يبدو لي الشعر في كثير من الأحيان كائنا حيا يلازم أصحاب الأرواح الشفيفة والقلوب الدافئة، إنه دثار الأيام الباردة وشعار الدافئة منها، إنه النسيم الذي يتهادى بين الأفئدة بثمار النفوس، وهو الحضن الوثير للهارب من تعب الأيام والباحث عن السلوى بالشبيه والنظير، وهو المرفأ للتائهين بين الكلمات والحالمين بعوالم أجمل وأرقى وأبعد أثرا. يقول أبو فراس الحمداني:
الشعر ديوان العرب *** أبدا وعنوان الأدب
لَمْ أعد فِيه مَفَاخري *** ومَديحَ آبائي النُّجُب
فلسفة حدّ الشعر وماهيته وتعريفه
يقول قُدامة بن جعفر (337هـ) في تعريف الشعر هو “قول موزون مُقفى يدل على معنى”، وقد أثّر تعريفه هذا فيمن جاء من بعده، وجعل حد الشعر مرتبطا بالوزن والقافية. أما ابن خلدون فيعرفه بقوله “هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به”، وهو بذلك يؤكد أهمية الأسلوب، ويحدد بُنية الشعر وقيامه على تماسك الأبيات الشعرية وارتباطها من جهة المعاني ارتباطا يضمن استقلالية كل بيت شعري، وتميزه من الآخر، وصلته الوثيقة بما قبله وما بعده في الوقت نفسه.
ويرى ابن رشيق القيرواني (456هـ) أن “الشعر يقوم بعد النيّة من 4 أشياء، وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حدّ الشعر، لأن من الكلام موزونا مُقَفى وليس بشعر، لعدم القصد والنية، كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك مما لم يطلق عليه أنه شعر”.
وقيل إن قواعد الشعر ودوافعه الرئيسة 4، هي الرهبة والرغبة والغضب والطرب، وترتبط هذه الدوافع ارتباطا مباشرا بمواضيع أساسية من مواضيع الشعر التقليدية، فالرهبة تكون سببا لموضوع الاعتذار وطلب العفو والاسترحام، والرغبة تحفز الشاعر ليكتب في غرض المديح، ومع الطرب تنشأ أشعار الغزل والنسيب، أما الغضب فيتدفق في عروق الشاعر ليصب في قالب شعري من هجاء وعتاب. وقد سأل عبد الملك بن مروان أرطأة بن سهية: هل تقول الشعر اليوم؟ فأجاب “والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أشرب، ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن”. وفي ذلك يقول الأصمعي نقلا عن ابن أبي طرفة “كفاك من الشعراء 4: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب”. وفي رواية أخرى “وامرؤ القيس إذا ركب”.
فالشعر باختصار بُنية متكاملة ومتسقة لفظا ومعنى، وفكرا وعاطفة، وشكلا ووزنا وقافية.
قصة البدايات
من الشائع المعروف أن الشعر العربي بدأ بوصفه دندنات وترانيم أقرب إلى الإنشاد والغناء، فكان التعبير الإنساني عما يجول في الفكر والقلب بقالب موسيقي قريب المأخذ بعيدا عن التعقيد. ويذكر أن فن الشعر عامة لدى مختلف الأمم نشأ غنائيا، فالشاعر الإغريقي الشهير هوميروس كان يلحّن أشعاره ويغنيها، وكذلك كان الأمر مع صنَّاجة العرب، الشاعر الجاهلي المعروف بالأعشى، صاحب إحدى المعلقات. ويؤكد حسان بن ثابت ارتباط الشعر بالغناء في قوله:
تَغَنَّ بالشِّعرِ إمّا كُنتَ قائِلَه إنَّ الغناء لهذا الشّعر مِضمارُ
كان الشعر لدى العرب في العصور الأولى حاجة أساسية تضاهي حاجتهم إلى المأكل والمشرب، حتى أُثر عن رسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال “لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين”.
وعن سبب تعلّق العرب بقول الشعر وانسيابه على ألسنتهم، يقول ابن رشيق “كان الكلام كله منثورا، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا، لأنهم شعروا به، أي: فطنوا”.
ومن الفطرة الإنسانية التي فُطر البشر عليها تلحين الكلام والدَّندنة به، فما بالكم بالعربي البدوي الذي خلت سليقته مما يشوبها وفطرته مما يشوّشها، فجرى الشعر على لسانه عذبا رقيقا موزونا بدون قصد أو دراية، ولم يعرف العرب علم العروض بأوزانه وبحوره ودقائقه وبوصفه علما متكاملا إلا على يدي الخليل بن أحمد الفراهيدي (173هـ). وقيل إن الشعر العربي بدأ بالبيت والبيتين حتى مجيء المُهَلهِل بن ربيعة الذي أطال الشعر وقصَّد القصيد، فخطّ بذلك الطريق لمن جاء بعده من الشعراء ومهّده لهم، حتى اكتملت بنية القصيدة العربية ووصلت إلى ذروتها في المعلقات السبع أو العشر.
إن أقدم ما وصلنا من الشعر العربي يعود إلى 150 عاما قبل الإسلام، وقد نقل عن أحد المؤرخين قوله إن “أقدم شعر وصل إلينا يعود إلى ما قبل 130 عاما قبل الهجرة”، ويشكِّك بصحة الرواية والنقل في كلّ ما ورد من شعر في حكاية الزير سالم، وتغريبة بني هلال، وقصة سيف بن ذي يزن، ويرى أنها أشعار موضوعة منحولة، ومن عمل الرواة في العهد الأموي، طمعا بانتشار أشعارهم وحظوتها لدى الناس وإن لم ترتبط بأسمائهم الحقيقية، ولم تعرف نسبتها إليهم.
وذهب فريق من الباحثين والمستشرقين إلى أن الشعر اتكأ في بداياته على السجع وانطلق منه، لكن ما الذي يجعلنا نطمئن إلى هذه الفرضية؟ لا سيما حين نسمع قول امرئ القيس، الشاعر الجاهلي المشهور الذي يقرّ بأسبقية ابن حذام في الوقوف على الأطلال والبكاء عليها وقول الشعر:
عُوجَا على الطَّللِ المَحِيلِ لعلَّنا
نَبكي الدِّيارَ كَما بَكَى ابنُ حِذام
لكن إذا ما تحدثنا عن أقدم الأوزان والبحور الشعرية، فيمكننا القول إن الرَّجز يعدّ أقدمها، لبساطة بُنيته وتكرار تفعيلاته وخفتها، لذلك ارتبط بحياة البدوي الذي كان ينشد الشعر في جميع أحواله، وهو يحدو الإبل، ويطوف حول الكعبة، ويسحب الأشطان من الآبار.
الشعر العربي بين العقل والعاطفة
أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال إن “من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة”، ونفهم من قوله هذا أن الشعر مزيج من الفكر والعاطفة، والحكمة والبيان والسحر والإدهاش، لذا فإنه يخاطب مداخل الإنسان، ويستهدف حواسه كلها، ويترك أثره فيها.
يقول الشاعر الإنجليزي شيلي، الشهير بقصيدته أغنية للريح الغربية، في وصف الشعر “القصيدة هي صورة الحياة نفسها، المعبرة عنها في حقيقتها الأبدية”، ويرى آخرون أن الشعر ليس صورة طبق الأصل عن الواقع، فهي صورة تعكسه، لكنها لا تطابقه تمام المطابقة، ففيها من نفس الشاعر ورؤاه ما يجعلها أقرب أو أبعد مما هي عليه في الحقيقة، إلا أن يكون شعرا مكتوبا بغرض التأريخ ونقل الأحداث بالدرجة الأولى. ويذهب جبران خليل جبران إلى أن الشعر ليس رأيا نعبر عنه بالألفاظ، بل هو “أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم”، ويعيدنا بذلك إلى فكرته الشهيرة عن الألم العبقري الذي يعدّه محرّك الإبداع ودافعه الرئيس، وفي مقولته هذه يؤكد فكرته جاعلا العاطفة بأنواعها وأشكالها المختلفة محرضا ودافعا لإبداع الشعر وكتابته، فالشاعر إما أن يحدثنا عن ألم يعتريه أو فرح يغمره، فينضح به روحه أدبا ويسيل شعرا. أما نجيب محفوظ فيذهب إلى ارتباط الشعر بالعاطفة، لكنه يقيّد ذلك بسكونها وهدوئها، إذ يقول “الشعر لا يعبر عن عاطفة إلّا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها”، وهذا يعني أن الشعر، وإن كان نتاج تأثر عاطفي، غير أنه خاضع لمحاكمات العقل للعاطفة المحركة للإبداع فهو المتحكم بها والموجه لها، ولا نتفق معه في هذه النقطة، فكثير من الأشعار إنما كانت نتيجة عواطف صارخة تكاد تتفجر الكلمات التي تحملها من ثورانها وهيجانها.
ويُعبر الشاعر أحمد شوقي عن رؤيته نحو الشعر قائلا “لا يزال الشعر عاطلا حتى تزينه الحكمة”، فالشعر بلا حكمة يخلو من الحليّ والزينة، وكأنه بذلك يؤكد انبعاثه من العقل معبرا عنه بالحكمة، ويكمل فيقول “ولا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر”، أي أن الحكمة بالشعر تزدان وتنتظم، وهو موئل مقامها وقالبها البديع. وأحمد شوقي في قوله هذا يخص أشعار الحكمة وما يقرب منها، ويغفل عن غيرها من أغراض الشعر الرئيسة، فليس كل الشعر حكمة، ولا يجعل ذلك منه عاطلا، فكم قرأنا غزلا لمجنون ليلى وجميل بثينة فابتهجنا بعيدا عن الحكمة في مسائل القلوب والهوى، وكم سمعنا من مدائح أثارت إعجابنا ومراثي بعثت أشجاننا، وكانت بعيدة كل البعد عن التعقل والحكمة. لكن شوقي نفسه يقول في موضع آخر من أشعاره:
والشِّعرُ إن لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة فهو تقطيعُ أوزانِ
إذن يقرّ أن الشعر قد يكون حديث قلب وبوح ذكرى، وقد يكون حديث عقل ومحاكمة فكرة، وما سوى ذلك فهو محض نظم فحسب، أي محض قوالب لفظية لا أصل ولا أثر لها في نفس الشاعر وفكره وعاطفته ووجدانه.
أما شاعر الثورة أبو القاسم الشابّي فيقول:
يا شعرُ أنت فمُ الشُّعورِ
وصرخةُ الرُّوحِ الكئيبْ
ويؤيده شاعر الياسمين نزار قباني فيما يذهب إليه، فالشعور وقود الشعر، وكلما صرخ الشعور وضرب في أعماق النفس قويت مَلكة الشاعر، فكيف إذا ما كان الشعور مدفوعا ببركان من غضب، فقد جاء في شعر نزار قوله:
الشِّعرُ ليس حمامات نُطيِّرُها
فوقَ السَّماءِ ولا نايًا وريحَ صبا
لكنَّهُ غضبٌ طالت أظافرُهُ
ما أجبنَ الشِّعر إن لم يركبِ الغضبا
إن الشّعر لبوس المشاعر ونتاج تفاعلها في نفوس الشعراء عظيمة كانت أو مرهفة، قوية صارخة كانت أو هادئة خافتة، طيبة دافئة كانت أو ثائرة هائجة مائجة.
وما بين العقل والعاطفة يمكننا القول إن الشعر لدى مختلف الأمم يعدّ فنا عاطفيا قائما على الخيال والإبداع والإيجاز، يخاطب النفس ويحمل تجاربها ويجعل منها معزوفة من ألحان ساحرة تحفز مشاعر المتلقين أو تحرك أشجانهم، فتصل إلى أفئدتهم فتعيها وتلتذ بها معنى وحسا. في حين يعد النثر عامة حاملا للتجارب الإنسانية بوجهها العقلي الحقيقي مهما ازدان بجمال اللغة والتعابير.