يُعد الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1935م) من أشهر روّاد الإصلاح الإسلامي في النصف الأول من القرن الـ20، فهو تلميذ الإمام محمد عبده، وأحد الذين تأثروا برؤيته للإصلاح في جسد الأمة الإسلامية، لا سيما من خلال نشر الثقافة الإسلامية والتربية وتطوير مناهج التعليم الديني والانفتاح على المفيد من الحضارة الغربية في مجال العلوم والمعارف.
ولد رشيد رضا في قرية القلمون القريبة من طرابلس الشام في لبنان عام 1865م، وفيها حفظ القرآن الكريم، وتعلم العلوم الشرعية والعربية وبعضا من العلوم التجريبية حتى أصبح مؤهلا للتدريس.
وبقي يعمل في قرى شمال لبنان، حتى بدأ في الاتصال بالشيخ محمد عبده الذي كان منفيا في لبنان بسبب اشتراكه في الثورة العُرابية، ثم قرر الهجرة إلى مصر التي رآها ميدانا أرحب للإصلاح الديني والثقافي والتربوي مقارنة بلبنان وبلاد الشام.
وحين نزل مصر في عام 1898م التزم شيخه الإمام محمد عبده، وتأثّر بطريقته في الإصلاح والدعوة، وابتعاده عن السياسة التي أضرته من بعد الاشتراك في ثورة عرابي، فرأى الشيخ أن يفتح مجلة تُكمل رسالة مجلة “العروة الوثقى” التي أنشأها شيخه محمد عبده مع الشيخ جمال الدين الأفغاني يوم كان في المنفى، ومنذ ذلك الحين بدأت “المنار” في الصدور.
كان أول ما نصح به الشيخ محمد عبده تلميذه محمد رشيد رضا أن يبتعد عن السياسة، لأن الخسارة فيها فادحة بالنسبة للمفكر المصلح، والأفضل أن يركّز في مجال التربية والتعليم والاجتماع ونشر الدعوة والتجديد في العلوم الإسلامية كالتفسير والفقه، ولا سيما وأن التقليد كان قد أضر بالمسلمين في ذلك الحين كما رأى الشيخ محمد عبده.
تأييد السلطان عبد الحميد
وبالتزامن مع تلك التطورات الشخصية التي مرّ بها الشيخ رشيد رضا وانتقاله من الشام إلى مصر، كانت الدولة العثمانية لا تزال تسيطر على بلاد الشام كلها حتى حدود مصر والجزيرة العربية، ولكن الإنجليز كانوا قد سيطروا على مصر سيطرة شبه مطلقة.
وفي مصر كان تأثير الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني الذي كان يحكم حينئذ كبيرا على الرغم من السيطرة السياسية للبريطانيين، ويمكننا أن نرى تأثير العثمانيين وموالاة المصريين لهذه الدولة من خلال الحزب الوطني الذي أنشأه الزعيم مصطفى كامل، وفي مواقف الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وحتى الشيخ رشيد رضا وغيرهم من علماء الأزهر.
وانطلاقا من قضية الإصلاح الديني رأى الشيخ رشيد رضا أن التحديات التي تواجه الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني، مثل التآمر الغربي الذي كان يسلب الأقطار العربية والعثمانية واحدة تلو أخرى، ولعب هذه القوى على ورقة القوميات والأقليات الدينية ودعمها بالمال والجواسيس للثورات لتنقلب على العثمانيين، ثم سعي قوى الاستعمار لتدمير الوحدة الإسلامية وإبقاء المسلمين في جُزر منعزلة، كل ذلك جعله متعاطفا مع السلطان عبد الحميد الثاني وجهوده في مقاومة ودفع هذه الأخطار.
ولا شك أن تخصصه الشرعي والديني جعله يرى السلطان عبد الحميد حاميا لوحدة المسلمين، والمدافع عن بيضة الإسلام، وكان يرى أن الدولة العثمانية هي خط الدفاع الأول عن المسلمين أمام المؤامرات الغربية متفقا مع شيخه محمد عبده الذي كان يقول إن “من له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فهي وحدها الحافظة لسلطان الدين، الكافلة لبقاء حوزته وليس للدين سلطان سواها”.
ولهذا السبب يمكننا من خلال التأمل في مقالات مجلة المنار أن نرى فيها هذا النفَس الداعم للدولة العثمانية وللسلطان عبد الحميد، لا سيما في السنوات السبعة الأولى، ففي افتتاحية المجلة يؤكد رشيد رضا أن توجهه ومجلته “عثمانية المشرب، حميدية اللهجة، تُحامي عن الدولة العلية بحق، وتخدم مولانا السلطان الأعظم بصِدق”.
وفي يوم جلوس السلطان عبد الحميد الـ23 كتب يقول “في مثل هذا اليوم بويع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين والسلطان الأعظم على جميع العثمانيين السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان (نصره الله تعالى وأيده) وهو يوم يحتفل فيه العثمانيون على اختلاف مِلَلهم ونِحَلهم، والمسلمون على اختلاف أقطارهم وحكوماتهم، ويظهرون فيه الابتهاج والسرور، ويزينون المعاهد والقصور”.
وسنرى الشيخ رشيد رضا يمدح المشاريع التي كانت تقوم بها الدولة العثمانية، ولا سيما التي تربط المسلمين ببعضهم، وعلى رأسها مشروع سكة حديد الحجاز الذي بُدئ العمل فيه منذ عام 1901م لربط الحجاز بالعاصمة إسطنبول، تيسيرا على الحُجّاج والمعتمرين.
وقد كتب في سبيل ذلك مقالة بعنوان “المشروع الحميدي الأعظم” تناول فيها أهمية هذا المشروع، وضرورة التبرع له من عموم الناس، حتى لا تكون الدولة العلية العثمانية تحت رحمة الحكومات الأجنبية ومخططاتها الخبيثة.
كما التفت رشيد رضا إلى الدور الكبير الذي كان يقوم به السلطان عبد الحميد في إنشاء المدارس والجامعات في العديد من الأقطار العثمانية والعربية تحديدا، مثل معهد تدريب الوعاظ والمرشدين الذي أقيم لإعداد الدعاة للجامعة الإسلامية، وإنشاء مدرسة العشائر العربية في الأستانة، والمدارس الحميدية في الأناضول وبلاد العرب وغيرها.
بل كان الشيخ رشيد رضا من أشد المتحمسين لفكرة “الجامعة الإسلامية” التي كان يسعى لتحقيقها السلطان عبد الحميد لكي يربط الشعوب الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال الغربي في الهند وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا بالسلطنة العثمانية، واعتباره “خليفة” المسلمين الساعي لتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة، وكان رشيد رضا يرى إمكانية تحقيق هذه الفكرة ومآلتها الكبيرة والضخمة للعالم الإسلامي.
يمكننا أن نلمس ذلك في كثير من المقالات التي كانت تتناول أحوال هذه الشعوب، ففي عدد مارس 1901م من المنار نراه يكتب عن “عريضة استرحام مسلمي بنغالة” في الهند، والتي أرسلوها للسلطان عبد الحميد الثاني طالبين منه أمرين:
- الأول، تعيين قنصل للدولة العثمانية في كلكتا لربطهم مباشرة بالدولة العثمانية.
- والثاني، مطالبتهم إدخال لغتهم الأوردية في مناهج التعليم العثمانية، لا سيما في مدرسة دار الفنون التي أنشأها السلطان في إسطنبول.
ويبدي رشيد رضا تأييده لهذين المطلبين قائلا “ونحن نستحسن هذا الطلب ونقول إن منافعه جليلة جدا في كلا الأمرين”.
رشيد رضا وانتقاد السلطان عبد الحميد
ولكن من اللافت أن موقف الشيخ رشيد رضا من السلطان عبد الحميد الثاني بدأ في التغيير تدريجيا من المدح والدعم المطلق إلى النقد والمعارضة، فحين كتب الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م) كتابيه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” و”أم القرى” وفيهما نقد واضح للدولة العثمانية ولعبد الحميد على المستويات الدينية والسياسية والثقافية والإدارية، تأثر رشيد رضا بهذه الآراء، بل نشرها في صفحات المنار.
