لم تكن الضجة التي أثارها مسلسل “الحشاشين” إلا جزءا من طبيعة العمل، باعتباره “تاريخيا”، خاصة في ظل السنة المعتادة للمشاهد والناقد أيضا في التعامل مع العمل الدرامي باعتباره وثيقة تاريخية، وانتقاد المخرج والمؤلف باعتبارهما ينتميان إلى عالم “التأريخ” لا “التأليف”.
وتبقى أسباب الجدل الذي أثير حول “الحشاشين” كثيرة، لعل أبرزها اختلاف الآراء حول طبيعة الجماعة التي اغتالت الماركيز كونراد دي مونفيرا أحد قادة الحملة الصليبية الثالثة، كما اغتالت قادة من المسلمين من أمثال الوزير نظام الملك نفسه. وبالتالي، فإن كل فئة ترى جانبا من حقيقتها، وتختلف الآراء حولها انطلاقا من مظلومية خليفة مظلوم هو نزار بن المستنصر.
ولأن العمل الفني ليس حدثا سياسيا أو عسكريا، فإنه من غير المعقول أن يصبح الخلاف حول التاريخي جزءا من تقييم العمل، حتى لو لم يرفضه صانع العمل تشجيعا للجدل الذي يزيد من الإقبال على المشاهدة.
تاريخيا، لم تثبُت أي من الروايات التي نقلها الرحالة الإيطالي ماركو بولو صاحب تسمية “الحشاشين” أو غيره، لكن بقي الطابع الأسطوري للحكاية التي تشبه “الحواديت الشعبية”، ودخلت المطابع أكثر من رواية استلهمت الأسطورة، ومن بينها رواية “قلعة الموت” للكاتب اللبناني أمين معلوف، التي يبدو أن العمل استُلهم منها.
كان الأولى بصناع العمل إضافة إشارة إلى أنه مقتبس من رواية “سمرقند” أو غيرها، وهو ما كان كفيلا بتجنب الجدل القائم حول الدقة التاريخية.
أسطورة “الحشاشين”؟
لا تحتاج قصة حسن الصباح لقدر كبير من الإضافات الدرامية، واختلاق المواقف المصطنعة لينتج عنها عمل درامي، فالحقيقة الوحيدة في أسطورة “الحشاشين” أنها دراما من الطراز الرفيع، سقط فيها رجل بين فكي وزيرين هما بدر الجمالي في مصر ونظام الملك في الدولة السلجوقية.
وتكمن الأزمة الحقيقية التي صادفها مسلسل “الحشاشين”، الذي يقوم ببطولته كريم عبد العزيز وفتحي عبد الوهاب، في قابلية الحكاية نفسها لكثير من التأويل، مما يخصم من القيمة الفنية للعمل، لحساب الثرثرة السياسية في أغلب الأحيان.
وتدور أحداث المسلسل حول فرقة “الحشاشين” التي تعد أخطر الفرق السرية في العالم الإسلامي، واشتهرت بالاغتيالات السياسية، وقصة صعود مؤسسها حسن الصباح، وحقيقة الصداقة التي جمعت بينه وبين نظام الملك.
وقع المسلسل بين يدي كاتب السيناريو عبد الرحيم كمال، الذي أثبت جدارته من قبل في أعمال بارزة، لعل أهمها “الخواجة عبد القادر”، وذلك قبل أن ينخرط في أعمال درامية، لم تحقق النجاح المعتاد له، بل خصمت من رصيد نجاحاته، ذلك أن كمال ليس الأكثر تميزا في صنعة كتابة السيناريو، ولكنه بالتأكيد الأكثر تميزا في تلك اللمسة الإنسانية والمسحة الصوفية الراقية التي تغلف أعماله، وقد تخلى عنهما في “القاهرة- كابول” وفي “الحشاشين”.
“الحشاشين” كعمل فني
يقدم المخرج بيتر ميمي عمله منذ لحظاته الأولى متمسكا بفكرة البطل الأوحد، فالكاميرا لا تريد مفارقة حسن الصباح (كريم عبد العزيز) منذ اللحظة الأولى، ليؤكد أن أجواء العمل في القرن الحادي عشر، والمجتمعات موضوع العمل وهي الدولة السلجوقية والفاطمية، هي مجرد خلفية لبطل مسيطر، وهو الصباح.
ولا يحتاج عبد العزيز إلى كثير من الجدل حول قبوله أو قدراته كممثل، لكن السؤال حول ذلك التكوين الجسدي والملامح مقارنة بالصفات الكاريزمية التي وصف بها الصباح، لا يغيب أبدا طوال الحلقات، إذ يبدو كريم منتميا بكل ذرة من تكوينه الجسدي والنفسي إلى ذلك الجيل الذي ولد في نهاية القرن العشرين.
طبيعة ملامح وجه كريم عبد العزيز، وضآلة تلك الملامح، والطاقة المحدودة للعينين تجعل “الممثل الكبير” غير مناسب لأداء دور حسن الصباح، لذلك جاء أداؤه تقليديا لا يرقي لمستوى الإبهار.
وعلى العكس من عبد العزيز، قدم فتحي عبد الوهاب أداء متميزا حين أدى دور الوزير نظام الملك، وامتلك كاريزما قد تفوق تلك التي ظهر بها عبد العزيز، ولعل دور نظام الملك يمثل واحدة من قمم النضوج الفني للممثل الذي يتسلل بهدوء وصبر نحو قمة خاصة به.
ثالث الأصدقاء في رواية أمين معلوف هو الممثل اللبناني نيقولا معوض، وقدم أداء أشبه بالإلقاء والخطابة في المدارس المتوسطة. فبدلا من اختيار ممثل يملك من المرونة والحيوية والحضور ما يليق بدور درامي “فاقع”، اختار بيتر ميمي أن يطيح بدور عمر الخيام الأكثر شاعرية وحضورا في الوجدان المجتمعي، كأنه أراد إبراز الصراع السياسي بين الصديقين حسن الصباح ونظام الملك، وتهميش ما دون ذلك.
ورغم الإمكانات المتوفرة للعمل، فإن كاميرا ميمي وقفت على الحياد بين الصديقين، فلم تنقل حوارهما بصريا، وإنما اعتمدت لقطات متوسطة لأحدهما أو كليهما في الحوار بينهما دون أي اجتهاد لنقل المعنى الكامن وراء الكلمات.
وباستثناء الأجواء شبه المظلمة لعالم حسن الصباح الليلي، والتوزيع الجيد للإضاءة القليلة في المشاهد، انجرف ميمي في تتبع الحكاية ذات الأطراف المتعددة، التي أدت إلى ضياع خيوط السيناريو من المشاهد لبعض الوقت.
الرعب والمعجزات
حتى الحلقة الثامنة من العمل، لم يظهر الرعب الذي نقله الرواة عن جماعة حسن الصباح من اغتيالات لخصوم “الدعوة” بأيدي فدائيين يعلم كل منهم أنه لن يعود، لكن ما ظهر في المسلسل هو تلك المعجزات التي قام بها الصباح، وذلك بدءا من ظهوره شخصيا في أكثر من مكان إلى قدرته على إنقاذ سفينة صادفتها عاصفة هوجاء وسط البحر.
يمنح السيناريست عبد الرحيم كمال مبررا دراميا لتناول شخصية الصباح عبر إثبات معجزاته وتصويرها، وإن لفت التعليق الصوتي في مقدمة الحلقة إلى أن إنقاذ السفينة تم عبر المعرفة، فإن ظهوره في مكانين في الوقت ذاته لا يمكن أن يكون له علاقة بالعلم.
يحاول صناع العمل جاهدين تأكيد فكرة الخيانة المزدوجة للصداقة وللدولة السلجوقية من قبل حسن الصباح لصديقه نظام الملك، لكن خيانة وزير الدولة الفاطمية بدر الجمالي لعهد الخليفة المستنصر وتولية ابنه أحمد أو المستعلي بالله، بدلا من الابن الأكبر نزار وقتله في ما بعد، هو الحدث الأكبر الذي أطلق بركانا من مشاعر الظلم لم يتم التركيز عليها، إلا في ما يتعلق باعتباره سببا مباشرا لقرار الصباح بالهرب من مصر.
“الحشاشين” أسطورة تناولتها السينما العالمية في أكثر من عمل، من بينها “عقيدة القتل” (Assassin’s Creed)، وهو فيلم درامي، ولعبة فيديو، لكن أكثر من فيلم وثائقي استعرض الحكاية، وخاصة قصة إنشاء نموذج للجنة على الأرض من قبل الصباح لاستغلالها في خداع البسطاء ودعوتهم للانضمام إليه.
حكاية هذه الفرقة مستفزة للخيال، وقادرة على توليد عديد من الأعمال البصرية السينمائية والتليفزيونية من دون شروط خاصة بإسقاط الحشاشين على جماعة معينة، أو إعادة محاكمة الوزير بدر الجمالي على استبدال حاكم بآخر.