يُعرض فيلم “القصة الرائعة لهنري شوغر” (The Wonderful Story of Henry Sugar) حاليا على منصة “نتفليكس”، وهو العمل الأول في رباعية من الأفلام القصيرة المقتبسة من أدب الكاتب والسيناريست البريطاني روالد دال.
عمل المخرج الأميركي ويس أندرسون مع روالد دال مرة واحدة من قبل في فيلم الرسوم المتحركة “مستر فوكس الرائع” (Fantastic Mr. Fox)، لكن مشروع “القصة الرائعة لهنري شوغر” كان أكثر صعوبة على المخرج الذي رغب في تقديم صورة هي أقرب ما يكون إلى العالم القصصي لدال، الأمر الذي تطلب انتظار كل هذه السنوات، حتى وصل إلى الأسلوب المناسب.
في النهاية اختار أندرسون صيغة الفيلم القصير لـ “القصة الرائعة لهنري شوغر”، وقدمها مع قصص أخرى كتبها دال في أوقات مختلفة هم “البجعة” (The Swan)، و”صائد الفئران” (The Ratcatcher)، و”السم” (Poison)، جمع بينهم أسلوب أندرسون السينمائي، والنجوم الذين شاركوا فيهم جميعا وتبادلوا الأدوار، وهم رالف فينس وبينديكت كمبرباتش وديف باتيل وبن كينغسلي وريتشارد أيواد.
وتعود حيرة أندرسون هذه السنوات الطويلة إلى محاولته إبراز أسلوب دال في الفيلم بشكل واضح، فقرر في النهاية وضع دال بالفعل داخل الأفلام، إذ ظهر في بداية كل فيلم -وقد أدى دوره الممثل البريطاني رالف فينس- جالسا في غرفة يروي الحكاية للمشاهد، بالإضافة إلى راوٍ من داخل العالم الفيلمي يتحدث مباشرة مع الكاميرا.
تدور الأفلام الأربعة القصيرة حول فكرة الكشف عن الذات وحقيقتها، ففي الفيلم الأول يكتشف البطل هنري مصادفة طريقة للتأمل تجعل صاحبها يرى كل ما هو خفي، فيكرس سنوات من حياته لتعلم هذه الطريقة حتى يستخدمها للغش في ألعاب الورق. لكن بعد هذه الرحلة الطويلة من الدراسة -التي اضطر من أجلها لهجر العالم- يجد أن هدفه تغير، فلم يعد الشخص الانتهازي ذاته، بل اكتسب أخلاق سامية وتحول هدفه إلى مساعدة الآخرين بموهبته الجديدة.
أما في فيلم “السم”، فتبدأ القصة بالبطل نائما على سريره في إحدى المستعمرات البريطانية، ويشعر بثعبان يتحرك على جسمه، يتجمد، ويطلب المساعدة من أحد مجنديه، ثم من طبيب المعسكر، وكلاهما من أصول هندية.
بالفعل يبذل الرجلان محاولات مضنية لإنقاذه من اللدغة المنتظرة رغم أنهما لم يريا الثعبان حتى، متحملين صلف ووقاحة المريض، وفي النهاية عندما يكتشفون أن ذلك الثعبان ليس سوى وهم في خياله، يكون رد فعله الإهانات العنصرية، فيكشف عن طبيعته المؤذية ربما أكثر من الثعبان المتخيل.
أما في فيلم “البجعة”، فيعيش الطفل بيتر واتسون يوما صعبا بسبب زملائه المتنمرين، إذ يقيدونه في السكة الحديدية، ويضطر للانكماش حتى لا يقتله القطار المار، ثم يقتلون بجعة ويقطعون جناحيها، ويجبرونه على القفز من أعلى شجرة الصفصاف مرتديا الجناحين. يخضع بطلنا في البداية لتنمر المراهقين حاملي البندقية، لكن في النهاية يكتشف قوته الحقيقية وأنه قادر على مواجهة الظلم والتنمر.
وأخيرا في “صائد الفئران”، يحاول البطل صائد القوارض إبهار مخدوميه، فيقوم بالحيلة تلو الأخرى لكن لا يحصل على ردود الفعل المتوقعة، حتى يقوم بأكثر الأشياء تقززا، ليصل في النهاية إلى أنه تحول لفأر مثل تلك التي يحاول اصطيادها.
قصص أربع تبدو بسيطة لدرجة تصلح للأطفال، حولها أندرسون إلى أفلام مناسبة لكل الفئات العمرية، لتصبح مدخلا للصغار والكبار يدلفون من خلاله إلى عالم روالد دال المبهر في تفاصيله، وبطريقته المميزة في مزج الموعظة الأخلاقية بالإثارة والتسلية.
