الأسس النظرية والعملية لحوار العلوم.. محاولة لتأسيس علم “فقه نِسَب العلوم”

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 21 دقيقة للقراءة

الفكر الإنساني نبعَ من الكلمة، وقد قال تعالى في كتابه العليم: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (يس: 82)، فـ”كن” ماهيةٌ من الكلام الإلهي، لتُعلِّم الكلام الإنساني أبعاده وحقائقه وتصوغ ماهيته من جديد. والكلمة في بدئها البشري تراودها حالة الجزئي، ثم تتراكم مع أقرانها لتصير كلياً، ومن الكلي إلى القاعدة والمعيار والتجريد والمطلق والمنهج وغير ذلك؛ تتكون العلوم والمعارف، وتنجم عنها استلزاماتها ومقتضياتها وتحاوراتها، عبر نظام تعليمي رصين وبيداغوجيا معرفية متينة، إلى أن تولد “رؤية إلى العالم” (World view) تهندس العالَم شكلاً ومادةً، والعالِم معنىً وفكرةً، وعن هذه الرؤية الكاملة تتأسس الحضارة.

موضوع الكتاب العام

يروم كتاب “الأسس النظرية والعملية لحوار العلوم وتكامل المعارف: بحث في أنساقها واستدلالاتها وعلاقاتها وخرائطها وقيَمها اتصالاً وانفصالاً.. نحو تكامل النظام التعليمي“، التنقيبَ عن “براديغم”* (Paradigm) المعارف أو أنساق العلوم، ذلك الإطار النظري العام أو “الماقبلي” (A Priori) المطلق، أو الأسس الماقبلية التي تتحكم في مختلف الأفكار والمعارف والمعايير التي تولد طيّها وتستوعبها وتجعلها أدوات تطبيقية لها في الحقول المعرفية المتعددة، ليؤسس -هذا الكتاب*- لأصول هذه العلوم النظرية واشتقاقاتها، مروراً بكياناتها العملية وماهياتها التطبيقية، مفرِّعاً لنِسَبِها وتلاحماتها واشتباكاتها وعلاقاتها، وناسجاً لاستدلالاتها ولزوماتها واستتباعاتها، وراسماً لشبكاتها العلمية وخرائطها المعرفية وعمائرها النظرية وجسورها الفنية وقيمها الحضارية ومعاييرها الجمالية وأبعادها الأستطيقية.

ذلك أن هذا الكتاب يَمُنُّ على فصوله ومباحثه باستئناف تحليل مفهوم “البراديغم”، وتشريح أهميته في العلوم باعتباره القائد الأعلى لمضامينها والسائق الأرفع لموضوعاتها، محدداً في الآن نفسه أقسام هذا البراديغم وانتشاراته داخل كياناته التطبيقية المتمثلة في:

  • 1- الفلسفة حكمةً وعقلاً عبر مفهوم المادة الأولى الأرسطية باعتبارها أساساً للعلوم التي نجمت عن البناء الأرسطي العام، وما أردف ذلك من تشكيل النسق الأرسطي أو البراديغم الأرسطي وهندسة خريطة العلوم.
  • 2- الوحي أو الإسلام قرآناً كريماً معصوماً بقراءاته المتواترة والصحيحة، وسنةً حسنةً صحيحةً مقبولةً، باعتبارهما أساسين للعلوم الإسلامية والمعارف الشرعية، التي تمخضت عن النسق الإسلامي المطلق والبراديغم العلمي الشرعي.
    وما نجم عن هذين النسقين العملاقين من تداخل واشتباك وتناقد (النقد الجدلي والمتبادل والمزدوج) أدى فيما بعدُ، إلى ولادة:
  • 3- العلوم الروحية الإنسانية والعلوم الصلبة الطبيعية، وما أنتج ذلك كله من حضارة وتمدن وعمران.
  • 4- علاقات العلوم الوحيانية بالعلوم الروحية (الإنسانية) والعلوم الصلبة أو الحقة (الطبيعية) ونماذج تلاقحها وتداخلها وتعالقها.

إن هذا الكتاب يحفر جينالوجياً في تأريخ الأفكار وفلسفة العلوم في الحقب الإغريقية، والإسلامية، والحداثية، والمعاصرة، مع تفصيل تميز المعمار المعرفي في التصورينِ الإغريقي -الأرسطي بالخصوص- والإسلامي، وجمال خريطة وحدة العلوم ومتانة أسسها وتطبيقاتها. وبذلك سيقدم البحث جِدَّة وجِدَة من حيث:

أ- التأريخ لوحدة العلوم من منظور خاص، وهو “منطق البراديغمات”، المتحقق في حركية التحقيب، وبناء الاستدلالات وسفرها، واقتراض المفاهيم بين المعارف والعلوم وإشكالاتها.

ب- الكشف عن مناطق الاتصال في تصور خريطة وحدة العلوم الغربية (يونانية وقروسطوية وحداثية ومعاصرة) مع تصور خريطة وحدة العلوم الإسلامية، وتحديد مناطق انفصالها، وتحقيق شبكات كل منهما، أي وحدة العلوم الغربية ووحدة العلوم الإسلامية.

ج- الانطلاق بالنظام التعليمي لجعله انعكاساً مباشراً لوحدة العلوم وتكامل المعارف، عبر تاريخها الزمني وتطوراته، وتاريخها المعرفي وتحقيباته، ولاسيَّما أن أنماط اكتساب المعارف تجذِّر صورة واضحة لأشكال الوحدة المعرفية، من حيث ترويض ذهن المتعلم على تلقي عدة علوم في فترة زمنية معينة، مثلما تتعلم العلوم من بعضها بعضاً في فترات طفولتها وشبابها وشيخوختها أحياناً. بما يؤدي كل هذا إلى وحدة الحضاري عبر وحدة العلمي، من وحدة المعرفي وتكاملاته واشتباكاته إلى وحدة الحضاري وتمدُّناته وتحاوراته.

د- دمج الميتودولوجي بالموضوعي، والمنطقي المنهجي بالمعرفي والمضموني عبر كيانين:

  • د-أ- كيان بيداغوجي، يجمع بين الإمكانات:
  • د-أ-أ- المنهجية؛ من الإشكال وشروطه ونمط بنائه، ومن المنهج والإحالات والمفاهيم وعلاقة المقدمات بالنتائج ومدى تماسكها، وغير ذلك مما هو داخل ضمن دائرة المناهج.
  •  د-أ-ب- المنطقية؛ من الماقبلي والتصوري والتصديقي والبناء المتماسك والهوياتي والعلي والنِّسَبي والعلقي والاستنتاجي والاستنباطي والاستقرائي والاشتقاقي والتركيبي والتبسيطي، وغير ذلك مما هو طي مربع المنطقيات.
  • د-ب-كيان معرفي، ثري بالإمكانات الإبستمولوجية والموضوعية.

يَمُنُّ هذا الكتاب على فصوله ومباحثه باستئناف تحليل نظري وتطبيقي، عبر منطوق البراديغم، وإبراز أهميته في العلوم باعتباره القائد الأعلى لمضامينها، مارّاً كذلك على تحليل الإشكالات والمفاهيم والاقتراضات والظواهريات وشروط تحاورها وعلاقاتها وتكاملاتها. فكانت مسيرة هذا الكتاب:

  • أ- نظرياً: هي التنصيص على شروط تكامل العلوم، وتحديد علاقاتها، مع التفصيل في صور الإشكالات وشروطها في العلوم الوحيانية والطبيعية والروحية، وضرورة مراعاة الباحث لها أثناء الاشتغال بها، وأنماط العوائق المعرفية والتاريخية والبيداغوجية، وصور الجماعات العلمية، وأعداد الأنساق، وتأثيرات البراديغمات وشرائطها، وتحليل رتب الاجتهاد بأنواعه في ظواهريات (أيْ علوم) الوحي وظواهريات الروح (أيْ العلوم الإنسانية)، وغير ذلك.
  • ب- تطبيقياً: التركيز على نماذج من علوم الروح والوحي، من حيث الاشتباكات التطبيقية والحوارات البيداغوجية بينها، وصياغة فلسفة واحدة فيها، تكون كنقطة تقاطع علوم كثيرة، إسلامية وإنسانية، وتحديد مدى تحاوراتها وشأو اشتباكاتها، رافعاً -هذا الكتاب- لافتةَ إشكالِ “ما العلاقة؟” فيها، وذلك كعلاقة المناهج بالموضوعات (كما مثلتْ ذلك علاقةُ القسم التطبيقي بالقسم النظري في هذا الكتاب) وعلاقة المقاصد الشرعية والعقدية بالهيرمينوطيقا، وعلاقة الفلسفة بالعلم، والوحي بالإنسانيات، وعلاقة الموسيقى بالمعنى والتركيب، وعلاقات الأنتولوجيا بالإبستمولوجيا، وعلاقة النحو بعلم الكلام أو علم الكلام اللساني بعلم الكلام العقدي، وعلاقة اللسانيات الذاتية بالنحو، وعلاقة علم النحو الإضافي بعلم الاجتماع والعقيدة، وعلاقة المنطق بالأخلاق عبر علاقة العاطفة بالاستدلال، وعلاقة الأخلاق بالعلوم الإنسانية والشرعية، وعلاقة التكنولوجيا بالعلوم الوحيانية والروحية إلى أفق ما بعد العلوم الإنسانية أو بناء “العقل الإنصاعي”، أي العقل الإنساني الاصطناعي؛ عبر نموذجيْ تقنية الذكاء الاصطناعي وتقنيةِ سلسلة الكتل أو “البلوكتشين”، وغير ذلك.

فكان هذا الكتاب يهدف إلى ترسيم شرائط ومؤثِّثات ومفاهيم وأسس ومظاهر وتجليات وقيم وتقسيمات ومنافذ:

  • بناء تحاورات بين المناهج والموضوعات.
  • تكوين علاقات بين علوم الوحي وعلوم الروح وعلوم الطبيعة.
  • تأسيس علاقات الأنتولوجيات بالإبستمولوجيات.
  • تأطير نماذج الباحثين في هذه التحاورات، من مثل “الفيلسوف المجتهد” وعكسها، ورتبة “الاجتهاد الفلسفي” وعكسها، وبِنْيَات ذلك.
  • توجيه الوحدة العلمية وتكاملاتها العاكسة لبناء الوحدة الحضارية وتحاوراتها.
  • هندسة علوم جديدة، مثل علم “فقه نِسب العلوم” الذي يعزز تكامل العلوم نحو جعله براديغماً، حيث أراد هذا الكتاب أن يستأنف علماً جديداً وهو “فقه النِّسَب العلمية”، وهو دراسة علاقات العلوم من حيث نَسَبها بعضها ببعض، وتكافؤاتها، وتنافساتها، واستمداداتها من بعضها بعضاً، وانتهاء بعضها إلى بعض، وتشابكها، وتشاجرها، وتناقدها، وتجادلها، وتناظرها، وتراصِّها، وتقارضها، وسفر بعضها إلى بعض، وذلك من حيث هجرة المفاهيم وارتحال الاستدلالات واستقراض المضامين واستعارة الأعلام والمدوَّنات، وتفكيك العلاقات التقليدية بين العلوم، وذلك لغاية تجديد تلحيم هذه العلاقات وفق قالب آخر، وشروط كل ذلك وحدوده وسياجاته وإمكاناته ولزوماته ومقتضياته وضروراته ومُحالاته وممكناته.
  • تفكيك العلاقات السابقة بين العلوم وإعادة التفكير فيها من جديد، بغيةَ:
  • إعادة تلحيم هذه العلاقات من جديد، وصياغتها وفق قالب آخر، وتشحيم مختلف.
  • خلق علاقات جديدة بين علوم يبدو أنها متباينة، كالمنطق والأخلاق، وغيرهما.

إشكال البحث وأسئلته المنهجية المتبعة

هذا الكتاب بحث في العلاقات أساساً، علاقات العلوم ونِسبها، وذلك عبر:

  1. كشف هذه العلاقات وتوضيحها، وإبرازها للنظَّار.
  2. تحليل هذه العلاقات تحليلاً مطرداً وعيْنياً.
  3. تفكيك هذه العلاقات تفكيكاً شاملاً.
  4. ضخ تفكير جديد طي هذه العلاقات، ونَشْلها من وحل الجمود وبراثن الركود.
  5. تقفي هذا الكشف والتحليل والتفكيك، وإعادة الضخ للفكر فيه، من حيث تتبع استتباعاته وآثاره ومفترضاته ومقتضياته ومتوالياته ولزوماته التي يفرضها نسقه وبراديغمه.
  6. تشبيك هذه العلاقات وتعليقها بعضها ببعض، أي تكوين علاقات للعلاقات، وفق إطار علم “فقه نسب العلوم”، وتجاوز الطور القديم -فقه نسب العلوم الأرسطي القديم- الذي يبني علاقات للماهيات، ويرسم الارتباطات بين الأشياء، ويلاصق الوشائج بين الذوات ليس غيرُ. ومردّ بناء علاقات للعلاقات، أي بناء علاقات جديدة لعلاقات العلوم بعضها ببعض، هو تجاوز النظر القديم القائم على كون الأعراض باعتبارها علاقات، لا تقوم إلا بذوات باعتبارها جواهر. وحينما كان هذا البحث ينتقي من عدة علومٍ ذاتَه ويستمد من كثيرها حقائقَه، وطيها فلسفة الفيزياء الكوانتية أو فيزياء الكوانتم (Quantum Theory The) التي أصرت على قيام كهرومغناطيسيات (والتي تقارب “الأعراض” بالتعبير القديم) بذاتها، دون حاجتها إلى جُسيمات (والتي تقارب “الجواهر” عند الإطلاق القديم) تقوم بها، وهو ما يمكن تأويله كلامياً إلى إمكان قيام أعراض بذاتها، دون الحاجة إلى الجواهر أو الموضوعات؛ أمكن البحث بكل هذا، بناء علاقات على علاقات، قياساً على بناء الأعراض على الأعراض، التي استقلت -كوانتياً- عن تبعها للموضوعات والجواهر.
  7. إعادة التفكير في هذه العلاقات، وإعادة كشفها، وإعادة تحليلها، وإعادة تفكيكها وتشبيك علاقاتها، وإعادة ضخ تفكير جديد فيها، وإعادة تقفيها استتباعاً وآثاراً ومفترضاتٍ ومقتضيات ومتواليات ولزومات.
  8. وكل هذا يؤدي إلى تبسيط العلاقاتِ علاقاتِ العلوم من جديد، وإعادة تركيبها، أي إعادة تركيب العلاقات من جديد.

لأجل هذه الثمانية، تكون صيغةُ إشكالِ الكتاب الرئيسي، هي: “إذا تم افتراض أن العلم علاقات قبل كونه ماهيات؛ فهل كل العلوم، الوحيانية والروحية والطبيعية، تثوي طيها مُكنة احتواء هذه الثمانية على المستوى النظري وكياناتها التطبيقية؟”.

ويتم هذا، عبر الإجابة على أسئلة البحث المنهجية الآتية:

  1. ما أهم البراديغمات التي حكمت مختلِفَ الحقب المعرفية مع تحديد أهم محطات تطوراتها عبر حركية تأريخ الأفكار وتأريخ حوار المعارف؟ وعبر تحديد أهم البراديغمات الكبرى للعلوم والمعارف؛ يتكون لنا أساس نظري -يحاجج الكتاب عليه- يمكن من خلاله الكشف عن مقتضياته، والتي منها “براديغم وحدة العلوم والمعارف”، المستلزِم لافتراضِ كل علم وكل معرفة حواراً ضرورياً مع غرائمه من المعارف والعلوم الأخرى. ومن خلال تحليل كل مقتضيات براديغمات العلوم والمعارف؛ ينهض البحث نحو الإجابة عن أسئلةٍ صيغتها كالآتي:
  2. ما هي أهم الحقب الإبستمولوجية التي تؤطر تأريخ العلوم وتكامل المعارف وتحاوراتها، وخصائص بعض الحقب منها؟
  3. ما القيمُ المستخلصةُ من تأريخ بساط الأفكار والعلوم، والحاكمةُ لحركية تأريخها وتحاوراتها؟
  4. كيف تتكون تقاطعات العلوم مع بعضها بعضاً؟ مع تحديد هذه التقاطعات وأنواع علاقاتها، وذلك من حيث التنقيب عن اشتباكات الحقول المعرفية، ورسم خريطة معرفية لها تفيد في تحديد: أهم الالتقاءات بين العلوم، ومواد تعارف المعارف، وموارد انفصالاتها. أهم محطات ارتحالات المفاهيم، واقتراضاتها من علم إلى آخر. أهم نقاط سَفر الحُجَج بين العلوم، وصيغ استعارة الاستدلال من معرفة إلى أخرى. طرق التصور الذهني لحوار المعارف المفيدة في الإطار البيداغوجي التعليمي، مع التعريج على أهمية البيداغوجيات عبر التاريخ في تكريس حوار العلوم وتكاملها.
  5. كيف يمكن تشبيك المنهجي بالموضوعي، الماهوي والعلَقي، التأسيسي والتأويلي؟
  6. ما هي خرائط العلوم الأرسطيةُ وغيرُ الأرسطية واشتباكاتها الفعلية وعلاقاتها الحاصلة؟
  7. في سياسة البحث في حوار العلوم، لا بد من استصحاب مفاهيم منهجية مهمة، كمفهوم “مظنة العلوم المركزية” الذي يجيب عن سؤال “في أي ثيمة نفكر؟”، ومفهوم “بناء علاقات للعلاقات”، الذي يجيب عن سؤال “بأي منهج نفكر؟”، ومفهوم “الجماعة العلمية”، الذي يحاول استيعاب سؤال “تحت أي سردية نجتمع نحن الجماعةَ العلميةَ التي نفكر معها؟”، ونحوها من المفاهيم التي سطرها البحث تحتُ، والتي لدى كل منها سؤالها المنهجي التابع لها والموالي عنها، حيث كل مفهوم يجر وراءه متوالياته من الأسئلة أو “متوالياته السؤالية”.
  8. هل يمكن تقديم نماذج تطبيقية لعلاقات بعض العلوم -التي يبدو أنها غريبة عن بعضها بعضاً، كالمنطق والأخلاق مثلاً- تؤكد الجدار النظري الذي تؤسسه الأسئلةُ السبعة السابقة؟
  9. أراد هذا الكتاب أن يقدم محاولةً لـتأسيس علم جديد، وهو علم “فقه نسب العلوم”. فهل ينجح في ذلك؟ يبتُ في ذلك متنُ الكتاب تحتُ.
  10. يقرر هذا الكتاب أن الفلسفة الأرسطية أو البراديغم الأرسطي قدم العلوم باعتبارها “ماهيات”، في حين يحاول في جل فصوله أن يقدم العلوم باعتبارها “علاقات”. وكون “العلوم علاقات” باعتبارها الصيغة الثانية لنموذج العلم؛ هو التطور الأصيل لصيغة كون “العلوم ماهيات” باعتبارها الصيغة الأولى لنموذج العلم. لكن، هل يمكن تجاوز صيغة “علاقات العلوم”، التي قدمها هذا الكتاب وغيره، إلى صيغة ثالثة لنموذج العلم، وهو بُعْد “ما بعد علاقات العلوم”، وذلك نحو صيغة تتجاوز بُعدَ “ماهيات العلوم” الذي انتهى في آخر مطافه إلى بُعد “علاقات العلوم”، وتتجاوز كذلك بُعدَ “علاقات العلوم”. ولأجل البعد الثالث قدم هذا الكتاب نموذجاً خبرياً لا استخبارياً له، وذلك عبر ما سماه في الفصل الأخير “ما بعد العلوم”، وانتقى لهذه المابعدية العلمية نموذج العلوم الإنسانية، فكانت صيغة هذا البُعد هي “ما بعد العلوم الإنسانية”.

منهج البحث

إذا كان موضوع البحث معقَّداً بعدة إشكالات تؤثث إشكاله الأكبر، وإذا كان مركباً من عدة معارف وتخصصات يختار طريقه الحريريَّ طيَّ زحام القضايا المؤالفة والمخالفة لموضوعه؛ فإن منهجه، على غرار موضوعه، سيتشبَّع بهذا التركيب والتعقيد طرداً وعكساً. كما أن موضوع البحث متعلق بالعلاقات أساساً، أي هو بحث عن المنهج قبل كل شيء، وأي بحث هنا في موضوع أو مواد هو بحث تبعي له أو تطبيقي فيه ليس غير. لكن الآليات التي سنشتغل بها مستمدةٌ من العلوم المعرفية (The Cognitive Sciences)، وفلسفة الذهن (Philosophy of The Mind)، وفلسفة المنطق (Philosophy of The Logic)، والعلوم الشرعية كلاماً وأصولاً ونحواً، والدراسات الأدبية التذهنية (The Cognitive Literary Studies). وهذا المنهج المفترَض هو منهج مركب متعدد الاختصاصات (The Interdisciplinarity)، يمتح من كل مناهج العلوم المشار إليها قبلُ، بما يفيد في كل جهة وموقع من البحث المنهجَ الملائم لها، وبما يقدم مقاربة جديدة للفرضية التي نسعى لتحويلها أطروحةً، وبما يتجاوز المنهج الفردي الذي يدرس جهةً وفق منظوريته، نحو نقد وتحليل علاقات العلوم، وبناء علم “فقه نسب العلوم”.

لكننا نركز هنا على المنهج الأنتوتأسيسي (Ontogenetic) أكثر من غيره، وهو منهج استعملناه في أواخر بحوثنا وخصوصاً أطروحة الترشح لنيل شهادة الدكتوراه التي نالها الباحث في يوليو/تموز 2023، من كلية أصول الدين بجامعة عبد المالك السعدي بالمغرب، والتي كانت بعنوان: “منطق الاستدلال في العلوم الشرعية ومناهجها.. جرد ونقد في فلسفتي منطق ولسانيات النفي والإثبات.. أنساق أصولَيْ الدين والفقه والنحو مثالاً”.

إن هذا البحث يعتمد منهج الأنتولوجيات التأسيسية (Ontogenetics) التي تقلب الفكرة من حيث أصولها وعلاقاتها واستتباعاتها ولزوماتها، وهو منهج بيداغوجي استدلالي أساساً، إذ يبحث في الأسس الأنتولوجية الأولى للأمور ويرجعها إليها ويفسرها بها. لكننا هنا نتجاوزه، وذلك من خلال الإرجاع إلى النسق برمته كذلك، وليس الإرجاع إلى الأنتولوجيا وحدها فحسب، مع زيادتنا التجذير لهذه الأسس في مختلف العلوم. إن اختيارنا لهذا المنهج المتعدد الاختصاصات عبر العلم التذهني، الذي هو من أوسع العلوم -إن لم يك أوسعها- التي تثوي طيها مختلف الاختصاصات والميتودولوجيات، وعبر الدراسات التذهنية الأدبية وفلسفة الذهن وفلسفات المنطق؛ ليس إلا محاولةً لتقريب المقاربة المنهجية في العلوم الإنسانية عبر دمجها “بــ”/”في” ذلك المركب المعرفي المنهجي المنطقي، لتحقيق أقدر استدلال ممكن على إمكان خلق جغرافية منهجية واحدة للعلوم الإنسانية، وبناء منطق معرفي واحد متعدد المناهج، ليتم الانتقال من معرفة متعددة الاختصاصات إلى منهج متعدد المنهجيات.

Stack of books background. many books piles.

ملخص تصميم البحث

يتكون هذا البحث من مقدمة، وقسمين رئيسيين: نظري وتطبيقي، ينقسم كل منهما إلى فصول متعددة تحتوي على مباحث ومطالب، ويتوج بخاتمة وتوصيات. في القسم النظري، يناقش الفصل الأول أسس حوار العلوم وفق البراديغم الأرسطي وتقسيماته عند المشائين. ثم ينتقل إلى فصل يستعرض الأسس المنطقية والدينية لوحدة العلوم، تليها فصول تتناول حوار العلوم براديغمياً ومنهجياً، وتقدم خريطة لوحدة العلوم تاريخياً ومنطقياً، بالإضافة إلى استعراض شروط وقيم وحدة العلوم الوحيانية والروحية والطبيعية.

أما القسم التطبيقي، فيبدأ بعلاقة علوم الوحي وعلوم الروح عملياً، مستعرضاً حوارات الهيرمينوطيقا مع مقاصد الشريعة والعقائد، ثم يناقش علاقة علم النحو بعلم الكلام وتطبيقات “علم النحو الإضافي”. يتناول البحث أيضًا “اللسانيات الذاتية” و”اللسانيات الجنائية”، ويتطرق إلى حوار العلوم داخل “فلسفة الأخلاق” واشتباكاتها، وصولاً إلى علاقة المنطق بالأخلاق ووحدة الاستدلال العاطفي والمنطقي. الفصل الأخير يتناول “ما بعد العلوم الإنسانية” وأهمية الإنسانيات الرقمية وتقنية سلسلة الكتل، ودورها في تجديد العلوم الإنسانية وتكاملها مع العلوم الطبيعية والتكنولوجية.

تسعى هذه الفصول جميعها إلى تقديم رؤية شاملة ومنهجية لتكامل العلوم المختلفة وتعزيز الحوار بينها، بهدف بناء نمط علمي وحضاري متكامل ينعكس على التعليم والفكر العلمي.

يهدف الكتاب إلى تقديم مقاربة شاملة لتكامل العلوم من خلال دراسة العلاقات بين مختلف التخصصات والعمل على توحيد الجهود العلمية لتحقيق فهم أعمق وأكثر تكاملاً.

الخلفية المعرفية للكتاب

تم تناول موضوع “تكامل العلوم” من عدة باحثين في كتب كثيرة من جامعات ومناطق مختلفة، كما تمت الكتابة في “حوارات العلوم” بشكل معتبر. لكن منطلق بحثنا الذي حددناه، يظل شذرياً في كتابات الباحثين قديماً وحديثاً، ولا سيّما أن جهة هذا الكتاب جمعت النظري المعياري بالتمثيل التطبيقي تحت قبَب واحدة من الأنساق والاستدلالات والتحقيبات والنِّسب والخرائط والقيم والبيداغوجيات، بما يروم تأسيس علم جديد وهو “فقه نِسب العلوم”. وهذا ما رام هذا البحث صياغته وتأليفه من جديد، عبر منهج آخر وهو “منهج الأنتولوجيا التأسيسية”.

ومن هنا، فإنه حسب بحثنا -القاصر- في المتاح الحالي من المكتبات المتوفرة واطلاعنا السابق حول الموضوع؛ لم نجد أي دراسةٍ تتناول الموضوع من الجهات التي ذكرنا هنا أننا عالجناه طيها، والمنظورات التي شاهدناه ووصفناه من خلالها، عدا شظايا نادرة ومتفرقة بين بطون الكتب في تخصصات مختلفة، والتي لا تعالج أساساً أطروحة “الأسس النظرية والعملية لحوار العلوم وتكامل المعارف: بحث في أنساقها واستدلالاتها وتحقيباتها وعلاقاتها وخرائطها وقيَمها وبيداغوجيتها اتصالاً وانفصالاً؛ نحو تكامل النظام التعليمي (محاولة لتأسيس علم “فقه نِسَب العلوم” وجعله ممكناً)”. ومن ثم؛ فالبحث حاول مقاربة جوانب مهمة في ذلك، لبناء “فقه نسب العلوم” باعتباره نمط وجود؛ من حيث هو:

  • نمط وجود علمي يعكس وحدة العلوم.
  • نمط وجود حضاري يعكس وحدة الحوار الحضاري بين الأمم.
  • نمط وجود بيداغوجي يعكس وحدة المناهج والموضوعات. نمط وجود أخلاقي يعكس وحدة قيم كل العلوم.
  • نمط وجود اجتهادي يعكس ضرورة توحُّد المجتهدين في تأسيسه وإنشائه وتوسيعه وإثرائه، للانتقال من:
  1. رتبة “المجتهد الفيلسوف”، أي الذي دخل العلوم الإنسانية وفلسفة العلوم الطبيعية عبر العلوم الوحيانية، ومن مفهوم “الفيلسوف المجتهد”، أي الذي دخل العلوم الوحيانية عبر العلوم الإنسانية وفلسفة العلوم الطبيعية.
  2. إلى رتبة “الاجتهاد الفلسفي” ورتبة “الفلسفة الاجتهادية”، باعتبارها تلكم المعرفة التكاملية التامة التي يحق بها لصاحبها الاجتهاد في تحاورات العلوم والإفتاء في علوم الوحي وعلوم الروح والطبيعة. وهذا الاجتهاد ينبغي أن يكون عبر: “الفلاسفة المجتهدين” و”المجتهدين الفلاسفة”، عبر جماعة علمية متكاملة.
    فكما أن تكامل العلوم والتجسير فيما بينها بجسر الحوار يروم تجميع عدة علوم منهجياً وتحويرها منطقياً، ينبغي أن ينعكس على طلابه، فيجتهدون جماعياً، على مستوَييْ:
  3. حشد “فلاسفة مجتهدين” كثر أو “مجتهدين فلاسفة” متعددين، جمع كل واحد منهم بين عدة تخصصات، حتى نال رتبة “الفيلسوف المجتهد” ورتبة “المجتهد الفيلسوف”.
  4. حشد عدة علماء، كل له تخصصه، ليقدم وجهة نظره في موضوع ما من منظور تخصصه الدقيق.

—————————————————————————————————————–

  • * هذا الكتاب فاز بالرتبة الثالثة لجائزة قطر العالمية لحوار الحضارات، في دورتها الرابعة لعام 2023-2024.
  • * “براديغم” (Paradigm): هو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى نموذج أو إطار مرجعي ينظم ويوجه التفكير والبحث في مجال معين. فمثلا في العلوم والفلسفة، يعني البراديغم مجموعة من المفاهيم والنظريات والمعتقدات والممارسات التي تشكل رؤية مشتركة للعالم داخل مجتمع علمي. ويمكن أن تتغير البراديغمات بمرور الوقت عندما تُستبدل بنماذج جديدة تُحدث ثورات علمية أو نقلة نوعية في الفهم والمعرفة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *