على رأس تلة في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، تبرز شجرة أرز طويلة هي الوحيدة من نوعها في المدينة.
الشجرة تجاور منزلا قديما مملوك لعائلة مقدسية وبات مقرا لإقامة دبلوماسي أيرلندي، ولكنه كان مقرا للقنصلية اللبنانية حتى عام 1967، حين أكملت إسرائيل احتلالها للمدينة.
وهذه لم تكن القنصلية العربية الوحيدة في المدينة حتى احتلالها، إذ توجد حتى الآن أبنية كانت قبل 1967 مقار للقنصليات المصرية والعراقية والسعودية والسورية.
غير أنه بعد ذلك العام اختفت القنصليات العربية وبقيت مقار قنصليات أخرى بينها التركية والفرنسية والبريطانية والإسبانية والبلجيكية والإيطالية والسويدية واليونانية.
وغالبية القنصليات التي كانت وتلك التي لا تزال قائمة، توجد حصرا في حي الشيخ جراح الذي يطلق عليه البعض “حي القنصليات”.
وتوجد بعض القنصليات في مبان مملوكة لعائلات مقدسية ثرية وأخرى في أبنية مملوكة لدول منذ عقود.
والعديد من القنصليات التي كانت في القدس حتى 1967، كانت توجد حتى عام 1948 في حي الطالبية الذي بات منذ ذلك الحين جزءا من القدس الغربية.
وحاليا تُعد منطقة القنصليات في حي الشيخ جراح من أغلى المناطق في القدس الشرقية من حيث ثمن المنازل أو إيجاراتها الشهرية.
ويفضل الكثير من الدبلوماسيين الأجانب استئجار منازل لهم في المنطقة التي فيها أيضا فندق الأمبسادور ومستشفى العيون والمستشفى الفرنسي.
وارتبط الحي بالذاكرة الجمعية لأهل القدس وفلسطين كرمز للحداثة التي أصابت المجتمع المقدسي قبل الاحتلال البريطاني بفترة طويلة، وعبّر الحي عن التغيير الكبير في نمط الحياة الثقافية والاجتماعية للشعب الفلسطيني، وكان الأكثر نموا بعد النكبة، والخيار الأمثل لمقار القنصليات والسفارات الأجنبية والمستشفيات والفنادق التي فقدت مبانيها غرب القدس.
منطقة مؤسسات
الخبير الفلسطيني في شؤون القدس خليل التفكجي قال للأناضول إن “هذه المنطقة كانت وما زالت طريق المواصلات العامة باتجاه الشمال، أي مدينة رام الله (وسط الضفة الغربية المحتلة) وغيرها من المدن، ولذلك كانت مرغوبة من قِبل الدبلوماسيين”.
وأضاف “وأيضا هي منطقة مملوكة لعائلات ثرية فلسطينية شيّدت الأبنية الجيدة ذات المستوى الثقافي الرفيع، وأيضا في ذلك الوقت كانت هناك قنصليات عديدة، بما فيها التركية والفرنسية والإسبانية وأيضا المؤسسات الحكومية والثقافية، وبالتالي هي تعد منطقة مؤسسات حكومية وخاصة ودبلوماسية، وأقيمت فيها عدة فنادق”.
وحاليا، لا توجد أي علامات على الأبنية تشير إلى القنصليات العربية التي كانت في الحي، ولكن كبار السن في المنطقة لا يزالون يذكرونها جيدا.
شجرة أرز لبنانية
ولا تزال البناية التي كانت قنصلية لبنان تحافظ على جماليتها، ولكن العلم المرفوع عليها حاليا هو علم أيرلندا، وإلى جانب البناية، توجد شجرة أرز ضخمة.
وهو يشير إلى البناية، قال التفكجي “كانت القنصلية اللبنانية هنا، وكما تشاهدون فإن جزءا من هذا التراث هو شجرة الأرز اللبنانية”.
وتابع “بقيت القنصلية اللبنانية في هذا المبنى حتى العام 1967 عندما تم إغلاقها، ولكن شجرة الأرز ما زالت موجودة حتى الآن لتكون شاهدة على ذلك التاريخ”.
إحدى البنايات الجميلة القريبة كانت حتى 1967 مقرا للقنصلية المصرية، بعد انتقالها إثر حرب 1948 من حي الطالبية في القدس الغربية.
وقال التفكجي “كانت القنصلية المصرية موجودة هنا في الشيخ جراح حتى 1967، وما بعد ذلك التاريخ أُغلقت ثم تحولت إلى مقر للقنصلية الفرنسية التي تستخدمها الآن كملحقية ثقافية واقتصادية”.
وعلى مقربة منها كانت توجد القنصلية السورية العامة في القدس، والتي تحولت اليوم لبناية تُستخدم مسكنا لعائلة فلسطينية.
العاصمة الثانية للأردن
وعلى مسافة غير بعيدة، كانت توجد القنصلية العراقية، التي توجدت في منزل لعائلة مقدسية، لا تزال تقيم فيه حتى الآن.
وهو يقف أمام المبنى، قال التفكجي “هنا كانت القنصلية العراقية قبل عام 1967، وكان هناك أيضا على مسافة ليست بعيدة منها القنصليات السعودية والمصرية والسورية واللبنانية وغيرها”.
ولفت إلى أن القدس الشرقية كانت العاصمة الثانية للأردن بعد العاصمة عمان، ولذلك أُطلق على المقار الدبلوماسية اسم قنصلية وليس سفارة.
وأردف أن “العاصمة الثانية للمملكة الأردنية الهاشمية كانت في القدس، وفيها انتشرت القنصليات، أما السفارات فكانت في العواصم الرئيسية، وهي في هذه الحالة عمان”.
منطقة استيطانية معزولة
التفكجي قال إن “القنصليات كانت كلها مستأجرة من عائلات مقدسية، بما فيها الحسيني والنشاشيبي وبركات وغيرها، والمنطقة كانت وما زالت هادئة، وهي بمثابة المركز الدبلوماسي وهي منطقة القنصليات”.
ومنطقة الشيخ جراح من المناطق الأكثر استهدافا بالاستيطان الإسرائيلي في القدس الشرقية المحتلة، التي يتمسك بها الفلسطينيون عاصمةً لدولتهم المأمولة، استنادا إلى قرارات الشرعية الدولية، التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للمدينة عام 1967 ولا بضمها إليها في 1981.
وبعد 3 سنوات من احتلال القدس الشرقية، صادق البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) عام 1970 على قانون يزعم وجود أراض وعقارات لليهود في الشيخ جراح، وادّعى أنهم تملكوا هذه الأراضي والعقارات قبل قيام إسرائيل.
ومنذ ذلك الحين تعاقبت الحكومات الإسرائيلية على زرع البؤر الاستيطانية وإحلال اليهود المتدينين “الحريديم” في قلب الحي بمسـتوطنة “شمعون هتصديق” ومسـتوطنة “فندق الشبرد” التي أقيمت عام 2011، ومقر قيادة شرطة الاحتلال وقيادة حرس الحدود ووزارة الداخلية الإسرائيلية التي تحاصر الوجود الفلسطيني بالحي.
و”ما يحدث في الشيخ جراح الآن هو تحويل هذه المنطقة من منطقة دبلوماسية إلى منطقة معزولة وتغيير معالمها سواء التاريخية أو المشهد العام”، وفق ما ختم التفكجي.