أسلوب ويس أندرسون السينمائي
ولفهم تطور أسلوب ويس أندرسون السينمائي، لا بد من مشاهدة أفلامه بالترتيب، وملاحظة كيف تحرر من القواعد السينمائية ووضع قواعده الخاصة. في أفلامه الأولى مثل “روكيت بوتيل” ( Bottle Rocket)، و”راشمور” (Rushmore)، تناول قصصا مشابهة لما قدمه لاحقا، أفلام عن شباب ورجال يصارعون مخاوفهم من صورهم الذهنية عن أنفسهم والصور الذهنية للآخرين عنهم، ويعانون من علاقات أسرية مفككة. في هذه الأفلام ينتصر المخرج للعائلة والمحبة، حتى لو بصورة سوداوية، وذلك باستخدام صورة سينمائية مميزة، تجمع بين تناسق الألوان وجرأتها.
وفي مرحلة لاحقة من أعماله، اشتد اهتمام أندرسون بالجانب البصري الذي نجد فيه التوازن بين الصورة والقصص، وذلك في الأفلام ما بين “ذا رويال تينيباوم” (The Royal Tenenbaums) عام 2001، و”مملكة بزوغ القمر” (Moonrise Kingdom) عام 2012، وفيها نرى الملامح البصرية نفسها التي تتكثف أكثر في الأفلام التالية، مثل تكوين الكادرات بطريقة تعكس التوازن الدقيق في المسافات، وحركة الكاميرا بشكل مسطح كما لو أن هذه الكوادر صور فوتوغرافية لا تحمل عمقا في المنظر، واستخدام ألوان محدودة عُرف بها بين محبيه.
لكن منذ 2014 وفيلمه شديد الشهرة والنجاح “فندق بودابست الكبير” (The Grand Budapest Hotel) وحتى أحدث أفلامه محل حديثنا اليوم “القصة الرائعة لهنري شوغر”، تحلل المخرج الأميركي من الأعراف التقليدية للحكي، وبدأ في التلاعب بالسرد، ففي فيلم “مدينة الكويكب” (Asteroid City)، استخدم أسلوب القصة داخل القصة، فقدم مسرحية تلفزيونية، وقصة تصويرها، وقصة كتابتها، وطرح فكرة مهمة حول أزمة المبدع وعلاقته المضطربة مع العمل الفني.
على الجانب الآخر في رباعية “القصة الرائعة لهنري”، يأخذنا إلى قلب عالم قصص اليافعين لكن هذه المرة مرسومة وملونة بصورة مبهرة على الشاشة.
يحمل أسلوب ويس أندرسون السينمائي في “القصة الرائعة لهنري شوغر” وأفلامه السابقة “مسرحة” متعمدة – أي ما يشبه فن المسرح – بعالمه ثنائي الأبعاد، والديكور الذي يتغير أمام أعين المشاهدين، ويبدو أن هذا الأسلوب لا يستمر فقط منذ عام 2014 وحتى الآن، لكنها يزداد تكثيفا ووضوحا مع كل عمل.
يصف المخرج الفرنسي روبرت بيرسون الممثلين بأنهم مجموعة من الأدوات التي يقوم المخرج باستخدامها، وهي الفكرة التي يمكن تطبيقها على أفلام أندرسون وتعامله مع ممثليه الذين يظهرون بشكل مختلف في أفلامه، فيجبرهم على عدم استخدام تعبيرات وجوههم -وهي من أهم وسائل تعبير الممثل- ليكونوا أبواقا تردد صوته الخاص، يتحركون بسلاسة حركة الكاميرا نفسها، أو الديكور الذي يتحرك من حولهم.
هذه الأسلوبية -على تميزها- يعتبرها البعض مثيرة للسخط، فهو في كل فيلم يبتعد أكثر عن السينما الدارجة والمألوفة، ويتخذ طريقة شديدة الفنية والتميز، الأمر الذي قد لا يرضي الجميع، ولكن بالتأكيد يجعل أندرسون مخرجا مبدعا يقل وجود أمثاله.
فيلم “القصة الرائعة لهنري شوغر” المعروض على “نتفليكس” الآن عمل يزيد الاستمتاع به وفهمه عند وضعه في سياق مشروع أندرسون السينمائي الخاص، كجزء من مسيرة “رائعة” مثل قصة “هنري” على حد سواء.