التهامي الوزاني فقيه صوفي ومؤرخ وصحفي وأديب مغربي، ولد عام 1903 وتوفي عام 1972 بتطوان. تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن في سن مبكرة في الكُتّاب، وأخذ دروسا في المنطق والفقه والتصوف في مجالس علماء تطوان شمال المغرب.
لم يتلق تعليما نظاميا، بل اعتمد على نفسه في تكوين شخصيته، كان شغوفا بقراءة الكتب في كل المجالات، مما جعله شخصية متعددة المواهب، يتميز بأسلوب خاص وبصمة متفردة في عرض أفكاره وآرائه.
أسس صحيفة مستقلة في شمال المغرب استمرت في الصدور 19 سنة، وساهم في النضال ضد الاستعمار الإسباني، كما أسس إلى جانب ثلة من المقاومين الوطنيين في مدينته عددا من المدارس الخاصة إيمانا منه بأهمية التعليم في نهضة الأمم، وعمل مدرسا ومديرا لعدد من هذه المدارس.
تولى عمادة كلية أصول الدين بتطوان منذ تأسيسها عام 1963 إلى حين إحالته على المعاش، وتقلد عددا من المناصب والمهام السياسية والتربوية والمدنية، مما جعله أحد أهم النخب الفكرية والعلمية والأدبية في تطوان وشمال المغرب.
يعتبر الباحثون والنقاد كتابه المعنون “الزاوية”، والذي صدر سنة 1942، أول رواية مغربية مكتوبة باللغة العربية، وهي سيرة ذاتية تناول فيها مقتطفات من طفولته وشبابه وتجربته الروحية في الزاوية الحراقية، والتقلبات التي عاشها شمال المغرب قبيل وأثناء الاحتلال الإسباني.
أعلنت جائزة كتارا للرواية العربية في قطر عن اختيارها التهامي الوزاني شخصية العام في دورتها العاشرة (13-20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، ووصفه بلاغ للمؤسسة العامة القطرية للحي الثقافي (كتارا) بأنه يشكل تجليا متميزا للمثقف الشامل.
الولادة والنشأة
وُلد التهامي بن عبد الله الوزاني في 6 صفر 1321 هجرية، الموافق 4 مايو/أيار 1903 ميلادية في مدينة تطوان.
توفي والده وهو في الثالثة من عمره وتركه هو وأخوه في كفالة أمه وجدته لأبيه، ينحدر من أسرة متواضعة تنتمي إلى الشرفاء الوزانيين ذوي الجذور الصوفية (يقولون إن نسبهم ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
في عام 1918 دخل المستعمر الإسباني إلى تطوان، وأحدث حالة من الهلع وسط السكان، لذا عقدت جدته العزم على الهجرة نحو طنجة خوفا من تضييق المستعمر المسيحي على شعائرهم الدينية، لكنها عدلت عن قرارها بعدما طمأنها الأقارب بأن سوءا لن يصيبها وأحفادها.
وَرِثَ التهامي الوزاني المكانة الاجتماعية للشرفاء الوزانيين، وإرثهم النضالي ضد الاستعمار الإسباني لتطوان، كما ورث عنهم التدين والميول للتصوف والاعتزاز بالذات.
تزوج من ابنة عمه أحمد الوزاني الودراسي في الثامن من سبتمبر/أيلول 1921 وكان في الثامنة عشر من عمره.
نشأ التهامي الوزاني في ظروف سياسية معقدة شهدها المغرب في تلك الفترة، فقد عاصر حرب تطوان وتبعات مؤتمر الجزيرة الخضراء على سيادة المغرب واحتلال البلاد وشهد انتصارات المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي ونسج علاقة متميزة مع الرواد الأوائل للحركة الوطنية في الشمال أمثال عبد السلام بنونة ومحمد داود وعلي الخطيب، وكان لكل تلك التطورات أثر بالغ في تكوين شخصيته ونضج أفكاره.
التعليم والتكوين
أخذته جدته في سن مبكرة إلى كُتاب الحي ليتعلم الكتابة والقراءة، ويحفظ القرآن الكريم على عادة أقرانه في تلك الفترة.
حفظ ودرس على يد صديقه وشيخه محمد الكحاك المتون مثل الأجرومية والمرشد المعين، وبعضا من مختصر الشيخ خليل، وألفية ابن مالك، ثم قرر الاستزادة من العلم والتحصيل بالاعتماد على نفسه، فكان يقرأ كل ما تقع عليه عينه في مكتبه شيخه مثل: المقامات للحريري، وثمرات الأوراق، والمستظرف، والروض الفائق، وألف ليلة وليلة، وفي هذه المرحلة ظهر حبه وميله للأدب.
اتجه بعد ذلك إلى مجالس علماء وشيوخ مدينته الكبار، وتعلم عليهم المنطق والفقه والحديث وكثيرا من العلوم الشرعية الأخرى.
لم يذهب التهامي الوزاني إلى فاس أو المشرق لاستكمال دراسته كما كانت العادة في زمنه، بل قرر المضي في طريق التصوف، وانضم إلى الزاوية الحراقية سنة 1919 رغم أن عائلته تنتمي من حيث النسب إلى زاوية عتيدة أخرى هي الزاوية الوزانية.
تفرغ للعبادة ودراسة كتب التصوف، ولازم الشيخ إدريس الحراق، الذي لقنه الورد وأصبح شيخه الروحي. وقد حكى في كتابه “الزاوية” -وهو سيرة ذاتية كتبها في عقده الرابع- عن هذه التجربة الروحية وتحدث بإسهاب عن الحراقيين وشيخهم.
بعد 7 سنوات من الانغماس في التصوف، عاد لقراءة الكتب الحديثة وما يصل إليه من الصحف المشرقية، مما أيقظ لديه رغبة في إشباع فضوله المعرفي وتطلعا لفهم ما يعيشه العالم من اضطراب.
وكان له اتصال بالجيل الأول من الوطنيين في فاس خلال تردده عليها لزيارة شقيقه الذي كانت يتابع دراسته في جامع القرويين، فنسج علاقات معهم ومع مثقفي المدينة واطلع على التنظيمات الوطنية وخططها لنشر الوعي الوطني والسياسي.
وفي سنة 1929، تعلم اللغة الإسبانية بجهوده الذاتية، فأتقنها كتابة وحديثا، ما مكنه من الاطلاع على ما تكتبه الصحافة الإسبانية وقراءة المؤلفات الإسبانية التي تهتم بتاريخ المغرب وأوضاعه.
كما مكنه إتقانه لهذه اللغة من التواصل مع رجال السلطة والعسكريين الإسبان في تطوان وبناء صداقات معهم، وخاصة مع القبطان كريستوبال دي لورا إي كاسطانييدا، الذي أصبح فيما بعد المقيم العام للمنطقة الشمالية.
وساعدته معرفته باللغة الإسبانية أيضا على ترجمة جزء كبير من رائعة الأديب الإسباني “ميغيل سيربانطيس” وعنوانها “دون كيخوطي دي لامانتشا” (الدون كيشوت دي لامانشا) إلى اللغة العربية، وقد نشرها على حلقات في صحيفة الريف.
التجربة السياسية والصحفية
كانت لقاءاته مع رواد الحركة الوطنية في منطقة الشمال وفي فاس دافعا للمشاركة في الحياة المدنية والسياسية، إذ كان ضمن الوطنيين الذي حرروا وثيقة الاستقلال سنة 1931 ودعوا فيها عصبة الأمم إلى التدخل ضد إصدار السلطات الاستعمارية الظهير البربري.
كما قاد مظاهرات شعبية وعمالية، منها المظاهرة الشهيرة في ساحة الفدان بتطوان في أبريل/نيسان 1931، والتي تزعم فيها الكتلة العمالية وانتدب رئيسا للجنة الحوار وتقدمت هذه المظاهرة بأول عريضة تطالب بالمساواة الفعلية بين العمال المغاربة والإسبان.
كانت المحافل الماسونية مغرية لرجال الحركة الوطنية، إذ ظنوا أن من شأنها تقريبهم من ذوي النفوذ وصناع القرار الإسبان، ومن ثم الحصول على دعمهم للقضية المغربية دوليا، لذلك انخرط التهامي الوزاني بالمحفل الماسوني عام 1931 أسوة بعدد من الوطنيين الآخرين أمثال عبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس ومحمد بنونة.
وتشير بعض المصادر إلى أن هذه الخطوة كانت بداية القطيعة مع شيخه إدريس الحراق، كما كانت لها عواقب وخيمة عندما شن نظام الجنرال فرانكو حرب استئصال ضد الحركة الماسونية في إسبانيا والمناطق التي تحتلها في شمال المغرب، وسعى إلى توقيف المنخرطين فيها أو مصادرة أملاكهم.
كان من الوطنيين الأوائل الذين اهتموا ودافعوا عن حقوق الإنسان، فعندما أنشأ عبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس فرعا لعصبة الدفاع عن حقوق الإنسان بتطوان -وهي أول جمعية حقوقية بالمغرب- سنة 1933 تولى مهمة الوكيل في المكتب الإداري للجمعية.
وعند تأسيس حزب الإصلاح الوطني بقيادة عبد الخالق الطريس سنة 1936 في المنطقة الخاضعة للحماية الإسبانية، شغل التهامي الوزاني منصب وكيل وناطق رسمي باسم الحزب وظل عضوا في لجنته التنفيذية إلى حين دمجه في حزب الاستقلال عام 1956.
واتجه إلى العمل الصحفي، واختار أن يؤسس لنفسه صحيفة مستقلة يعبر فيها عن أفكاره وقناعاته، أطلق عليها اسم “الريف” وذلك عام 1936، وقد جعلته هذه التجربة الإعلامية التي استمرت 19 عاما مطلعا ومواكبا لكل المستجدات السياسية والثقافية والاجتماعية، فكانت صفحاتها منبرا لمناهضة الاستعمار ودعم الحركة الوطنية وللدفاع عن القضايا السياسية والاجتماعية لسكان منطقة الحماية الإسبانية، كما شكلت معبره نحو التحول إلى الكتابة التاريخية والأدبية.
وأسس مطبعة الريف من أجل طباعة إنتاجه الفكري والأدبي وأيضا ما ينتقيه من إنتاجات ثقافية، ولما أسس حزب الإصلاح الوطني صحيفته الخاصة “الحرية” أصبح من كتابها المهمين، وقد كان أسلوبه الجميل يشد القراء وأفكاره المتوقدة تلقى رواجا بينهم.
سافر في يناير/كانون الثاني 1938 إلى إيطاليا ومنها إلى ألمانيا، حيث اجتمع بالجالية المسلمة هناك للتشاور بشأن وضع المقاومة في سياق الاضطرابات التي شهدتها أوروبا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي أثناء عودته مر على سويسرا وبها التقى الأمير شكيب أرسلان، وسافر أيضا إلى مصر لتمثيل حزب الإصلاح الوطني، وقد مكنته هذه الرحلات من اكتساب فكر مختلف منفتح على العالم رافض للقيود ونظرة جديدة للأوضاع في بلاده.
ويقول النقاد إن السنوات من 1940 إلى 1952 اتسمت بتحول نوعي في كتاباته، إذ انتقل من كتابة المقالات في الصحف إلى تأليف الكتب التي نشر بعضها على حلقات في صحيفته الريف، وتنوعت بين كتب تاريخية وأدبية وفكرية.
التهامي الوزاني والتعليم
كان للتهامي الوزاني دور مهم في تشجيع التعليم في المنطقة الشمالية الخاضعة للحماية الإسبانية، إذ أسس رفقة عدد من الوطنيين مدارس للتعليم الخاص، وبادر مع بعض المحسنين من سكان سبتة لبناء مدارس خاصة في المدينة، كما شجع على تكثيف دروس العربية وتعليم القرآن والعلوم الدينية لأبنائها.
وتقلد عدة مناصب في المجال التعليمي، فقد انتخب وكيلا لجمعية الطالب المغربية بتطوان، ثم رئيسا لها، ثم مدرسا بالمعهد الديني وشيخا به، ومدرسا بالمعهد الديني العالي، ثم مديرا له، وعضوا في المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي ثم رئيسا له، ثم أستاذا بدار الحديث الحسنية بالرباط، فعميدا لكلية أصول الدين بتطوان التابعة لجامعة القرويين بفاس غداة تأسيسها عام 1963 وبقي قائما بمهام العمادة إلى أن أحيل على المعاش.
وكان له دور مهم أيضا في تأسيس رابطة علماء المغرب، إذ شغل فيها منصب مستشار دائم، وكان أول رئيس للمجلس العلمي لتطوان، علاوة على انتخابه رئيسا للمجلس البلدي لهذه المدينة في أواخر حياته.
الإنتاج الأدبي والفكري
كان التهامي الوزاني غزير الإنتاج، وخلف العديد من الأبحاث والمؤلفات في التاريخ والتربية والتصوف والأدب، وقد كلف قاضي التوثيق بتطوان الدكتور محمد بوخبزة بتقييم مكتبته لتصفية عملية الإرث، فعثر فيها على مخطوطات مكتوبة بخط يده، فجمعها في صندوق أودع في المكتبة العامة للمدينة.
وفي مقال كتبه عام 1950، ونشر في مجلة المعرفة عنوانه “التهامي الوزاني بقلم التهامي الوزاني” لخص تقلبات حياته وتجربته السياسية والثقافية، ومما جاء فيه “كنت أظن أن الزمان سيوجهني توجيها صوفيا، ثم رأيته يحولني تحويلا سياسيا، إلى أن استقر اليوم في توجيهي توجيها أدبيا”.
كان لعمله الصحفي وانغماسه في الحياة السياسية دافع لتأمل تاريخ بلاده والاهتمام بالتأليف فيه، لذلك ألف كتابه “تاريخ المغرب” في 3 مجلدات سنة 1940، خصص الجزء الثالث منه لفترة الحماية مستندا إلى الوثائق الإدارية الاستعمارية وعلى عدد من المراجع والصحف الإسبانية وكذا الروايات الشفوية.
وفي عام 1941 ألف كتابين هما “الإمبراطورية المغربية في السودان” و”بين تطوان وجَبَل العَلَم”، وفي عام 1947 صدر له كتاب “المغرب الجاهلي”، وإصدار آخر موجه للناشئة عنوانه “التاريخ العام للأطفال” وكان عملا غير مسبوق في تلك الفترة.
وفي مجال الأدب أصدر كتابه “الزاوية” عام 1942، يوثق فيه سيرته الذاتية في زمن كانت فيه كتابة السيرة أمرا غير مألوف في المغرب، وتطرق فيه لفترة طفولته وشبابه وتجربته داخل الزاوية الحراقية، وقدم فيه تعريفا بهذه الزاوية وبشيخها، وقد صنف الباحثون والنقاد هذ العمل الأدبي بأنه أول رواية مغربية باللغة العربية.
وفي عام 1943 أصدر كتاب “فوق الصهوات”، وهو عمل يجمع بين التاريخ والسرد الملحمي صاغه على طريقة السيرة الشعبية.
وفي كتابه “سليل الثقلين” الذي صدر سنة 1950، وأعادت طبعه جمعية “تطاون أسمير” سنة 2000، جعل من كتاب “ألف ليلة وليلة” الشهير منطلقا لصياغة رواية تجري أحداثها قبل آلاف السنين، بين بشر أقرب إلى الملائكة، وأبالسة حريصين على تدمير القيم الجديدة.
ومن مؤلفاته الأخرى:
- المقاومة المسلحة في شمال المغرب.
- مدرسة لوقَش.
- ملخص تاريخ العالم/العالم القديم.
- الوطنية المغربية في طورها الحاسم.
- العصر الجديد أو الشجرة المباركة.
- رسالة إلى محمد داود.
- خمسون سنة في صحبة آل بنونة.
- مذكرات عن مؤسسي الحركة الوطنية بالمغرب: ذكريات عن الصديق محمد بن مصطفى أفيلال.
- الباقة النضرة.
وفاته ومدفنه
توفي التهامي الوزاني يوم الجمعة 22 ديسمبر/كانون الأول 1972، ودفن في منزله بدرب شرفاء وزان نزولا عند وصيته، وفي سنة 1996 خضع المنزل لعملية إصلاح وترميم شملت درب الشرفاء بأكمله.
اختارت “جائزة كتارا” للرواية العربية في دورتها العاشرة (13-20 أكتوبر/تشرين الأول 2024) التهامي الوزاني شخصية العام، ضمن تقليد سنوي دأبت عليه في الاحتفاء بشخصية أدبية عربية تركت بصمة واضحة في مسيرة الأدب العربي، وفي سياق العام الثقافي 2024 الذي يجمع قطر والمغرب.
ووفق بلاغ للمؤسسة العامة القطرية للحي الثقافي (كتارا) فإن فعالية “شخصية العام” تشمل معرضا للصور يوثق لأهم محطات التهامي الوزاني، إلى جانب ندوة تتناول مراحل تطور الرواية المغربية منذ التأسيس على يد الروائي التهامي الوزاني وحتى الآن.
وأبرز البلاغ أن التهامي الوزاني يشكل تجليا متميزا للمثقف الشامل “فطيلة 70 سنة من حياته لم يكف هذا الرجل العصامي عن الكتابة في شتى المجالات، حيث تراوحت أجناس كتاباته في الغالب بين التاريخ والسيرة الذاتية والرواية والخطاب التأملي”.