وكان الكواكبي يرى أن البديل للإصلاح بمفاهيميه الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية هم العرب، لأسباب ثقافية ودينية وسياسية، وبسبب تغلغل الفساد والتخلف والاستبداد في الدولة العثمانية، ومنذ شرع رشيد رضا ينشر آراء الكواكبي في مجلته التبس على رجال السلطات العثمانية أن كلا الكتابين لم يكونا من تأليف الكواكبي فقط، بل عاونه في ذلك ابن الشام وصديقه الشيخ رشيد رضا.
والحق أن الشيخ رشيد رضا اعترف بتبنّيه آراء الكواكبي قائلا “وقد كنّا معه (أي الكواكبي) على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي (من رجال الدولة العثمانية) اتهمنا بتأليف الكتاب (أم القرى) عندما اطلع عليه”.
هذا الأمر جرّ عليه نقمة الرجال المؤثرين في السلطان عبد الحميد، وعلى رأسهم شيخه الصوفي السوري أبو الهدى الصيادي وعزت باشا العابد وغيرهم، حتى أصدروا قرارا بمنع توزيع مجلة المنار في بلاد الشام كلها، والقبض على أسرة الشيخ رشيد رضا في القلمون والتنكيل بها، بل إصدار قرار باعتقاله حيا أو ميتا.
وقبل وفاة شيخه محمد عبده سنة 1905م بعدة أشهر، كتب رشيد رضا رسالة ينتقد فيها أوضاع الدولة العثمانية أسماها “مالية الدولة العثمانية”، ولكن شيخه نصحه بعدم نشر هذه الرسالة لما فيها من نقد واعتراض، ولأن انتقاد الحكّام يؤثّر بصورة مباشرة في خدمات المصلحين في ميداني العلم والدين.
وقد التزم رضا بهذه النصيحة قائلا فيما بعد “ضقتُ ذرعا بسوء حالنا السياسية، فصرتُ أكثر في تفسير القرآن الحكيم من السياسة”.
والأمر العجيب أن العلاقات ساءت بين شيخه محمد عبده والدولة العثمانية التي ارتأى بعض رجالاتها أنه يسعى لإقامة خلافة عربية وقلب نظام الدولة العثمانية، وتولى تدبير هذه المؤامرة عزت باشا العابد وهو رجل شامي كان من الحاشية المقربة والتي ضمت أيضا الشيخ أبو الهدى الصيادي شيخ السلطان عبد الحميد.
وكان الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية الصوفية، وأحد الذين لا يَردُّ لهم عبد الحميد رأيًا، وهذه الجبهة كانت تعارض جمال الدين الأفغاني والكواكبي ورشيد رضا ومحمد عبده ودعاة الإصلاح والنهضة في العالم العربي، معتبرين إياهم خطرا يهدد وحدة وسلامة الدولة العثمانية.
ولما توفي الشيخ محمد عبده سنة 1905م دخل رشيد رضا ميدان السياسة جهارا، وأصبح أكثر جرأة في نقد مواطن الخلل في الدولة العثمانية، وشرح سياسته الجديدة هذه قائلا “كان يصل إلينا قليل من أخبار الاستبداد ووقائع العتو والإفساد بعد وفاة الأستاذ الإمام صرفنا وقت الفراغ والراحة الذي كنّا نجالسه فيه إلى مجالسة إخواننا العثمانيين المقيمين في القاهرة، فازددنا علما بسوء الحال، وخطر المآل”.
كان رشيد رضا يسعى بكل قوة إلى إصلاح الخلل السياسي في الدولة العثمانية في العقد الأول من القرن الـ20، ورأى ضرورة تفعيل الشورى بين أجناس الدولة العثمانية، وتقريب العرب، والأخذ على أيدي ولاة الدولة الفاسدين، وبعض شيوخها النافذين ممن أسهم تدخلهم في إفساد الأوضاع السياسية في الدولة عامة، وفي بلاد الشام خاصّة.
ولهذا السبب اتفقت آراء العثمانيين في مصر ورشيد رضا منهم على تشكيل لجنة أطلقوا عليها اسم “جمعية الشورى العثمانية”، وتولى رشيد رضا رئاستها، وبدأت هذه الجمعية تُرسل منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية.
وعرف السلطان عبد الحميد بأمر هذه الجمعية، وشعر بالقلق منها لأنه قاسها بجمعية “الاتحاد والترقي” من شباب تركيا الساخط على حكم عبد الحميد، والمطالب بالنموذج السياسي الأوروبي، بل إن مندوبا من “الاتحاد والترقي” جاء وقابل رشيد رضا في القاهرة لدمج جمعيته معهم، وتوحيد العمل ضد السلطان عبد الحميد.
ولكن رشيد رضا رفض هذه الدعوة، ورأى كما يوضح أن “تعدد الجمعيات مع وحدة الغاية والمقصد لا يعد تفرقا، ولا يُحدث ضعفا، وإننا نرى أنه لا نجاح للعثمانيين إلا باتفاق عناصرهم على المطالبة بالدستور”.
ولكن يبدو لنا أن رفض رشيد رضا الانضمام إلى هذه الجمعية كان نابعا من أمرين أساسيين، الأول اقتصار هذه الجمعية على شباب الأتراك فقط، والسبب الثاني أنه كان يسعى لإصلاح الدولة العثمانية من الداخل منطلقا من رؤيته الإصلاحية الإسلامية، والمطالبة بالدستور وضرورة الشورى ومشاركة العرب في إدارة الدولة، وإقصاء أصحاب الأهواء والمصالح من حاشية السلطان المفسدين.
ويبدو أن التوجه القومي الطوراني والتغريبي الذي كان يسم أفكار جمعية “الاتحاد والترقي” جعله ينأى بنفسه عنهم، وربما لهذا السبب سنرى أن رشيد رضا سيبتعد أكثر وأكثر عن أفكار هذه الجمعية التي سيراها أحد الأسباب الرئيسية في تدمير العلاقات بين العرب والأتراك بعد سقوط السلطان عبد الحميد.
لكل هذه المسوغات كتب الشيخ رضا في افتتاحية المجلة في عددها الـ12 (فبراير 1909م) قبل شهرين من الانقلاب على عبد الحميد الثاني عن أخطر الأسباب التي أدت لفساد الأحوال في الدولة العثمانية قائلا “في هاتين السنتين كان الاستبداد قد شد الخناق على محبي العلم، والاضطهاد لمقتني الكتب، ومُنيت بيروت بخليل باشا واليا، وطرابلس بحسني بك متصرفا! وكانا من شر أعوان الاستبداد والمخلصين له فيما يحاول من الظلم والإفساد، فأسرفا في تفتيش البيوت! وأخذ الكتب والأوراق منها! والمؤاخذة على اقتنائها! حتى صار الناس يحرقون كتبهم وأوراقهم بالنار”.
اضطر السلطان عبد الحميد إلى إعادة مجلس المبعوثين (البرلمان) في عام 1908 ثم أصدر قرارا بإلغائه، فوقع الانقلاب عليه في أبريل/نيسان 1909، وانقضت فترة حكم السلطان عبد الحميد بعد أكثر من 30 عامًا قضاها في حكم الدولة العثمانية.
والحقائق التاريخية تثبت أنه استطاع تأخير سقوط الدولة العثمانية لفترة ليست بالقليلة، وأن يده الحديدية التي أدت لتقوية نفوذ جهاز المخابرات، واستطالة بعض حواشيه، واعتماده على الطرق الصوفية مثل أبي الهدى الصيادي وطريقته الرفاعية وغيرها كالنقشبندية والشاذلية، كان لصد الهجمة الغربية المضادة والآخذة في تفتيت العالم الإسلامي، والدولة العثمانية، ولكل هذه الأسباب كان الانقلاب عليه سقوطا للدولة العثمانية بالكلية فيما بعد.