله الولايات المتحدة في مجلس الأمن.
أعتقد أن الأوان قد فات لإصلاح الأمم المتحدة، وكان ينبغي لها أن تعمل على إصلاح نفسها مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ربما كانت تلك الفرصة الذهبية، ولكن لم تكن هناك قيادة بعيدة النظر في الغرب أو في العالم بشكل عام؛ قادرة على رؤية ذلك وإطلاق هذا النوع من المبادرات.
إننا نريد أن ننشئ أمماً متحدة أكثر ديمقراطية وشمولا على المستوى الدولي، والآن، في لحظة التصعيد هذه، أصبح الأمر بالغ الصعوبة، ولا يوجد سوى طريقة واحدة قد تجعل هذا يحدث في الأمد القريب أو المتوسط.
مؤسسة الحكم العالمي بعد الحرب العالمية الأولى كانت عصبة الأمم، التي أصبحت عقيمة بسرعة كبيرة في مواجهة صعود الفاشية والنازية واليابان العسكرية، ثم أنشئت الأمم المتحدة في محاولة جديدة وأفضل بكثير في البداية، لحكم العالم في عام 1945، ولكن على مدار السنوات 80 التالية، أصبح هذا النظام أيضًا عقيما، فهو يحتاج إلى إصلاح، لكن ديناميكيات الإصلاح وظروفه غير موجودة، كما وقع بعد الحرب العالمية الثانية مع عصبة الأمم.. لكن، ربما تؤدي حلحلة الأمور في جنوب روسيا والشرق الأوسط إلى مواءمة الظروف لتغيير جذري في الأمم المتحدة.

 

  • هل يمكن أن نصدق تنبؤات مفكرين، بينهم غربيون، حول أفول الولايات المتحدة؟ هل يمكن القول إنها في طريقها إلى الانهيار؟

لا أعتقد ذلك، فهيمنة الولايات المتحدة تتآكل لأسباب سبق أن أشرت إليها، فهي بدلا من أن تضع نفسها في إطار خطابها الخاص، وفي موقع المدافع الشامل عن حقوق الإنسان العالمية والديمقراطية، كما حدث مع بعض الرؤساء الأميركيين الديمقراطيين في الماضي، وبلغ ذروته مع باراك أوباما، وبدلا من أن تؤمن بمستقبل الديمقراطية، وأن تبني على هذا الوعد، فإنها تحكم على نفسها بشكل متزايد؛ بنوع ضيق للغاية من التبعية، كما يتجلى في سياستها في الشرق الأوسط على سبيل المثال، بمعنى أنها فقدت مرونتها مع التطورات العالمية، وهذا يؤدي إلى تآكل هائل للقوة والنفوذ الأميركيين في مختلف أنحاء العالم، وهذا ما نشهده الآن.

هناك التحدي المتمثل في الصين، إلى جانب مساحة النفوذ المتاحة في الدول 150 الجديدة، أو ما كان يسمى في السابق العالم الثالث والشرق الأوسط، وهذا كله يسبب الاستنزاف الذي يصعب معه أن تستعيد الولايات المتحدة موقع الهيمنة الذي تمتعت به في الخمسينيات أو الستينيات.
ما ينبغي للولايات المتحدة أن تفعله اليوم هو بناء مجموعة جديدة من التحالفات الأوسع نطاقاً لخلق نوع من الجبهة الديمقراطية الدولية ضد صعود الدكتاتوريات الجديدة، والأنظمة الاستبدادية الجديدة، والقوميات الجديدة، ولكن في الوقت الحالي، يبدو أنها تفتقر تماماً إلى الرؤية والطموح اللازمين للقيام بذلك.. نعم قوتها تتآكل بالفعل، لكنها ليست قريبة من الانهيار.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *