الحياة الواقعية تحت وطأة الصراعات.. المرأة اليمنية في أدب وجدي الأهدل

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

لتفاصيل الحياة المتعلقة بالمرأة اليمنية حضور حيوي في روايات الكاتب وجدي الأهدل. وبشكل محوري في تلك السياقات الروائية التي عمل فيها على تسريد ديناميكيات الحرب والصراع في اليمن. حيث يتسم حضور المرأة هذا بحيويته في التعاطي مع واقعية الحياة، التي تعيشها المرأة بوصفها الطرف الأضعف في معادلات الصراع عامة، وفي أنساق صراعها مع محيطها الاجتماعي وثقافته المنتصرة للذكر على حساب الأنثى بوجه خاص.

فقد استوعب منجز الأهدل الروائي صورا متعددة من علاقة المرأة مع محيطها الاجتماعي هذا سواء تلك المتعلقة بصراعها مع المشكلات العامة كتداعيات الحرب، والفقر، والعنف، أو ما يتعلق منها بصراعها مع المشكلات الخاصة، كالتحرش والاغتصاب، والاحتقار، وما في سياق ذلك من صور الصراع والحرب، التي تضمنتها هذه التجربة الأدبية.

سردية المرأة والفقر

تعاطت تجربة الأهدل الروائية مع سياق الفقر، الذي يهيمن على مجريات الحياة اليمنية منذ عقود. لا سيما ما يتعلق منه بمعاناة المرأة لإشكاليته الاجتماعية. من ذلك، ما نجده في صيغة الحياة، التي تعيشها شخصية “عاتكة”، في رواية “قوارب جبلية”:

“بجوار ضلفة باب اليمن الخشبية المخروقة بقذيفة من مدفع مجهول، جلست مفترشة التراب امرأة ارتداها السواد، تسمى عاتكة، تعمل في الصباح موظفة بالجمعية الإسلامية الخيرية لرعاية الأيتام، وفي المساء تمارس مهنة الشحاذة بالأطفال الرضع”[1].

لقد التقطت البصيرة السردية حضور “عاتكة” هذا ضمن مشهد ثري، بتفاصيله المتجانسة في انتمائها إلى ماهية الحرب وأبعادها المختلفة، إذ يتجلى البعد التدميري في ذاكرة المكان، وأشيائه المحترقة بتاريخ الحروب المتقادمة.

وفي سياق مواجهة المرأة لمعضلة الفقر والحاجة، في هذه المعركة غير المتكافئة، جمعت بين قيمتين غير متجانستين (العمل/ والتسول). لكنها اكتفت في مواضع متعددة من هذه التجربة بقيمة العمل وحدها، بما فيها من إحالة إلى نسق من عزة النفس وكرامتها، فنجد ذلك واضحا في سياقات متعددة من رواية “السماء تدخن السجائر”[2]، فكثير من شخصيات النساء فيها، كن يعملن في مصنع “البطاطس”، من مثل: (عبير، ونيزك، وكفاية، وسلمى، وأشجان، وطروب، وغيرهن).

سردية العنف

تناولت سردية الأهدل الروائية صورا من القسوة و”العنف”، التي تتعرض لها المرأة اليمنية، إذ ظهرت في رواية “حمار بين الأغاني”[3]، مشاكسة للصيغة العامة، التي أطرتها فيها الذهنية الذكورية، فاتسق اسم شخصيتها الرئيسة الشابة “ثائرة”، مع جوهر هذه المشاكسة، التي سعت من خلالها إلى الانتصار لذاتها، في صراعها مع الواقع وسلبياته، متسلحة بما تمتلكه من فطنة ووعي، وبما اكتسبته من حصيلة معرفية، تعددت مصادرها، لا سيما ما يتعلق منها بحصيلتها المعرفية، التي اكتسبتها من دراستها للتاريخ.

رواية "حمار بين الأغاني"

ترنحت “ثائرة” في معركة الصراع، بعد أن امتد من نسقه الخارجي إلى ذاتها، فتخلق فيها صراعا داخليا، متمثلا فيما عانته من كوابيس كانت تتناوب عليها، وتصيبها بالهلع. لا سيما ذاك الكابوس المرعب، الذي دهمها على هيئة حلم، شاهدت فيه مقتلها نحرا على يد شخص ملثم، فصل رأسها عن رقبتها.

لم يقف هذا الحلم عند دائرته الذاتية، بل اتصل بعوامله الخارجية، فالتحم بها، ومن ثم تجسد حقيقة في حادثة مقتل الشابة، بطريقة اتسقت مع الحلم وتفاصيله. ثم تجانست هذه الحادثة مع صور عنف مشابهة، كانت الضحايا فيها فتيات امتدت إليهن يد الفاعل ذاته، مجهزا عليهن. ومتقنا عملية نسجه للصعوبة في محاولات الكشف عنه ومتقنا في الآن نفسه تحوير مسار التهم إلى عدد من الأبرياء، الذين أعدموا، في سياق من التواطؤ الاجتماعي الفاعل في تعمية الحقيقة، وإقرار نقيضها.

مآسٍ شخصية

من أهم السياقات السردية إن لم تكن هي الأهم التي تضمنتها محورية المرأة في روايات الأهدل، سياق الاغتصاب وزواج القاصرات، إذ كان هذا السياق من المسارات السردية في روايته “قوارب جبلية”. كما كان بنية مركزية، في روايته “أرض المؤامرات السعيدة”[4]، التي فكك التعاطي السردي من خلالها عددا من المعضلات الاجتماعية التي ترتبط بها، وتضفي عليها تجانسا مع بنية إشكالية في منظومة السلطة والقبيلة، تتمثل في التواطؤ الفاعل، في ترسيخ هذه الثقافة غير السوية، سواء في مباركة زواج القاصرات، أو التغاضي عما يقترفه ذوو النفوذ، من جرائم اغتصاب، في حق أعراض بعض الفئات من البسطاء. وهو الأمر الذي تجسد، في الموقف من مأساة شخصية الرواية الطفلة “جليلة”، التي تعرضت لاغتصاب شيخ قبلي، فتداعت أقطاب المنظومة كلها إلى مؤازرته ضد ضحيته.

روايته "أرض المؤامرات السعيدة"

ومن التمثلات السردية لهذه التيمة، ما تضمنته رواية “السماء تدخن السجائر”، من سياق، حالت فيه ذكرى الاغتصاب دون نيل “ظافر” مراده الخاص برغبته في الزواج من زميلته “عبير”، إذ رفضته بتذمر وتأفف، حينما عرض عليها الأمر. ولم يكن موقفها هذا سوى انعكاس لما تعيشه من حال ذاتية، مسكونة بحادثة اغتصاب، تعرضت لها في طفولتها، أعقبها ما تعرضت له، من عنف وقسوة على يد أخيها. فتشكلت من تداعيات ذلك كله رغبتها في حياة بعيدة عن البلد، وهو ما ظفرت به، بعد زواجها من شاب مسيحي، أقامت معه في إثيوبيا.

المرأة: جسدا وذاتا إنسانية

من الميزات التي تفرد بها تسريد واقع المرأة اليمنية في هذه التجربة الروائية، أنها لم تكتف بتسريد الأحداث والمضامين في مواقف ومشاهد سياقية. وإنما عملت بمعية ذلك على سبر هذه المواقف والمشاهد، واستقصاء مساراتها الاجتماعية، وتشخيص إشكالياتها، الكامنة في الرؤية الذكورية، المتعاطية مع المرأة، بصفتها جسدا مفرغا من الروح، لا يتجاوز ماهيته، التي لا يزيد فيها على كونه وسيلة متعة وإشباع للغريزة.

رواية "بلاد بلا سماء"

وبذلك، فقد كان لهذه الرؤية تواطؤها المرجعي الفاعل في تمرير جرائم الاغتصاب، وما ينطوي عليه هذا السياق، من اضطهاد للمرأة، وتهميش لكينونتها الإنسانية.

لقد وقعت الشابة “سماء” شخصية رواية “بلاد بلا سماء”[5] في أتون هذه الرؤية، التي تجسدت فيما خاضته الفتاة من صراع مباشر معها، إذ تقول: “معظم الرجال في الشارع يصوبون نظراتهم الشبقة إلي وكلهم يرغب في مضاجعتي”[6]. كما تشير إلى هذه المعضلة، وتنوعها بين: النظر، والحركة، والإشارة، والكلام، واللمس. وتنوع الأماكن التي تحدث فيها، بين: الشارع، والباص، والدكان. وتنوع الأشخاص الذين يقومون بها، بين: البقال، وابن الجيران، والسائق، والمتدين، والعجوز، والعامل.

اضطراب رؤية انفصامية

تكشف السياقات السردية في روايات الأهدل، عما تفضي إليه هذه الرؤية الاجتماعية، من تداعيات سلبية، تنمو في الذات الذكورية منذ الصغر، إذ تضطرب هذه الذات فيما يتبلور لديها من معنى للمرأة، بين كائن متعة وغريزة، أو كائن إنساني، له ذاته المأهولة بمعاني التكامل مع الذات الذكورية، فيما تتشاركه الذاتان من عاطفة حب، فاعلة في كل طرف منهما.

ومما يترتب على هذا الاضطراب، حيلولته دون استيعاب الذات العاشقة (الذكر) لجوهر الفرق بين صورة المرأة الطبيعية البيولوجية (جسدا وغريزة)، وبين كينونتها غير الجسدية المتمثلة في المعاني الوجدانية والإنسانية. وعلى ذلك، يلتبس الأمر لديه، فيتخبط بين الجسد والمعنى، إذ اضطربت هاتان الصورتان، في العلاقة العاطفية، التي نشأت بين “علي نشوان” وجارته “سماء”، على ما في تلك العلاقة، من تنام للمعنى الوجداني.

توازي في ذات الجار العاشق نمو هذه الرؤية مع نمو النسق الوجداني، الذي تسارع في صيغته القائمة، على استشعار كل منهما نسبة من المودة تجاه الآخر، بما فيها نسبة من الأنس في عاطفتيهما مع كل لحظة تجمع بينهما. لا سيما في عاطفة “علي”، إذ كان هو الأكثر حرصا على استمرار هذه العلاقة، فكان يفتعل كل ما يمكنه من البقاء معها أو الاقتراب منها، ويمني نفسه بزواجهما، حينما يصلان إلى مرحلة، يكونان فيها مؤهلين لهذه الرابطة المقدسة.

وبعد أن وصلت علاقتهما هذه إلى هذا المستوى من التناغم، كانت تلك الرؤية الاجتماعية على أهبة الاستعداد للانقضاض عليها، فجرمتها، وأقرت القطيعة القسرية بينهما. اختفت الفتاة فجأة، وألصقت التهمة بالحبيب المغدور، الذي لم تكن له يد في اختفاء حبيبته، ففارق روحه بجريمة لم يقترفها.

وفي رواية “أرض المؤامرات السعيدة”، ظهرت هذه الرؤية الذكورية الانفصامية بين صورتي المرأة (الجسد/ الذات الإنسانية)، مع حدة في صيرورة تأطيرها للأنثى جسدا وغريزة.

رواية "السماء تدخن السجائر"

وفي سياق ذلك، يتجلى هذا الانفصام، في حال الحرمان العاطفي، الذي تستعر فيه الذات الأنثوية، وهي تحاول أن تستجدي من الزوج قسطا من المشاعر، غير مستوعبة فراغه الوجداني. لا سيما بعد أن قضت حتميات الصراع، على هذا البعد الإنساني. وهو ما تضمنه حديث “مطهر فضل”، عن المشاعر التي تفتقرها فيه زوجته: “لن تفهم هذه المرأة المدللة أن “مشاعري” قد ضاعت في زحمة الحياة.. وتنسى أن للحياة متطلبات عملية، وأن النقود لا تأتي من تلقاء نفسها، ولا مفر من خوض صراع يومي للحصول عليها، وانتزاعها من أفواه الآخرين”[7].

كما تضمنت سياقات رواية “السماء تدخن السجائر”، نسقا من التسريد لإشكالية هذا الاضطراب، الذي يتعلق باستيعاب الذات الذكورية لماهية المرأة على صورتيها (جسدا/ وعاطفة). تجلى ذلك، في منبت هذه الإشكالية في حياة “ظافر” منذ طفولته، وهو في السادسة من عمره، في سياق موقف وضعته فيه الصدفة، حينما وجد نفسه ذاهلا برؤيته جسد ابنة خالته الشابة.

قدحت رؤيته ذاك الجسد العاري هذه الثنائية المضطربة في ذاته (المرأة الجسد/ والمرأة الذات العاشقة). نمى هذا الاضطراب في حياته، ورافق مراحل عمره، وأثث فيه عشقه للمرأة وعالمها الأنثوي، وتفاصيل هذا العالم الذي لم يفرط في أي لحظة، تمكنه من السعي إليه، مفضلا الموت فيه، على الموت في أتون الحرب والصراع.

أخلص ظافر لمسار عشقه، فتعددت تجاربه مع عدد من النساء. لكنه لم يفلح مع أي منهن، بدءا من الممثلة “نبات”، ومرورا بزميلاته في العمل في مصنع “البطاطس”: (عبير، ونيزك، وكفاية، وسلمى، وأشجان، وطروب، وغيرهن)، وانتهاء إلى “ناجية”، إحدى زميلاته، التي ارتبط بها في مرحلة متأخرة وأنجب منها.

كانت تجارب “ظافر” الوجدانية كلها محكومة بنسق من واقعية الاضطراب، الذي يعود في مساره العام إلى تلك الرؤية الاجتماعية في المرأة جسدا لا ذاتا وروحا. كما يعود في مساره المباشر، إلى واقعية الصراع، وماهيته المرتبكة المربكة، التي انعكست في تجارب “ظافر” الوجدانية، وتسببت في فشله العاطفي، فكل فتاة كان يحاول نسج علاقة معها، سرعان ما كانت تصاب بلعنة الحرب والموت. حتى انتهت رحلته العاطفية، إلى الزواج من زميلته الأرملة “ناجية”، تلك التي لم تسلم هي الأخرى من لعنة الحرب، إذ تجسدت فيها ساقا صناعية، بعدما فقدت إحدى ساقيها في أتون الصراع الدموي.


المصادر:

([1]  ) وجدي الأهدل، “قوارب جبلية”. ط2، رياض الريس، بيروت، 2002، ص12.

([2]  ) وجدي الأهدل، “السماء تدخن السجائر”. ط1، دار هاشيت أنطوان، بيروت، 2023.

([3]  ) وجدي الأهدل، “حمار بين الأغاني”. ط2، سلسلة آفاق عربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011.

([4]  ) وجدي الأهدل، “أرض المؤامرات السعيدة”. دار هاشيت أنطوان نوفل، بيروت، 2018.

([5]  ) وجدي الأهدل، “بلاد بلا سماء”. ط2، دار التنوير، بيروت، 2012.

([6]  ) نفسه، ص: ص9.

([7]  ) وجدي الأهدل، “أرض المؤامرات السعيدة”. مصدر سابق، ص164،163.

  • شاعر وناقد يمني. أكاديمي في جامعة عدن.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *