الأسد الباكستاني المتحفز.. رحلتي إلى ديار إقبال وآثاره

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 100 دقيقة للقراءة

مِن الفَقْر أن تأتي وِفَاضُك فارغٌ

وقد طُفتَ في تلك الرِّياض جميعِها

(سعدي الشيرازي)

تبدو لي خريطة باكستان دائما في شكل أسَد متحفِّز، منتصبِ الجسد على الضفة الشرقية لبحر العرب، يحمل أفغانستان على ظهره، ويُطلُّ برأسه الشامخ من قمم جبال الهيمالايا، وهو يتَّجه عبر سفوحها بغضب إلى الهند.

وتقع مدينة لاهور في مكان القلب من جسد هذا الأسد الباكستاني المتحفِّز، فهي حاضرة عريقة، وعاصمة لأولى الدول الإسلامية في الهند، الدولة الغزنوية. وقد بلغت لاهور أوج الازدهار والأبَّهة أيام الإمبراطور المغولي جلال الدين أكبر (1542-1605م)، وابنه الإمبراطور نور الدين جهانغير (1569-1627م)، اللذين اتخذاها عاصمة الإمبراطورية الإسلامية المغولية في الهند. وتُعتبَر لاهور اليوم مدينة الشعر والثقافة في باكستان، فضلا عن وفرة سكانها الذين يتجاوز عددهم أربعة عشر مليون نسمة. أما شغاف القلب من هذه المدينة العريقة فهو ضريح الشاعر الفيلسوف محمد إقبال (1877-1938م)، والمجمَّع التاريخي الضخم المحيط به، وهو يشمل “مسجد بادشاهي” الفخم، والقصر الإمبراطوري العريق المعروف باسم “شاهي قلعة”.

وأعتقد أن إقبالاً لو كان امتدَّ به العمر حتى شهد ميلاد جمهورية باكستان الإسلامية، وتأمَّل ملامح خريطتها الأسَدية بعينه الصَّقْرية، لأعجبه ما تُوحي به هذه الخريطة من المعاني والظلال. ومما يزكِّي هذا الاستنتاج أن الأسد -ومثله الصَّقر- من أهم المجازات الشِّعرية التي يعبّر بها إقبال عن فلسفة العزة والقوة التي آمن بها، ودعا المسلمين إليها. فقد تردد في شعره تعبير “أسد الله” وصفا لعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وغيرهما من الصحابة الكرام والقادة العظام، كما تردد في شعره تعبير “قلب الأسد” وصفا للشجاع الجَسور، ووصف الأفغان بأن “دماء الأسود تسري في عروقهم”.

وهذه حكاية رحلتي إلى لاهور، ترسُّمًا لخُطَى الشاعر محمد إقبال، الذي كان يُعرف باللَّاهوري أحيانا. وهي رحلة حلُمتُ بها مدة مديدة، ولم يتيسر السبيل إليها إلا منذ بضعة أسابيع. وقد حملتني هذه الرحلة الـمُلهمة إلى “جاويد منزل” البيت الذي عاش فيه إقبال خواتيم حياته ولفظَ فيه آخر أنفاسه، ولقاءِ ثلاثة من أحفاد إقبال والاستمداد من ذاكرتهم العائلية عن جدِّهم العظيم، وزيارةِ “مزار إقبال” وهو الضريح الذي يحوي جسد إقبال، وقد تحوَّل وجهةً للزائرين من أنحاء العالم. كما تضمَّنت الرحلة زيارة “أكاديمية إقبال” التي تُعنَى بنشر تراثه بكل لغات الدنيا، وإلقاء محاضرة فيها عن أصداء شعره وفكره في العالم العربي، ثم زيارة مركز “بستان إقبال” الذي يقدِّم فكر إقبال للأجيال الجديدة.. ومواقع أخرى تحمل عبَق التاريخ، وتثير الحنين.

وقد تبدو حكاية رحلتي هذه -لأول وهلة- حكاية شخصية جدًّا، وهي كذلك بمعنى من المعاني. لكنها تضمَّنت أبعادًا سياسية وعمرانية، وسياقاتٍ أدبية وثقافية، أخرجتْها إلى آفاق أرحب من مجرد الانطباعات الشخصية. وأرجو أن يشفع لها ذلك في عين القارئ الكريم، فلعله واجد فيها شيئا من الفائدة والإمتاع والمؤانسة.

 

قرابة الوجدان والمكان

كان محمد إقبال سبَّاقا إلى النداء بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في الأقاليم ذات الكثافة السكانية الإسلامية من شبه القارة الهندية، حفاظا على ذاتهم وهويتهم، وضمانا لاستمرار إسهامهم في الحضارة الإسلامية، وارتباطهم بالأمة الإسلامية التي آمن إقبال بوحدتها إيمانا عميقا. وجاء هذا النداء -الذي سرعان ما تحول برنامجا سياسيا للملايين من المسلمين- في خطاب ألقاه إقبال بمدينة “الله آباد” في ديسمبر 1930م أمام المؤتمر السنوي لـ”رابطة عموم مسلمي الهند”، ثم تحول الخطاب -الذي اشتهر لاحقًا باسم “خطاب الله آباد”- إلى ما يشبه شهادة الميلاد الرسمية لجمهورية باكستان الإسلامية. ويجد زائر باكستان اليوم مقتطفات من ذلك الخطاب التاريخي مرسومة على لوحات جدارية، تتزين بها بعض المؤسسات العامة.

حينما أعلن طاقم الطائرة بداية الهبوط إلى “مطار العلامة إقبال” في لاهور اهتز قلبي بهجةً بتحقُّق الحلم الذي انتظر ربعَ قرن من الزمان، منذ أن اكتشفتُ إقبالاً في ختام التسعينيات من خلال كتب عربية مختصرة، قدَّمتْ للقارئ جوانبَ من حياته، وشذراتٍ من شعره وفكره. وتوالت السنون وأنا أتتبَّع كل ما أستطيع الحصول عليه من أعمالٍ له في ترجماتها العربية والإنجليزية والفرنسية، وأعمالٍ عنه باللغات الثلاث. ثم تحقق الفتح الأعظم في هذا المضمار بعد حصولي في الأعوام الأخيرة على منشورات “أكاديمية إقبال” في لاهور، وهي المؤسسة العلمية التي أحدثت ثورة حقيقية في الدراسات عن إقبال، أو “الإقباليات” كما يحب أن يدعوها الباحثون الباكستانيون.

قبل وصولي مدينة لاهور بيومين، حطَّت بي الطائرة في مطار مدينة كراتشي فجرًا، بعد رحلة من مطار حمَد بن خليفة في الدوحة استمرت ساعتين وبضع دقائق. وكان أول ما فاجأني -حين أعلن طاقم الطائرة قرب الهبوط- هو قِصَر زمان الرحلة. فقد كنت أدرك دائما أن باكستان قريبة من الجزيرة العربية في الوجدان، لكني لم أنتبه من قبلُ إلى أنها قريبة منها في المكان لهذا الحدّ. ولعل ما دعاه جمال الغيطاني (1945-2015م) “الحَوَل الثقافي” الذي أصاب العرب المعاصرين، فجعلهم لا ينظرون إلا غربًا، هو الذي أنساني هذه الحقيقة الجغرافية الواضحة. فأنا الذي ضربتُ في الأرض مغرِّبًا، وعشتُ في أقصى بقعة من غربِ الغرب، على سواحل كاليفورنيا، لم أكن منتبها لقرب المسافة بين باكستان والجزيرة العربية. فالانجذاب إلى الأجنبي الغريب أنْسانَا الشقيق القريب!

تقع كراتشي على الضفة الشرقية من بحر العرب، في الطرَف الجنوبي الغربي لباكستان، وهي أوفر مدن البلاد سكانًا، إذ يتجاوز عدد سكانها ستة عشر مليون نسمة. وهذا الجزء الغربي من باكستان هو أوثق أقاليمها صلة تاريخية بالعالم العربي، خصوصا سواحل عمان واليمن والخليج. كما أن كراتشي هي عاصمة إقليم السّنْد المشهور في تاريخ صدر الإسلام، لأنه أول أقاليم القارة الهندية التي وصل إليها الفتح الإسلامي في نهاية القرن الأول الهجري. وكان ذلك على يد محمد بن القاسم الثقفي (62-98هـ/ 682-717م) القائد الشاب الجَسور الذي يصفه الزركلي في كتاب “الأعلام” بأنه “من كبار القادة ورجال الدهر”. وقد وَليَ ابن القاسم قيادة جيش الفتح في جنوب فارس وشمال الهند وهو في السابعة عشرة من عمره، وإلى ذلك يشير الشاعر حمزة بن بيض الحنفي (ت 116ه/734م)، بقوله:

إن المروءة والسماحة والنَّدَى … لمحمدِ بن القاسم بن محمدِ

ساسَ الجيوش لسَبْع عشرةَ حِجَّةً … يا قربَ ذلك سُؤدَدًا مِن مَوْلدِ

ويقول المؤرخ العسكري العراقي اللواء الركن محمود شيت خطاب (1919-1998م) في كتابه: “قادة فتح السند وأفغانستان” إن محمد بن القاسم لما قُتِل وهو شاب في قمة عطائه، جرَّاء المكائد الشخصية والأنانية السياسية: “بكاه أهل السند من المسلمين لأنه كان يساويهم بنفسه، ولا يتميز عنهم بشيء، ويعدِل بالرعيَّة، ويَقسم بالسَّويَّة… وبكاه أهل السّنْد من غير المسلمين، لحُسن معاملته لهم، وتأمينهم على أموالهم وأنفسهم، وإطلاق حرية العبادة لهم”.

كانت مهمتي في كراتشي هي المشاركة في مؤتمر للمنظمات الطلابية الإسلامية، بدعوة كريمة من “الجماعة الإسلامية في باكستان”، وهي إحدى أقدم الجماعات الإسلامية الإصلاحية المعاصرة، أسَّسها عام 1941م العلامة أبو الأعلى المودودي (1903-1979م). وقد اغتبطتُ كثيرا خلال يومَي المؤتمر بوفرة الحضور الشبابي وحيويته. وبعد انقضاء المؤتمر سارعتُ بالرحيل إلى لاهور.

 

جولة في “جاويدْ منزلْ”

كانت زيارة “جاويد منزل” من أهم مقاصد رحلتي إلى لاهور، ترسُّمًا لآثار إقبال وأنفاسِه، بعيدًا عن تجريدات الكتب النظرية الوافرة التي قرأتها عنه. و”جاويد منزل” هو الاسم الذي اختاره إقبال وزوجته “سردار” للبيت الجميل الذي شيَّداه. وقد تضمَّنت هذه التسمية تورية، حيث إن معنى كلمة “جاويد” في اللغة الأوردية هو “الخلود”، كما أن “جاويد” هو الاسم الذي اختاره إقبال لابنه جاويد إقبال (1924-2015م). وبذلك يكون للتسمية الأوردية “جاويدْ منزلْ” معنيان: “دار الخلود”، و”منزل جاويد”. ويبدو أن إقبالًا كان يحب التورية باسم ابنه جاويد، فقد عنون أحد دواوينه بعنوان: “جاويد نامه”، وتُرجم هذا الديوان إلى العربية بعنوان “رسالة الخلود”، لكن بعض الأدباء اعتبره “رسالة إلى جاويد” موجَّهة من إقبال إلى ابنه، والتورية تتَّسع للمعنيين، وما أظنُّ إقبالًا إلا قصدهما معا. وقد نقل إقبال ملكية البيت بالاتفاق مع زوجته “سردار” إلى ابنهما جاويد قبيل وفاة سردار بقليل. وكان من أسباب ذلك -فيما يبدو- إحساسهما بقرب الرحيل، فأصبح المنزل منزلَ جاويد، واقعًا وقانونًا، لا مجازًا وتوريةً.

أمام المدخل من بيت إقبال المسمَّى "جاويد منزل"

ورغم أن البيت سُمِّي تفاؤلا “دار الخلود” -في أحد المعنيين لتسميته- فإن سردار وإقبالًا لم يُعمَّرا فيه كثيرا. فقد انتقلا إلى المنزل يوم 20 مايو 1935م، وتوفيت سردار بعد انتقالهما إليه بثلاثة أيام فقط، يوم 24 مايو. أما إقبال فقد توفي بعد نحو ثلاث سنين من الانتقال إلى المنزل الجديد، يوم 21 أبريل 1938م. وقد أنفقت سردار من مالها الخاص لشراء الأرض التي شِيد عليها البناء، فأصرَّ إقبال على أن تكون ملكية البيت لها. ثم نقلت هي ملكية البيت -بعد ظهور أمارات المرض عليها- إلى اسم ابنهما جاويد. وربما كان من دوافعها إلى ذلك وجود أخ أكبر غير شقيق له هو أفتاب إقبال (1998-1979م). وكان أفتاب في الأربعين من عمره حين توفي أبوه إقبال، بينما كان جاويد يومذاك في الرابعة عشرة من عمره، وشقيقته منيرة في الثامنة من عمرها.

شِيدَ “جاويد منزل” في شكل فيلا فسيحة، بيضاء اللون، ذات مدخلين أماميٍّ وجانبيٍّ، بأعمدة وأقواس عند مدخليْها، أضفتْ عليها مسحة من ملامح العمارة الإسلامية الهندية والأندلسية. وقد أقام جاويد إقبال وشقيقته منيرة في المنزل بعد وفاة والديهما، وأقام معهما بعض أقاربهما، ومربِّيتهما الألمانية الوَفيَّة دُورِيس أحمد.

زرتُ “جاويد منزل” ثلاث مرات خلال الأيام الخمسة التي مكثتُها في لاهور. ويتألف المنزل من قسمين: قسم أمامي ذو مدخل رئيسي، وقد صُمِّم لاستقبال الضيوف وأعمال إقبال، وقسم خلفي ذو مدخل جانبي، وهو مخصص للأسرة. وقد قررت الحكومة الباكستانية، في الذكرى المئوية لميلاد إقبال عام 1977م، تحويل “جاويد منزل” إلى “متحف العلامة إقبال”، وافتُتح المتحف رسميا عام 1981م.

معرض لشهادات إقبال الجامعية في "جاويد منزل"

ويجد الزائر للبيت/المتحف اليوم معالم من حياة إقبال الشخصية معروضة في مناحيه. منها: سجادة صلاته، ومسوَّدات كتبه ودواوينه بخط يده، وشهاداته الجامعية. كما يجد مقتنيات شخصية منها ثياب، ونعال، ونظارات، وساعة يدوية، وخاتم. وقد عُلِّقت على أحد جدرانه الداخلية سجَّادة كبيرة مهداة من ملك أفغانستان نادر شاه (1883-1933م) الذي كان يكنُّ توقيرا كبيرا لإقبال. وقد استدعى هذا الملك إقبالًا إلى أفغانستان في أكتوبر 1933م، ليستشيره في الإصلاح التربوي في بلاده، وما لبث أن اغتيل الملك وماتت الفكرة معه. وفي غرفة نوم إقبال في “جاويد منزل” يجد الزائر سريره الذي كان ينام عليه، وعليه توفي فجر يوم 21 أبريل 1938م. وقد ضُبِطت الساعة الجدارية على لحظة وفاته، وهي الرابعة وأربع دقائق فجرًا.

وكان علي بخش، خادم إقبال الملازم له منذ أيام الدراسة، هو آخر الناس عهدًا به، حيث توفي بين ذراعيه. وهو الذي وصف لنا اللحظات الأخيرة من حياته. ومنها أن إقبالًا رفض استعمال أدوية الألم تلك الليلة قائلا إنه لا يريد أن يضيع فرصة الإحساس بـ”تجربة الموت الفريدة”، وأنه أشار بأصبعه إلى صدره لحظة وفاته وقال: “هاهنا”! وهو ما يذكِّر بالحديث النبوي: “التَّقوى هاهنا”.

وقد روت المربية دوريس أحمد أن علي بخش جاء فجرًا إلى الغرفة التي تنام فيها هي ومنيرة، وأخبرها بوفاة إقبال، ثم هرعوا إلى غرفة نوم إقبال، حيث “كان وجهه هادئا جدا، وكأنما تحرَّر من كل الآلام… كانت منيرة تجلس في حِضني، وجاويد يجلس بجنبي، وكنا نبكي جميعا. وبدَا لي ذلك اليوم أحلكَ أيام حياتي”.

وعلى جدران “جاويد منزل” الداخلية صورٌ لإقبال وعائلته. منها صورته وهو يصلي بمسجد قرطبة في إسبانيا، وصور والده نور محمد (1837-1930م) ووالدته إمام بيبي (ت 1914م)، وأخيه الشيخ عطا محمد (1859-1940م)، وصور النسوة الثلاث اللائي تزوجهن. وكانت أُولَى هؤلاء النسوة بالترتيب الزمني هي كريم بيبي التي زوَّجه أبوه إياها عام 1893م، وأنجب منها ابنته معراج (1896-1915م) التي لم تُعمَّر طويلا، ثم ابنه أفتاب، ولم تنجح حياتهما الزوجية، لاختلاف الشخصية والمكانة. فقد كان إقبال يوم زواجه منها في السادسة عشرة من عمره، وهو شاب مغمور، ينتمي لأسرة ريفية متواضعة الحال، “وهْو لا يملك إلا مَبْدأهْ” بتعبير الشاعر أمل دنقل (1940-1983م). وكانت هي في التاسعة عشرة من عمرها، وتنتمي لأسرة أرستوقراطية ثريَّة. كما كانت صاحبة “عقلية عجيبة، وطبيعة غريبة” -على حدِّ وصْف أحد الكتاب الباكستانيين- فعاملت إقبالًا بخشونة واستعلاء، ربما لأنها لم تدرك قيمته. ولعلها يصدق عليها قول الشاعر أمل دنقل في القصيدة ذاتها:

كان في كَفَّيَّ ما ضيَّعتُهُ … في وُعُود الكلمات المُرْجَأهْ
كان في جنبَيَّ لمْ أدْرِ بهِ … أوَ يَدْرِي البحر قدْرَ اللُّؤلؤهْ؟

أما زوجُته الثانية وهي مختار بِيغُم التي اختارتها له أمه، فتزوجها عام 1913، وكانت “رقيقة القلب، حليمة الطبع”، كما يقول جاويد إقبال في كتابه: “النهر الخالد” عن سيرة والده. وقد توفيت عنده عام 1924 دون ذريَّة. وأما زوجته الأخيرة فهي سردار بِيغُم التي تزوجها عام 1913 أيضا، بموافقة زوجته الثانية، وأحبها حبا عميقا، وعاش معها أكثر من عَقدين، إلى حين وفاتها عام 1935. وهي والدة ابنه جاويد إقبال، وابنته منيرة إقبال التي لا تزال على قيد الحياة، وعمرها الآن 93 عاما.

سردار بِيغُم.. زوجة إقبال ووالدة جاويد ومنيرة

وفي هذا السياق، نشير إلى أن إقبالًا وقع في غرام مدرِّسته الألمانية الشابة إيمَّا وِيغِيناسْتْ (1879-1964) خلال مقامه بألمانيا لإعداد رسالة الدكتوراه بجامعة ميونيخ عام 1907م، وهم بالزواج منها. وكانت إيمَّا تدرِّسه اللغة الألمانية، وقد استعان بها إقبال على فهم “الديوان الشرقي” للشاعر الألماني الرومانسي العظيم جوهان غوته (1749-1832م) الذي أُعجب به إقبال أيَّما إعجاب، وحرص على قراءته في لغته الأصلية، ثم كتب ديوانه “رسالة الخلود” جوابًا له، وتأثُّرًا به. وقد نظم إقبال في إيمَّا غزلًا عذريا رقيقا، وكاتبها برسائل غرام لطيفة، يقول في إحداها إنه نسي لغته الألمانية، باستثناء كلمة واحدة، هي كلمة “إيمَّا”.

وفي إحدى تلك الرسائل يعزِّي إقبالٌ إيمَّا في وفاة أبيها، ويشرح لها معنى قول المسلمين “إنا لله وإنا إليه راجعون” عند حلول مصاب بهم، ويحاول مواساتها بقول شاعر هما المفضَّل غوته: “إن الموت يفتح الطريق لمزيد من النور، وهو يُقِلُّنا إلى العوالم التي نقف فيها وجها لوجه مع الجمال المطلق والحقيقة المُطْلقة”. ثم يذكِّرها بالأيام الجميلة التي كانا يتدارسان فيها معًا شِعر غُوته، قائلا: “لا أزال أذكُر الزمن الذي كنت أتدارس فيه أشعار غوته معكِ، وأتمنَّى أنك لا تزالين تذكرين تلك الأيام السعيدة التي كنا فيها قريبين جدًّا بضعنا من بعض”.

إيمَّا.. مدرِّسة إقبال الألمانية التي أحبها وهمَّ بالزواج منها

وقد عزَم إقبال وإيمَّا على الزواج، لكن أسرتها منعتها من الانتقال إلى الهند، وامتنع إقبال عن الحياة في أوروبا. فالتزامه بهموم شعبه وأمَّته لم يسمح له بالركون إلى الحياة المرفَّهة في الغرب والاستقرار هناك. ويبدو أن كلا منهما قد خلَّف فراغا في قلب الآخر، فظلت “إيمَّا” متعلقة القلب بإقبال لسنين، ثم تطوَّعت في الصليب الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولى، وماتت من غير زواج، رغم أنها عاشت عمرا مديدا. وظل إقبال متعلق القلب بها بضع سنين، إلى أن تزوج سردار عام 1913م، فسدَّت فراغ قلبه.

وفي إحدى غرف “جاويد منزل” عاشت المربية دُورِيْس أحمد، صحبة ابنة إقبال الصغيرة منيرة. ودُوريس هي سيدة ألمانية كانت تقيم في الهند مع أختها، إلى أن طلب منها إقبال -بعد سنة من وفاة سردار- أن تتولى إدارة شؤون منزله، ورعاية جاويد ومنيرة اللذين فقَدا أمهما في عمر مبكر. وقد أوصى إقبال السيدة دوريس أن تبقى مع جاويد ومنيرة بعد وفاته إلى أن يكبرا، فوفَّت بوصيته أحسن الوفاء، ولازمتهما بعد وفاة إقبال أربعة وعشرين عاما، بتفان وإخلاص، فاعتبروها أمَّهما، واعتبرتهما ولديها. بل ظلت على صلة وثيقة بأولاد إقبال وأحفاده حتى نهاية حياتها.

وقد ألَّفتْ دُوريس أحمد كتابا وجيزا بالإنجليزية عن السنتين اللتين عاشتهما مع إقبال في “جاويد منزل”، بعنوان “إقبال كما عرفتُه”، وضمَّنت كتابها مُلحًا لطيفة، وملاحظات ثمينة، عن شخصيته وحياته اليومية. ومن ذلك مثلا:

  • أن رجلا عربيا زار إقبال مرة، فطلب منه إقبال أن يتلو عليه من آيات القرآن الكريم، وطلب منها إحضار الطفلين جاويد ومنيرة لسماع التلاوة، وكان إقبال يبكي بحرقة، ويرتعد بقوة، من شدة التأثر بتلاوة القرآن الكريم.
  • أن إقبالا بعد وفاة زوجته سردار غرق في أحزانه، ولم يحتمل قلبه بعد ذلك أن يدخل الغرف الداخلية المخصصة للأسرة، من شدَّة حزنه عليها. فاكتفى بالغرف الأمامية من المنزل، وكان يدفع إيجار تلك الغرف لابنه جاويد إلى أن رحل عن الدنيا.
  • وأن إقبالا كان يمقُت الخمر مقتا شديدا. وكان شديد التواضع، عفَّ اللسان، فلم تره يشتم أحدا إلا مرة واحدة، اشتدَّ فيها غضبه، وذلك حينما اكتشف أن رجلا من السيخ زار “جاويد منزل” وهو يخبئ في ثوبه قارورة خمر.
دوريس أحمد تحمل حفيد إقبال، منيب، أيام طفولته
  • وأن الطفلة الصغيرة منيرة قالت لها مرة: “عمَّتي، قولي من فضلك لا إله إلا الله. قالت: فقلتُ لا إله إلا الله، فصفَّقتْ منيرة بيديها مبتهجةً، وقالت لي: الآن أصبحتِ مسلمة، وسأسمِّيك فاطمة.” وحينما روت دوريسْ القصة لإقبال ابتهج بها كثيرا.
  • وأنها عاتبتْ منيرة بشدة في حضوره مرة، فاستدعاها منفردة بعد ذلك، وأخبرها أن ما فعلته من تأديب الطفلة أمر صحيح، ثم طلب منها أن لا تفعل ذلك مرة أخرى في حضوره، لأنه يجرح مشاعره، فقلبه لا يحتمل معاتبة منيرة.

ولا عجب في ذلك، فقد كان إقبال رقيق القلب، جيَّاش المشاعر، كما كان عطوفا على الأيتام، حريصا على رعايتهم، وكانت ابنته الصغيرة يتيمة الأم. وقد تولى إقبال رئاسة مؤسسات لرعاية الأيتام، ومن أشهر قصائده المبكرة قصيدتا “دموع اليتيم” و”حديث اليتيم إلى هلال العيد” اللتان كتبهما عاميْ 1900 و1901م على الترتيب.

 

زهْرٌ وشِعْرٌ بمزار إقبال

داخل مزار إقبال، مع مدير أكاديمية إقبال، د. رفيقي

ما كانت زيارة إقبال لتكتمل دون زيارة ضريحه، والدعاء له. ذلك الضريح المعروف في باكستان باسم “مزار إقبال”، وهو وجهة دائمة لآلاف الزائرين مِن داخل باكستان ومِن خارجها: محبةً وتقديرًا، أو تذكارًا واعتبارًا، أو جمعًا بين الجميع. وكانت زيارة “مزار إقبال” من أولويات رحلتي، فزرته ثلاثا: مع صديقي الكريم زبير مالك، نائب مسؤول العلاقات الخارجية بالجماعة الإسلامية في باكستان، ثم مع صديقي العزيز الصحفي الباكستاني حذيفة فريد، والرائد عبد القادر، وهو ضابط شاب شهمٌ من إدارة العلاقات العامة في الجيش الباكستاني. ثم كانت الزيارة الثالثة بترتيب كريم من الدكتور عبد الرؤوف رفيقي، مدير أكاديمية إقبال، الذي أصرَّ بتواضع وكرمِ نفسٍ على أن يرتِّب لي زيارة رسمية، لوضع إكليل من الزهور على الضريح، بمرافقة حرس الشرف الباكستاني، قائلا إن ذلك سيكون “ذكرى حلوة” نحتفظ بها معًا.

مع حرس الشرف الباكستاني أمام مزار إقبال

صُمِّم مزار إقبال بالمزج بين الفنَّيْن المعماريَّيْن الأندلسي والأفغاني اللذين أحبَّهما إقبال، وله مدخلان: أمامي وجانبي. لكن الحجر الرملي الأحمر الذي شِيد به البناء جعله منسجما -في لونه- مع المعالم التاريخية المحيطة به، وهي تنتمي إلى نمط العمارة الإسلامية المغولية في شبه القارة الهندية. أما الجُدُر الداخلية من غرفة المزار فهي بيضاء اللون. وقد بُنيَ الضريح ذاته برخام أبيضَ مُشرَبٍ حُمْرةً خفيفةً، تبرَّعت به الحكومة الملكية الأفغانية التي كانت تكنُّ لإقبال توقيرا كبيرا. وقد رُصِّع شاهد القبر بحجر اللاَّزورْد الأزرق المجلوب من أفغانستان أيضا، وتحَلَّت الجدران الداخلية للمزار بآيات قرآنية، وبأبيات من شعر إقبال. ورغم أن شيطان الشِّعر كان قد هجرني منذ نحو عَقد من الزمان، فإن رحلتي إلى ربوع إقبال أعادته إليَّ صاغرًا، لأنها أهاجت النفس، وحرَّكت الشجون. فكتبتُ قصيدة بعنوان: “عند مزار إقبال”، وقرأتها عند المزار.

تسرَّبت أنفاس إقبال إلى قصيدتي شعوريا ولا شعوريا

ولا بد من الاعتراف هنا بأن أنفاس إقبال تسرَّبت إلى قصيدتي، شعوريا حينا، ولا شعوريا أحيانا. فالشطر الثاني من البيت السابع: “وجهُهُ من ظلمة الموت سَفَرْ” هو شطرٌ من ديوان إقبال “الأسرار والرموز” ضمن أبيات يتنبأ فيها بأن الناس لن يقدِّروا كلماتِه حقَّ قدْرها إلا بعد وفاته:

 

 

 

 

مِن وُجودٍ غيرِ هذا لي غِناءْ … ولِرَكْبٍ غيرِ هذا لي حُدَاءْ

كمْ تجلَّى شاعرٌ بَعْدَ الحِمَامْ … يوقظ الأعينَ حينًا وينامْ

وجهُهُ من ظُلمة الموت سَفَرْ … ونَمَا من قبْرهِ مثلَ الزَّهَرْ

الأبيات الأولى من ترجمة القصيدة إلى اللغة الأوردية

والشطر الثاني من البيت الحادي عشر: “يُوقِظُ الْأجـيـال في رَقْـدتـــه” مُستوحًى من قول إقبال هنا: “يوقظ الأعينَ حينًا ويــنــامْ”. أما تعبير “اللحن الحجازي” في البيت الثاني عشر فهو صفة وصَف بها إقبال نفسه في أكثر من موضع من شعره. وأخيرًا فإن تعبير “بلاد الطُّهر” في البيت ذاته فيه تورية: فهو إشارة إلى البقاع الطاهرة في أرض الحجاز، مهبطِ الوحي وبلاد الحرمين الشريفين التي يستمد منها إقبال إلهامه الشعري. وهو أيضا تعريبٌ لاسم “باكستان” التي تعني باللغة الأوردية “بلاد الطُّهر”. وقد سجلتُ القصيدة بالفيديو داخل مزار إقبال وخارجه، وترجمها إلى الأوردية نثرًا صديقي الدكتور محيي الدين غازي، ثم صاغها شعرًا أحد شعراء الأوردية المبرَّزين، وهو سرفراز بزمي، فلهما الشكر من أعماق قلبي.

يقع “مزار إقبال” ضمن مجمَّع ضخم، يضم بين جنبيه معالمَ تاريخيةً أخرى، لاحت الفرصة لزيارتها مع زيارة المزار. ومنها مسجد “بادشاهي”، أحد أضخم المساجد وأجملها في التاريخ الإسلامي، وقد شاده الإمبراطور المغولي محيي الدين أورنغزيب (1618-1707م)، فهو يحمل ملامح العمارة المغولية الإسلامية على عهد مجدها الإمبراطوري في الهند. وقد صُمِّم المسجد تصميما لافتا للنظر، فالمسقوف منه هو فقط المدخل الفخم الذي تعلوه أربع منارات قصيرة متقاربة، ثم الصدر الذي يضمُّ المحراب، وما يتسع لصف أو صفين فقط من المصلين، وتعلوه قباب ثلاث ومنارات أربع قصيرة أيضا. وما وراء ذلك صحنٌ فسيح مفتوح، هو أساس المساحة المخصصة للصلاة، وهو في شكل مربَّع ضخم، تتوسَّطه نافورة ماء، وتحيط به ممرات جانبية. وترتفع أربع منارات ضخمة شامخة على زوايا المسجد الأربع.

إطلالة من الجوّ على مسجد "بادشاهي" التاريخي في لاهور

ورغم فخامة البناء، وما يحمله من آثار الأبَّهة الإمبراطورية، فقدْ لفَتَ نظري تفصيل لطيف، وهو بناء بيوت جميلة للحَمَام ملصقة بجدران القلعة من الخارج.  وهذا يعبِّر عن روح إنسانية مُفعَمة بالرحمة والعطف، وروح فنية رشيقة، حيث بُذل جهد كبير في تصميم بيوت الحمام تصميما بديعا، إضافة إلى كون هذا الأمر إجراءً إداريَّا، حيث كان الحَمَام الزاجل وسيلة من وسائل نقل البريد في الإمبراطوريات الغابرة. وقد التقطتُ صورة لزوْجٍ من الحمام وهما رابضان على سطح بيتهما الصغير الملحق بجدار القلعة. ولم أفهم ما إذا كانا يتبادلان أحاديث الصبابة في لقاء غرامي سعيد، أم كانا يتشاركان مجلس عزاء حزين على المجد الغابر.. فذلك لغزٌ حيَّـر الشعراء العرب على مدى القرون، وعبَّر عنه الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعريّ (973-1057م) الذي كان إقبال يقدّره كثيرا، حين تساءل في رثائيته البديعة:

أبَكتْ تلكمُ الحمامة أمْ غنَّتْ … على فرع غصنها الميَّادِ؟!

بَيْدَ أن مرابطة ذلك الزوج من الحمام على أطلال تلك القلعة الخاوية من أهلها، بعد أن كانت مفعمة بالحركة والحياة، ذكَّرني بقول المعري في القصيدة ذاتها:

كلُّ بيتٍ للهدْم: ما تبتني الورقاءُ والسَّيِّدُ الرَّفيعُ العِمادِ

بيت من بيوت الحَمَام الملحقة بجدران قصر "شاهي قلعة"

وقد فوجئتُ في “شاهي قلعة” باعتقالي على أيدي عساكر الإمبراطور المغولي، أنا وزميليَّ، الأستاذ زبير مالك، والدكتور محمد إلياس الأنصاري أستاذ العلاقات الدولية بجامعة البنجاب. فقد وقعنا في أسْر الحرس الإمبراطوري المغولي خلال زيارتنا للقصر، بتهمة الإخلال بالبروتوكول، والزيارة دون استئذان، ثم أطلق الحرسُ سراحَنا بعد إذن الإمبراطور، وأعلن الحارس الترحيب بـ”أمير الهند محمد مختار”، وتشريفه للبلاط الإمبراطوري! وهكذا انتقلتُ من “أسير” إلى “أمير” في هذه الملهاة الخفيفة الظل، وإن كانت تحمل ظلالا من المأساة في دلالتها على النعيم الزائل والمجد الآفل. لكني ترحمتُ على امبراطوريات الزمن الغابر، إذ دلَّت تجربة اعتقالي فيها على أنها أرحمُ من جمهوريات الزمن الحاضر.

بين الأندلس والبنجاب

من الملاحظات الثمينة التي أتحفنا بها عالم الجغرافيا السياسية جمال حمدان (1928-1993) في كتابه “العالم الإسلامي المعاصر” قولُه: “إذا كان الإسلام قد فقَدَ البحر المتوسط كبحيرة إسلامية -أو شبه إسلامية- تقليدية، فقد كسب المحيط الهنديَّ الذي أصبح البحر المتوسط الجديد في العالم الإسلامي.” ويشير حمدان هنا إلى ظاهرة عميقة في الجغرافيا السياسية الإسلامية، وهي انتقال ثِقل الإسلام شرقًا، بعد خسارة المسلمين غربًا. وقد عشتُ تجربة شخصية ظريفة بين الأندلس والبنجاب تحمل المعنى ذاته.

فقد كان الجنود الباكستانيون الذين اصطحبوني وزملائي من أكاديمية إقبال لأداء التحية العسكرية حضورًا حينما قرأتُ قصيدتي “عند مزار إقبال”.  وقد ذكرَّتني قراءتي للقصيدة عند المزار دون خوف أو وجَل، ووضْع إكليل الزهور على الضريح بمعية أولئك الجنود الشباب، بمطاردة شرطيٍّ إسباني لي عام 2014، وأنا أحاول قراءة قصيدة إقبال “مسجد قرطبة” داخل مسجد قرطبة، وتسجيلها بهاتفي. فحمدتُ الله على عزة الإسلام في أرض الإسلام، وترحَّمتُ على إقبال الذي أصرَّ على بناء دولة للمسلمين في القارة الهندية، لا يخضعون فيها لسطوة الغالبية الهندوسية. وهذه فرصة لإخبار القراء الكرام برحلتي الشعرية إلى قرطبة وصلتها بإقبال.

فقبل رحلتي هذه إلى باكستان بتسع سنين، كان ترسُّم خُطَى إقبال قد أخذني إلى قرطبة، من أجل قراءة قصيدته “مسجد قرطبة” داخل ذلك المسجد العظيم الذي حوله الصليبيون الإسبان كاتدرائيةً كاثوليكيةً منذ نحو ثمانية قرون، بعد سقوط قرطبة بأيديهم عام 1236م، ضمن الهجمة الصليبية الشاملة على قلب العالم الإسلامي وأطرافه، في الأندلس والمغرب ومصر والشام والأناضول، خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديَّين.

بيدَ أنها كاتدرائية من نوع خاص: فهي لا تزال حتى اليوم مرصَّعةَ الجدران بآيات القرآن الكريم، وفي خاصرتها الشرقية محرابُ المسجد كما كان منذ أكثر من ألف عام. بل إنها لا تزال تسمى باللغة الإسبانية “كاتدرائية مسجد قرطبة!”  (Mezquita-Catedral de Córdoba). فلم تفلح قرون مديدة في التكتم على اسم المسجد، فضلا عن طمس معالمه المعمارية البديعة، رغم ما أحدثه فيه الإسبان من خراب حينما بنوا في قلب المسجد الجامع الفخم كنيسة قوطية صغيرة، وفتحوا سقف المسجد، وهدُّوا عددا من أعمدته في سبيل ذلك، فشوَّهوا جزءا من معالم ذلك الصرح البديع.

وقد زار إقبال إسبانيا في يناير 1933، بدعوة من وزير التعليم الإسباني آنذاك، المستشرق القسِّيس ميغيل آسين بلاثيوس (1871-1944م)، مؤلف كتاب: “الكوميديا الإلهية والإسلام”.  وقدَّم إقبال -خلال هذه الزيارة- محاضرة في جامعة مدريد عن “إسبانيا والعالم الثقافي الإسلامي”، ثم طلب من الوزير الإسباني السماح له بزيارة إقليم الأندلس والصلاة في مسجد قرطبة، فكان أولَ مسلم يصلِّي في ذلك المسجد بعد نحو سبعة قرون من تحويله كنسية. ويقول الباحث خُرَّام شفيق في كتابه “إقبال: سيرة حياة مصوَّرة” إن إقبالًا “بكى حينما فكَّر في أنه لا يستطيع الصلاة في ذلك المسجد إلا بإذنٍ من الآخرين”. ويمكن أن نتلمَّس ذلك النحيب الخافت في بيتين يخاطب بهما إقبال مسجد قرطبة:

إنَّ أرضًا أنتَ فيها … لَسَماءٌ للعيونْ

كيف لم يسمعْ أذانًا … أهلُها منذ قرونْ؟

إقبال أول من صلي بمسجد قرطبة بعد 700 عام من تحويله كنيسة

وقد كتب إقبال قصائد بديعة عن الأندلس خلال زيارته لها، منها: “دعاء طارق”، و”النخلة الأولى”، و”إسبانيا”، و”صرخة المعتمِد في السجن”، ونشرها ضمن ديوانه “جناح جبريل”. لكن أشهرها هي قصيدته “مسجد قرطبة” التي يقول خرام شفيق في كتابه “إقبال: حياته لأزمانِنا” إنها تعتبر أبلغَ أثر أدبي مكتوب باللغة الأوردية حتى اليوم. وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن الصياغة الشعرية لترجمتها العربية بقلم الشاعر السوري زهير ظاظا من أبلغ ترجمات شعر إقبال إلى لغة الضاد. وكان من براعة ظاظا، ورهَف ذوقه الأدبي، أنْ ترجم قصيدة “مسجد قرطبة” على منوال قصيدة الأديب علي بن عبد الغني الفهري الضرير (ت 1095م) التي مطلعها:

 

 

يا ليل الصبّ متى غدُهُ؟ … أقِيامُ الساعة موعدُهُ؟

وليس بخافٍ ما يجمع بين القصيدتين شكلًا من نبرة الإيقاع الأندلسي، وبحورِه الشعرية الغنائية القصيرة، فضلاً عما يجمع بين مضمونهما من تباريح الشوق وآلام الفَقْد.

وقد شاءت الأقدار أن أشارك عام 2014 في مؤتمر بمدينة غرناطة الأندلسية، التي تبعُد عن قرطبة أكثر من 200 كيلومتر، فاتخذتُ ذلك ذريعة لترسُّم خطى إقبال، والاطِّلاع على بعض مآثر الحضارة الإسلامية في الأندلس. فقلتُ لمنظمي المؤتمر إني لا أستطيع العودة من تلك الرحلة قبل أن أقرأ قصيدة إقبال “مسجد قرطبة” داخل مسجد قرطبة، الذي كان قلب الدولة الإسلامية في الأندلس.

اعترض منظِّمو المؤتمر على غيابي عن بعض الجلسات، واستكثروا عليَّ السفر ساعات من أجل قراءة قصيدة، لكني ضربتُ عرض الحائط بكل ذلك بعد أن تذكرتُ بيتا للشاعر الفارسي العظيم سعدِي الشيرازي (1209-1294م) -الملقَّب “بلبل شيراز”- صدَّر به إقبالٌ قصيدَتَه “في أرض فلسطين” التي كتبها خلال زيارته للقدس الشريف عام 1931. وفيه يقول سعدِي الشيرازي:

من الفقْر أن تأتي وِفَاضُك فارغٌ … وقد طُفتَ في تلك الرِّياض جميعِها

فركبتُ الحافلة ميمِّمًا قرطبة، ودخلتُ المسجد، وقرأتُ قصيدة إقبال في المسجد، واستطعتُ بجهد جهيد التملُّص من شرطي إسباني، أراد منعي من قراءتها في المسجد. فقد دهمني الشرطي وأنا أقرأ القصيدة، وصاح في وجهي منذرًا بصوته الجَهْوَري، ولغته الإنجليزية الركيكة: “سيِّدي.. الإعلانات العامَّة ممنوعة هنا”، فحاولتُ طمأنته بأن ما أقرؤه مجرد أبيات من شِعْر، وأنه ليس أمرا يتعلق بالسياسة. لكنه أصرَّ على وقف القراءة. فخضعتُ لأوامره على مضض، ثم اسْترقْتُ غفلته، وقرأتها وسجَّلت منها فيديو بهاتفي، بعد الاختباء خلف حشد من السائحين.

ولم أمكثْ في قرطبة إلا قدْرَ ما يتَّسع لقراءة تلك القصيدة البديعة في المسجد التاريخي الفخم، ثم التجوال السريع بين جدرانه. لكني تنفّستُ نسائم المجد وعبَق التاريخ في تلك اللحظات، وتخيَّلتُ أبا محمد ابن حزم (994-1064م) وأبا الوليد ابن رشد (1126-1198م) وقد أسند كل منهما ظهره إلى سارية من سواري المسجد، وهو يُغدق على طلابه من علمه الوافر، “وقد أحاط به الزُّمَر، إحاطةَ الهالة بالقمر، والأكمامِ بالثمر” حسب تعبير الحريري في مقاماته. وبعد هذه السياحة العابرة في أعماق التاريخ، قفلتُ راجعا إلى غرناطة في الحافلة، وأنا أترنَّم بخواتيم قصيدة إقبال “مسجد قرطبة”:

كنخيلِ الشام وأعْمُدِها … شمَختْ في المسجد أعْمُدُهُ

تتألَّقُ زرقـةُ قُبَّتِهِ … وتُقيمُ الليلَ وتُقْعِدُهُ

وتنـَهُّدُها في وحدتها … كالطُّـور كَــواهُ تـنـهُّدُهُ

ثم بأبيات من قصيدته “إسبانيا” التي ودَّع بها الأندلس، وهي قوله:

صوتُ المنائر في نسيمكَ يرقُدُ … وصداهُ في أرواحنا يتردَّدُ

يا توأمَ الحرَم الشريف تطوَّفتْ … بِكَ رُكَّعٌ من عاكفين وسُجَّدُ

سِيمَاَك من أثَر السجود على الثَّرَى … طربٌ يفوحُ ونَضْرةٌ تتجَدَّدُ

خمدتْ حقيقتُنا وزال بريقُنا … وبريق قرطبة الشريد مخـلَّـدُ

ووقفتُ لا نوْمِي حمدتُ ولا السُّرَى … أتكبَّـدُ الجرح الذي أتكبَّدُ

في ضيافة أحفاد إقبال

بعد زيارتي “جاويد منزل” و”مزار إقبال”

مع حفيد إقبال، المحامي منيب إقبال، ببيته في لاهور

في لاهور، أصبحتْ أولويتي اللقاء بأحفاد العلامة محمد إقبال. فسعدتُ وتشرفتُ بلقاء ثلاثة منهم: منيب إقبال، وإقبال صلاح الدين، ويوسف صلاح الدين. وكلهم من أعيان المجتمع الباكستاني ذوي المكانة. وهم -إلى ذلك- يتَّسمون بسَعة الثقافة، والتمرّس بتراث جدهم العظيم. ولا بد من التوقف هنا للتعبير عن عميق الشكر والعرفان بالجميل لصديقي الصحفي الباكستاني حذيفة فريد، ولإدارة العلاقات العامة في الجيش الباكستاني، خصوصا الرائد عبد القادر، على كرَم الضيافة في لاهور، وعلى المساعدة الثمينة في ترتيب زياراتي لأحفاد العلامة إقبال.

وقد استقبلني أحفاد إقبال كلُّهم برحابةٍ وتواضعٍ وكرَم نفسٍ. أما منيب فهو حفيد إقبال من جهة ابنه جاويد، وهو محامٍ مرموق بالمحكمة العليا. وقد زرتُه في بيته بلاهور، فاستقبلني ببِشرٍ وكرَم، وحدَّثني عن رؤية إقبال لمستقبل الأمة الإسلامية، وكان حديثه مفعما بالحماس والذكرى. كما أهداني منيب -مشكورا- صورًا لجدِّه إقبال مُستنسَخة من ميكروفيلم أصليّ عمره يناهز مئة عام، ونسخةً من مراسلات مهمة بين إقبال وصديقه الزعيم السياسي التاريخي محمد علي جناح (1876-1948م).

وكان من ضمن أسئلتي لمنيب: لو افترضْنا أن إقبالا رجع إلى الحياة اليوم، فما الذي سيُفرحه من واقع باكستان والعالم الإسلامي، وما الذي سيخيِّب ظنَّه، بناء على الرؤية التي صاغها في شعره وفكره؟ فجاء رده مفاجئا وظريفا، إذ قال: “لو عاد إقبال إلى الدنيا اليوم فسيبتهج كثيرا، لأنه سيراني ويدرك أني حفيدهُ”. ويشير منيب هنا إلى شَبَه الملامح الواضح بينه وبين جدِّه محمد إقبال، وهذا أمر لاحظتُه لأول وهلة حينما رأيتُه. فالعينان الواسعتان العميقتان، والأنف الصَّقْري المعقوف، والشَّعَر السَّبْط المنسدِل إلى الخلف.. ملامح جامعة بين منيب وجدّه إقبال.

مع إقبال صلاح الدين وحذيفة وعبد القادر ببستان إقبال

ويبدو أن ما يجمع بين الجَدّ والحفيد في الفكر لا يقل أهمية، فقد كان حديث منيب إقبال إليَّ منصبًّا على ضرورة الوحدة الإسلامية التي نادى بها جدُّه إقبال، ونظَّر لها تنظيرا عمليا دون استئسار للتاريخ الإمبراطوري القديم، أو سعي إلى استنساخه. فقد دعا إقبال تارة إلى تأسيس “كومنويلث” للدول الإسلامية، وتارة إلى بناء “عصبة أمم إسلامية” تضمن التعاون والتناصر، مع احترام سيادة الدول، وخصوصيات الشعوب. ولستُ أدري ما إذا كانت فكرتا إقبال عن الكومنويلث الإسلامي وعصبة الأمم الإسلامية هي التي ألهمت الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري (1895-1971م) تأليفَ كتابه “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية”، وأوحتْ للمفكر مالك بن نبي (1905-1973م) تأليف كتابه: “فكرة كومنويلث إسلامي”، أم أنه “اتَّفق توارُد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر” حسب تعبير الحريري في مقاماته.

ومن أحفاد إقبال الذين سعدتُ بلقائهم إقبال صلاح الدين، حفيد إقبال من جهة ابنته منيرة. وهو -شأنه شأن ابن خاله منيب- يحمل الكثير من ملامح جده إقبال. وقد أسَّس إقبال صلاح الدين مركزا ثقافيا متخصصا في شرح فلسفة إقبال، وتقديمها إلى الناس، سماه “بستان إقبال”. ويمكن اعتبار “بستان إقبال” تركيبا من المركز التعليمي والمتحف الفني، فجدرانه الداخلية تغطيها لوحات بديعة، بعضها تجسيد لبعض أفكار إقبال عن معنى الحياة ومغزى الوجود، وبعضها صور لإقبال ولأناس كانوا قريبين منه، وبعضها صور لمسودات أشعاره بخطه الجميل.

مسودة قصيدة لإقبال في "بستان إقبال"

وقد استقبلني إقبال صلاح الدين في “بستان إقبال” ببِشْر وترحاب، وأهداني نسخة من كتاب خاله جاويد إقبال: “الإسلام وهوية باكستان”، وتكرَّم بالحديث إليَّ عن بعض ما سمِعَه من والدته منيرة وخاله جاويد عن حياة إقبال. كما أفاض في الحديث عن فلسفة إقبال السياسية، وثورته الفكرية على أنماط الظلم والاستبداد والفساد، وأرجع واقع المسلمين المزري اليوم إلى خنوعهم للظلم السياسي. وقد بدا لي إقبال صلاح الدين مثل جدِّه محمد إقبال ذا رُوح ثورية متوثِّبة. فكأنما كنتُ -وأنا أستمع إليه- أقرأ فصولا من كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” للفيلسوف السياسي السوري عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م). وكانت نبرتُه المتمردة واضحة، حتى في مزاحه مع فريق إدارة العلاقات العامة في الجيش الباكستاني الذي تكرَّم -مشكورا- بتسهيل تنقُّلاتي في مدينة لاهور، ولقاءاتي بأحفاد إقبال.

كما سعدتُ أيضا بلقاء حفيد ثالث للعلامة إقبال، وهو يوسف صلاح الدين، شقيق إقبال صلاح الدين. فاستقبلني بكرم في بيته التاريخي المعروف في باكستان باسم “بارود خانه” بمعنى “بيت البارود” أو “قصر البارود”. وهو منزل تاريخي بديع التصميم، تداولته أيدي الحكام والأمراء خلال القرون الثلاثة الماضية من تاريخ مدينة لاهور، سِيخًا ومسلمين وبريطانيين، حتى تملَّكه شراءً في منتصف القرن التاسع عشر جدُّ يوسف صلاح الدين وإقبال صلاح الدين من جهة الأب. أما أصل التسمية “بارود خانة” فيرجع إلى أن بعض الأمراء كانوا قد خصَّصوا قسما من المبنى لتخزين الأسلحة والبارود، على عادة بعض الملوك الأقدمين.

صورة من داخل "بارود خانة" (نقلا عن رسالة ربيعة قُرَشي)

ويعتبر “بارود خانة” مَعْلما تاريخيا في مدينة لاهور القديمة، ووجهة سياحية لنخبة المجتمع، من السياسيين والمثقفين والفنانين، وموقعه قريب من المعالم التاريخية الكبرى في لاهور، مثل مسجد “بادشاهي” و”مزار إقبال”. كما يُعتبر “بارود خانة” نموذجا للعمارة الكلاسيكية العريقة في لاهور. وقد خصَّصت الباحثة ربيعة قُرَشي الفصل الرابع من رسالتها للماجستير المعنونة: “البيوت التقليدية ذات الأفنية المفتوحة في لاهور” لوصف هذا البيت العريق، وهي الرسالة التي قدَّمتها بقسم العمارة في “جامعة ولاية كنساس” الأميركية عام 2015. واعتبرت هذه الباحثة “بارود خانة” نموذجا مثاليا لبيوت لاهور العريقة، مطبِّقة في دراستها مفهوم “الجمال العميق” ومفهوم “الاستدامة”.

ويُعدُّ يوسف صلاح الدين أحد وجوه الحياة الفنية والإعلامية في لاهور، فهو يقدِّم برامج في القنوات التلفزيونية، وينظم أنشطة فنية في بيته التاريخي الذي أصبح وجهة لنجوم السينما من داخل باكستان ومن خارجها، حتى وُصف البيت بأنه “أعظم وجهة لنجوم بُولِيوُود”.  وقد ذهب بعض النُّقَّاد إلى أن الأوْلى بيوسف أن لا يُوغل كثيرا في الطريقة التي يقدِّم بها رسالة إقبال، لكي يصونها عن الابتذال، ويحفظ عليها ما تحمله من معاني القوة والعزة الإيمانية. فقد نبَّه إقبال في ديوانه “جناح جبريل” إلى أن قدَر الشعوب يبدأ بالسيوف، وينتهي بالدفوف:

فانظرْ إلى قَدَر الشعوب وكيف يبدأ بالسيوفْ

فإذا انتهى فإلى المزامير الشَّجِيَّة والدُّفوفْ

لكن يوسف في حديثه إليَّ يرى أن ما يفعله هو تقديم رسالة إقبال وروحِه الإسلامية إلى الشباب والجمهور المعاصر في قالَب فنيٍّ قريبٍ من القلوب، بعيدًا عن التجريدات الفلسفية، والتعقيدات الفكرية. وهو يذهب إلى أن الإسلام لم ينتشر في أرجاء العالم بجدَل المتكلمين، ولا بتفريعات الفقهاء، وإنما انتشر بالروح الصوفية الطليقة، والتعبيرات الفنية الجميلة. وقد أنتج يوسف بصوته قراءات شعرية جميلة لبعض قصائد إقبال، بعد إخراجها في قالَب تمثيلي، متعاونا في ذلك مع مركز “بستان إقبال” الذي يديره شقيقه إقبال صلاح الدين.

وليد إقبال مع عمران خان (نقلا عن صفحة وليد على إكس) (تويتر)

ووددتُ لو كنت تشرفتُ بلقاء حفيد رابع لإقبال هو وليد إقبال، نجل جاويد إقبال، وشقيق منيب إقبال. لكن منعني من السعي إلى ذلك قِصر مدة زيارتي لباكستان، واقتصارها على لاهور وكراتشي، وكون وليد يقيم في العاصمة إسلام آباد، وهو غارق في المعترك السياسي هذه الأيام. فوليد إقبال شخصية قانونية وسياسية بارزة في باكستان. وقد تخرَّج في القانون والفلسفة من جامعتَي هارفارد الأميركية وكمبريدج البريطانية، وعمل محاميا عدة أعوام، استمرارًا لتقليد العائلة: فجده محمد إقبال عمل محاميا، وأبوه جاويد إقبال كان قاضيا بالمحكمة العليا الباكستانية، ووالدته نصيرة إقبال كانت قاضية بالمحكمة العليا في إقليم البنجاب.

وفي العَقد الأخير بدأ وليد إقبال ينصرف عن المحاماة إلى العمل السياسي، فالتحق بـ”حركة الإنصاف الباكستانية”، وهي الحزب السياسي الذي أسسه رئيس الوزراء السابق عمران خان، ويعتبره كثيرون فاتحة تحوُّل سياسي في البلاد، قد يخرجها من سطوة الوصاية العسكرية، وجمود الأحزاب العائلية. وحصل وليد على عضوية مجلس الشيوخ الباكستاني في ختام عام 2018م، وهو يرأس الآن لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشيوخ. وقد برهن لي تتبُّعي لمحاضرات وليد إقبال على أنه مثقف ثقافة واسعة عميقة، وأنه متمرِّس بتراث جده محمد إقبال، وله مشاركات في عمل “بستان إقبال” و”أكاديمية إقبال”، وإسهامات في المؤتمرات التي تتناول حياة إقبال وشعره وفكره.

 

في رحاب أكاديمية إقبال

في لاهور تكرَّم الأستاذ زبير مالك بترتيب لقاء لي مع مدير أكاديمية إقبال، الدكتور عبد الرؤوف رفيقي. فاستقبلني الدكتور عبد الرؤوف بكرم وترحاب، وحدَّثني عن تاريخ الأكاديمية ومنجزاتها العلمية. ورويتُ له قصة رحلتي إلى قرطبة، فاعتبرها دليل تعلُّقٍ صادقٍ بالشاعر الفيلسوف، واستلهامٍ لروحه المشْرِقة. وطلب مني رابط الفيديو الذي أقرأ فيه قصيدة “مسجد قرطبة” داخل المسجد.

تقع أكاديمية إقبال في مبنى من طوابق عدة، وهي تشمل مكاتب الإداريين والباحثين، وحجرات الوثائق، ومكتبةً ضخمةً. وقد رافقني الدكتور عبد الرؤوف -بتواضعٍ وسماحةِ نفسٍ- في جولة بمكتبة الأكاديمية التي تضم بين جنبيها نفائسَ من الكتب والرسائل الجامعية والوثائق عن إقبال وشعره وفكره، في عشرات اللغات، وإن كان الغالب عليها هو الأوردية والفارسية والإنجليزية، بحكم مركزية هذه اللغات في حياة إقبال، وفي تاريخ المسلمين بشبه القارة الهندية. وكنتُ قد حصلتُ على أكثر منشورات أكاديمية إقبال بالإنجليزية على موقع الأكاديمية، بعد أن وفرتْها الأكاديمية -مشكورة- للباحثين في الإقباليات. لكن كانت تنقصني “الأعمال الشعرية الكاملة” لإقبال في ترجمتها الإنجليزية التي جمعتْها الأكاديمية وحرَّرتْها ونشرتْها، فحصلتُ على هذه الغنيمة الثمينة في هذه الزيارة، كما حصلتُ في مكتبة الأكاديمية على بضع دراسات فرنسية عن إقبال لم أطَّلع عليها من قبل.

وقد أخذني الدكتور عبد الرؤوف في جولة داخل “إيوان إقبال” الموجود مع أكاديمية إقبال في العمارة ذاتها. وهو مجمَّع ثقافي، تابع لوزارة التراث الوطني الباكستانية، يُعنَى بتقديم تراث إقبال إلى الجمهور العام في قالب ثقافي وفني. ويضم الإيوان بين جنبيه مساحات للإيجار، منها قاعة مؤتمرات ضخمة، تستأجرها المؤسسات العلمية والثقافية لتنظيم نشاطاتها، وهو ما يوفر دخلا ماليا للإيوان ولأكاديمية إقبال. وقد كانت قاعة المؤتمرات مزدحمة يوم زيارتي للإيوان بعدد وافر من النسوة اللائي يحضُرْن دروسا في صحيح البخاري في قاعة الإيوان الكبرى.

ويضم الإيوان كذلك مَعْرضا فنيا، يقدم نبذة عن مراحل حياة إقبال وفكره وشعره في شكل لوحات فنية. وبعض هذه اللوحات تقدم لزوار المعرض شخصيات قديمة وحديثة أثَّرت في حياة إقبال. ومن هذه الشخصيات هنودٌ مثل سيد أحمد خان (1817-1898م)، وعربٌ مثل ابن رشد وابن خلدون (1332-1406م)، وفُرْسٌ مثل جلال الدين الرومي (1207-1273م) وسعدي الشيرازي، وأفغانٌ مثل جمال الدين الأفغاني (1838-1897م)، وغربيون مثل توماس أرنولد (1864-1930م) أستاذ إقبال الأثير على قلبه، الذي أهدى إليه رسالته للدكتوراه عن “تطوّر الميتافيزيقا في بلاد فارس”.

وقد طلب مني مدير أكاديمية إقبال، الدكتور عبد الرؤوف رفيقي، المشاركة في ندوة بأكاديمية إقبال عن تاريخ الإقباليات العربية. فوجدتُ من دواعي الغبطة أن أتحدث إلى جمع من المثقفين والأكاديميين الباكستانيين عن أصداء إقبال في الأدب العربي، ومسارب انتقال أشعاره وأفكاره إلى بلاد العرب -ترجمةً وشرحًا وتحليلًا- حتى أصبحت جزءا عضويا من نسيج الثقافة العربية.  وشارك في الندوة التي انتظمت يوم 05 يناير 2024م أفاضلُ من الباحثين الباكستانيين، منهم: الشاعر والباحث الضليع في دراسة الإقباليات الدكتور سعادات سعيد، والأستاذ الدكتور مَظْهر مُعين مدير مركز الثقافة الإسلامية في لاهور، إلى جانب الباحث المصري عثمان عبد الناصر الذي يُعِدُّ شهادة الدكتوراه في باكستان. وقد سعدتُ بوجود هذا الباحث المصري الشاب الذي يتابع التقاليد المصرية العريقة في الاهتمام بدراسات الإقباليات. وحين قدَّم مداخلته بلغة الأوردو غبطتُه على تمكُّنه من قراءة نصوص إقبال الأصلية دون ترجمة.

مدير أكاديمية إقبال، د. رفيقي، يقدِّم لندوة الإقباليات العربية

بدأتُ محاضرتي بالحديث عن علاقة المحبة المتبادلة بين إقبال والعرب، فقد كان إقبال متعلقا تعلقا وجدانيا عميقا بالجزيرة العربية، لأنها مهدُ الإسلام، ومنها هبَّت نسائمه على القارة الهندية. بل إن إقبالًا كان يعتبر نفسه مجرد “نسيم حجازي” وأن لحنه “لحن حجازي” قادم من هذه الأرض المباركة، فهو القائل:

 

 

أنا أعجميُّ الحُبِّ إلا أنَّني … أطلقتُ في الحرَم الشريف لساني

كمْ ثوبِ إحرام على مُتضرِّعٍ … مزَّقْـتُه باللـحن من ألحاني

وهو القائل:

صوتُ قيثارتي التي سمعُوها … أعجميٌّ لكنَّ لحْني حِجازِي

ومن آخر ما صاغه قلم إقبال من شعر أبيات يرثي فيها نفسه، باعتباره نسيمًا هبَّ على بلاد الهند من أرض الحجاز، ويتمنى أن يَخلُفه من يحمل نسيم الحجاز إلى العالَـمين:

نغماتٌ مضيْنَ لي هل تعـودُ؟ … أنسيمٌ من الحجاز يعودُ؟

آذنَتْ عِيشتي بقُرْب رحيلٍ … هل لعلم الأسرار قلبٌ جديدُ؟

وكنت قد قرأت لأحد المؤلفين الهندوس -منذ مدة مديدة- كلاما يسخر فيه من إقبال، قائلا ما معناه: إن إقبالًا رجل ظمآن يبحث عن الماء في صحراء العرب، وهو جالس على ضفاف نهر الغانج في الهند! وقد نسي هذا الكاتب المغرور أن الكثافة القاتمة على ضفاف الغانج لا تساوي شيئا في نظر إقبال أمام صفاء الصحراء العربية ونقائها التوحيدي، وأن صحراء العرب عند إقبال هي النبع الذي استقت منه كل الإنسانية، فارتوت بماء الإسلام الزلال. وما أكثر ما اتَّخذ إقبال من أرض العرب وتاريخِهم رموزا شعرية، على نحو ما نجد في قوله في ديوان “صلصلة الجرس”:

ما زال قيسٌ والغرام كعهده … ورُبوعُ ليلَى في ربيع جَمالها

وهضابُ نجدٍ في مراعيها المَها … وظِباؤُها الخَفِرات ملءُ جبالها

والعِشقُ فيَّاضٌ وأمَّة أحمدٍ … يتحفَّزُ التاريخ لاستقبالها

وإذا كان إقبال قد أحبَّ العرب وبلادهم، فإن العرب بادلوه حُبًّا بحبٍّ، وتداولوا أشعاره وأفكاره في كل نادٍ. وهنا دلفتُ في محاضرتي إلى تاريخ الإقباليات بالعربية: ترجمةً لشعر إقبال، وتأليفا عن سيرته. وقدمتُ تقييما شخصيا وجيزا لحال هذه الدراسات اليوم، وما تحتاج إليه من تطوير، لتواكب الثورة التي حدثت في باكستان في مجال الإقباليات خلال العقود الثلاثة الماضية، خصوصا بعد الجهود الرائعة التي بذلتها في هذا المضمار أكاديمية إقبال في لاهور. فأشرت إلى اكتشافي المبكر لإقبال منذ نحو ربع قرن، من خلال كتابين وجيزين وقيِّمين جدا، وهما:

نجيب الكيلاني كتب عن إقبال بلغة مشرقة وبيان عذب

كتاب “إقبال: الشاعر الثائر” من تأليف الطبيب الأديب المصري نجيب الكيلاني (1932-1995م) الذي كان رائدا من رواد الأدب الإسلامي في الثمانينيات والتسعينيات، من خلال ديوانيْه: “أغاني الغرباء” و”عصر الشهداء”، ورواياته العديدة التي تحمل هموم المسلمين عبر العالم في قالب فني بديع، من رواية “ليالي تركستان” عن محنة المسلمين في الصين منتصف القرن العشرين، إلى رواية “عمالقة الشمال” عن مقاومة المسلمين في نيجيريا لسياسات التفريق والتمزيق الاستعمارية. ويمكن اعتبار كتاب الكيلاني عن إقبال مدخلا وجيزا، صِيغَ في لغة مشرقة وبيان عذب، بقلم عملاق من عمالقة الأدب العربي في القرن العشرين. وقد حصل الكيلاني على جائزة الدولة في مصر عن كتابه هذا عام 1957، قبل أن يتعرض للاعتقال السياسي والتعذيب البشع عدة سنين، على نحو ما صوَّره في مذكراته، وفي روايته “رحلة إلى الله”.

 

 

أبو الحسن الندوي، كتب عن إقبال بطلب من علي الطنطاوي (الجزيرة)

وكتاب “روائع إقبال” من تأليف العلامة الهندي أبي الحسن الندْوي (1913-1999م)، وهو أحد أعلام الفكر الإسلامي، والضليعين بالأدب العربي، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية في دمشق. وقد كتب الندوي كتابه هذا بطلب من الداعية الأديب السوري علي الطنطاوي (1909-1999م) الذي وجه رسالة إلى الندوي عبر مجلة “المسلمون”. وفي هذه الرسالة -التي أورد الندوي مقتطفات منها في مقدمة كتابه- يشكو الطنطاوي غموض بعض الترجمات العربية لشعر إقبال، وعجْز القارئ العربي عن تذوقها، ويطلب من الندوي أن ينتقي جملة من قصائد إقبال، ويسكب عليها من بيانه العربي، قائلا: “هل لك أن تختار من شعر إقبال ما يجعلنا نتذوق طعم أدبه، ونُلمّ بطريقته، ونتجلَّى أسباب عظمته. فإنَّ ما قرأنا من كلامه مترجَما إلى العربية لم يعرِّفْنا به، ولم يدلَّنا عليه… فهل لك أن تضيف يا أخي، يا أبا الحسن، إلى مآثرك هذه المأثرة…”.

وتحدثتُ في المحاضرة أيضا عن شغفي بشعر إقبال، لأني وجدت فيه جمالا آسرًا وحياة نابضة، وصف العلامة الندوي أثرهما في نفسه بقوله: “وجدتُه شاعر الطموح والحب والإيمان، وأشهدُ على نفسي أني كلما قرأتُ شعره جاش خاطري، وثارت عاطفتي، وشعرتُ بدبيب من المعاني والأحاسيس في نفسي، وبحركة الحماسة الإسلامية في عروقي…”، وهذا الشغف هو الذي حملني إلى قرطبة، ثم إلى لاهور.

وبعد زيارتي “أكاديمية إقبال” زرت أيضا مؤسسة “بَزْمِي إقبال” (مجلس إقبال)، وسعدتُ باستقبال كريم من مدير المؤسسة، الدكتور تحسين فراقي، وعدد من الباحثين العاملين بالمؤسسة. وقد تركز حديث الدكتور فراقي على ضرورة التعاون بين مؤسسته والهيئات الثقافية العربية. و”مجلس إقبال” هو مؤسسة ثقافية تابعة لحكومة البنجاب الإقليمية، تهتم بمدارسة تراث إقبال ونشره، مثلها مثل “أكاديمية إقبال”. فرسالة الدكتور رفيقي على المستوى العالمي هي رسالة الدكتور فراقي على المستوى المحلي.

 

الأيادي المصرية البِيض

وفي حديثي عن إقبال في الدراسات العربية، عبَّرتُ عن العرفان بالجميل للأيادي المصرية البِيض في هذا المضمار.  فقد كانت مصر نافذة العرب على إقبال وعالمه الشعري والفكري. وهي أول بلد عربي زاره إقبال، حيث مكث فيها بضعة أيام (01-04 أبريل 1931م) وهو في طريقه إلى “المؤتمر الإسلامي العام في فلسطين” الذي تداعى له قادة الرأي والقلم وحملة الهمِّ الإسلامي من أقطار عدة، حينما أحسوا بالخطر الصهيوني الداهم.

وكان وراء فكرة المؤتمر مفتي القدس الحاج أمين الحسيني (1895-1974م)، والزعيم الإصلاحي التونسي عبد العزيز الثعالبي (1874-1944م) الذي ربطته بالحسيني صلة وثيقة. وقد اختار الحسيني الزمان والمكان بدقة، فقرر أن ينعقد المؤتمر في مبنًى مجاور للمسجد الأقصى المبارك، وأن يصادف انعقاده ذكرى الإسراء والمعراج، فبدأ المؤتمر يوم 27 رجب 1350ه (الموافق 07 ديسمبر 1931م)، وحضره نحو مئة وخمسين من أعلام المسلمين وأعيانهم، من جميع أرجاء العالم الإسلامي: من الشام، ومصر، واليمن، والعراق، والهند، والبوسنة، وأفغانستان، والبلقان، والقوقاز، وإندونيسيا، والمغرب، والجزائر، وتونس، وغيرها. ومن المشاهير الذين شاركوا في المؤتمر محمد رشيد رضا (1865-1935م)، وعبد الرحمن عزام (1893-1976م)، ومحمد إقبال، الذي جاء ممثلا لمسلمي الهند، إلى جانب صديقه شوكت علي (1873-1938م).

وفي القدس الشريف التي وصل إليها يوم 06 أبريل 1931م كتب إقبال قصيدة جميلة طويلة، صدَّرها ببيت الشاعر الفارسي سعْدِي الشيرازي الذي صدَّرْنا به هذه الدراسة، ونشرَها فيما بعد ضِمْن ديوانه “جناح جبريل” الصادر أول مرة عام 1935م. وقد صاغ الشاعر السوري زهير ظاظا القصيدة صياغة بديعة على منوال قصيدة “البردة” الشهيرة، فحملت نَفَس البردة وروحَها. وفي بُرْدته المقدسية يقول إقبال معبِّرا عن تعلقه بأرض النبوة وبلاد العرب:

هنا بقيَّةُ أطلال هنا لَهَبٌ … يَذوِي هنا بضعُ أشلاءٍ من الخِيَمِ

كمْ خلْفَ ليلَى رِكابٌ مِن هنا عبرتْ … وعَضَّ من لَغَبٍ نِضوٌ على لُجُمِ

ثم يشكو الوهن الذي أصاب المسلمين، وخنوعهم لأعدائهم، وذبول جذوة العزة في نفوسهم، وتخلُّفهم عن طلب المعالي، وبذل الـمُـهج في سبيلها، على نحو ما كان يبذلها أسلافهم العظام:

لا في لهيبِ تراثِ العُرْب من رصَدٍ … يُرْجَى ولا في غِناء الفُرْس من نَغَمِ

هل في الحجاز حسينٌ من بني مُضرٍ … وهل هنالك محمودٌ من العَجَمِ؟

بالحُبِّ قدَّم إبراهيم واحدَهُ … وابنُ الحسين على كفِّ الحسين رُمِي

فَسَلْ حُنينًا وبدْرًا عن حروبهما … كم ضرَّج الحبُّ فيها من فُؤَادِ كَمِي

وخلال أيام إقبال في مصر، وهو في طريقه إلى القدس، نظَّم عدد من أعلام مصر حفل ترحيب بإقبال في مدينة الإسكندرية، وقدَّمه عبد الوهاب عزام في الحفل، وهو الضَّليع بالآداب الفارسية، فتوثَّقت الصلة بينه وبين إقبال، وأصبح من أهمِّ مترجمي شِعره، وكاتبي سيرته. وقد لاحظ طه حسين (1889-1973م) عناقَ الأرواح بين محمد إقبال وعبد الوهاب عزام، فكتب في تقديمه كتابَ عزام: “محمد إقبال: سيرته وفلسفته وشعره” قائلا: “كلا الرجلين كان عذْب الروح، محبَّبا إلى القلوب، وكلا الرجلين كان بعيد المرامي… فكان لقاءُ هذين الرجلين الكريمين لقاءَ روحيْن ائتلفا، فتحابَّا في ذات الله، وفي ذات الإسلام”.

محمد عاكف أرصوي، اكتشف عزام شعر إقبال من خلاله

ويذكر عزَّام في كتابه هذا أن الفضل في بداية اطِّلاعه على شعر إقبال يرجع إلى الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي (1873-1936م) الذي بلغ مبلغا عظيما من الإبداع في التعبير عن روح الإسلام في شعره. وهو كاتب النشيد الوطني التركي، وصاحب ديوان “صفحات” الذي لم يُتَرجم إلى العربية حتى الآن بكل أسف، باستثناء قسم “الظلال” منه، فقد صدر بالعربية عام 1933م بترجمة الأديب إبراهيم صبري.

 

 

 

 

 

عبد الوهاب عزام رائد الإقباليات العربية بلا منازع

وربما لم يبلغ شاعر معاصر في تمثُّل الروح الإسلامية في شعره، مثل ما بلغه الشاعران: محمد إقبال ومحمد عاكف، وكلاهما لُقِّب “شاعر الإسلام” باستحقاق. وكان عاكف صديقا لعزام بمدينة حلوان، يوم كان في منفاه الاختياري بمصر. وقد أَطْلع عاكفٌ عزَّامًا على ديوان إقبال “رسالة المشرق” في أصله الفارسي، فتدارساه معًا، وكان ذلك فاتحةَ شغفٍ بإقبال لازَم عزَّامًا بقية حياته، حتى إنه كان -وهو سفير لمصر في باكستان فيما بعدُ- ينظِّم في بيته حلقة أدبية، مرة أو مرتين في الأسبوع، لجماعة من الأدباء المحبين لإقبال، وكان يسمِّيهم “دراويش إقبال”!

لقد قدَّمتْ أقلام مصرية رائدة أعمال إقبال إلى القارئ العربي، وعرَّفت العرب على حياته وفلسفته. وأبرز هذه الأيادي المصرية البِيض:

الشيخ الضرير، الصاوي شعلان، من أبلغ مترجمي إقبال العرب

عبد الوهاب عزام (1894-1959م)، وقد ترجم ثلاثة من دواوين إقبال، هي: “الأسرار والرموز”، و”رسالة المشرق”، و”ضرب الكليم”. كما ألف أول كتاب عن إقبال باللغة العربية -حسب اطلاعي- بعنوان: “محمد إقبال: سيرته وفلسفته وشعره”. ويمكن اعتبار عزَّام رائد الإقباليات العربية بلا منازع، ومترجم إقبال الشَّغوف به وبشعره. الشيخ الصاوي شعلان (1902-1982م)، وقد ترجم اثنين من دواوين إقبال، هما: “صلصلة الجرس”، و”زبور العجم”، وصاغ شعرًا الترجمة النثرية لديوان: “والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق؟” التي أنجزها أحمد الغازي. هذا فضلا عن كتابات شعلان النثرية عن إقبال، ومنها كتاب: “فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان” (بالاشتراك مع د. حسن الأعظمي). ولعل أشهر قصيدة من ترجمة شعلان هي قصيدة “جواب الشكوى” التي غنَّت أمّ كلثوم مقاطع منها، بعنوان: “حديث الروح”، فأوصلتها إلى أسماع ملايين العرب.

 

 

حسين مجيب المصري، ترجم ديوانين لإقبال وألَّف عنه أربعة كتب

 

حسين مجيب المصري (1916-2004م) الذي ترجم اثنين من دواوين إقبال، هما “رسالة الخلود”، و”هديَّة الحجاز”. كما شارك في التأليف عن حياة إقبال بأربعة كتب، هي: “إقبال والقرآن الكريم”، “إقبال بين المصلحين الإسلاميين”، “إقبال والعالم العربي”، “الأندلس بين شوقي وإقبال”.

ومن العجَب أن الصاوي شعلان وحسين مجيب المصري كانا ضَريريْن، إذ فقَد شعلان بصره في الطفولة، لكنه قهر الصِّعاب، وأصبح ضليعا في الآداب، وهو كأنما يصف نفسه في قصيدته “لاقيتُ مكفوفا” إذ يقول:

 

 

لاقيتُ مكفوفًا تضيء … عـلى محـيَّاه الـبشائرْ
بكفاحِه قَهَر الصِّعابَ … وعيشُه بـالخِصْب نـاضِرْ

لا مَشْيُه وهَنٌ ولا … إقدامُه فـي الخطْو عاثرْ
لا يستعينُ بغيره … بل تستضيءُ به النـَّواظرْ

وفقَد حسين مجيب المصري بصره وهو شاب يُعدُّ رسالته للدكتوراه في الأدب التركي. ولم يمنعه ذلك من إتقان لغات عدة، وتأليف عشرات الكتب في الأدب العربي والتركي والفارسي، إنشاءً وترجمةً.

لقد عوَّض الله تعالى هذين الرجلين عن العين الـمُبصرة بالبصيرة النافذة. وما كان هذا الأمر ليغيب عن ملاحظة إقبال لو كان عاصَرَهما، وأدرك شغَفهما بشعره وفكره. ذلك أن إقبالًا كان يرى البصيرة دواء من داء البصَر، والقلبَ نبراسًا يهدي في ظلمات العقل، فهو يقول -مثلا- في ديوانه “جناح جبريل”:

دواءُ البصيرة هذا الدواءْ … رجاؤك في كشف داءِ البصَرْ

وما العقل إلا جدالُ العلومْ … وحرب الظنون ورجمُ النَّظرْ

مصيرُك أرفعُ من وقفةٍ … وأوَّل معناه ذوقُ السفرْ

وما هي جدوى دمٍ في العروقْ … إذا كان يطفئُ نارَ الفِكَرْ؟

وكان للمصريين فضل السبق أيضا في ترجمة أعمال إقبال النثرية، فأهم كتابين لإقبال نثرًا هما: “تطور الميتافيزيقا في بلاد فارس” (وهو رسالته للدكتوراه بجامعة ميونيخ)، وقد ترجمه إلى العربية بعنوان: “تطور الفكر الفلسفي في إيران” أستاذان مصريان بارزان، هما حسين الشافعي، ومحمد السعيد جمال الدين الذي سعدتُ بصحبته وبما أوتي من علم وافر وتواضع جمٍّ، حين كان أستاذا زائرا بجامعة حمد بن خليفة في الدوحة منذ بضع سنين. كما سعدتُ بحصوله -استحقاقًا- على جائزة حمَد بن خليفة الدولية للترجمة، وقد كتب محمد السعيد جمال الدين رسالته للدكتوراه عن ديوان إقبال “جاويدنامه”. أما كتاب إقبال النثري الثاني ذو الأهمية العظيمة فهو “إعادة بناء الفكر الإسلامي”، وله ترجمتان بقلم كاتبين مصريين أيضا، هما عباس محمود، ومحمد يوسف عدس، وكلتا الترجمتين بعنوان: “تجديد الفكر الديني في الإسلام”.

أما من غير المصريين فقد أسهم السوريون بنقل أحد أهم دواوين إقبال إلى اللسان العربي، وهو ديوان “جناح جبريل” الذي ترجمه الأديب السوري عبد المعين الملوحي (1917-2006م) نثرًا (نقلًا عن ترجمة فرنسية بقلم ميرزا سعيد وسوزان بوساك)، ثم صاغ الشاعر السوري زهير ظاظا ترجمة الملوحي النثرية شعرًا، وطبُع الديوان عام 1993م. والعجَب أن يصلنا نص “جناح جبريل” شعرا بليغا مشرقا، ومعبِّرا عن روح إقبال، بعد هذا المسار المتعرِّج الطويل، ففي ذلك دليل على تمكُّن الشاعر زهير ظاظا وقدرته الإبداعية.

ويبدو أن المصريين أبوا إلا أن يزاحموا إخوتهم السوريين على هذا الديوان اليتيم “جناح جبريل” الذي استأثر السوريون بترجمته، إذ ظهرت له ترجمة عربية نثرية عام 2002م، نقلا عن اللغة الأوردية مباشرةً، بقلم الأكاديمي المصري جلال سعيد الحفناوي، أستاذ الأدب الأُوردي بجامعة القاهرة. وللحفناوي أيضا ترجمة نثرية لديوانيْ إقبال: “صلصة الجرس” و”ضرب الكليم”.

وقد ختمتُ محاضرتي عن الإقباليات العربية بإبداء رأيي في أداء هؤلاء العمالقة الذين قدَّموا شعر إقبال إلى القارئ العربي. فذهبتُ إلى أن أمْهرَهم في تحويل نصوص إقبال شعرا عربيا منسابا كان الصاوي شعلان وزهير ظاظا. ويكفي تأمل قصائد إقبال في الأندلس بصياغة زهير ظاظا، أو صدْر “حديث الروح” بصياغة الصاوي شعلان، لإدراك ذلك. ويمكن أن نضيف إليهما عبد الوهاب عزام في بعض ما ترجمه عن إقبال بإيقاعٍ عربيٍّ، مثل قصيدة “الحور والشاعر” وقصيدة “الوردة الأولى” من ديوان “رسالة المشرق”.

أما ما ترجمه عزام على منوال الإيقاع المثنوي الفارسي، كما فعل في ديوان “الأسرار والرموز” مثلا، وترجمات حسين مجيب المصري التي نحت المنحى ذاته، فهو لا يحرِّك القارئ العربي عادة، خصوصا إذا كان ذوّاقةً للشعر. وبالجملة فقد اتَّسمت بعض ترجمات عزام وحسين مجيب المصري بشيء من ارتباك الصياغة. ولعلهما لم يفلحا في التوفيق بين القاعدتين المتناقضتين اللتين يواجههما كل مترجم، وهما: الوفاء لمعنى النص الأصلي، والتحرُّر من أسلوبه. ويبدو لي أنهما اقتربا من النص الأصلي أكثر من اللازم، وتأثَّرا كثيرًا بالإيقاع الشعري الفارسي، على حساب الإيقاع الشعري العربي، مع الاعتراف بأنهما من أعلم أدباء العربية بإقبال وشعره.

وقد اقترحتُ إعادة ترجمة بعض دواوين إقبال، بما يلائم الذوق الأدبي العربي والإيقاع الشعري العربي، خصوصا تلك الدواوين التي صِيغت ترجمتُها العربية على الطريقة المثنوية، وذلك لأن هذه الطريقة التي قد تناسب الذوق الأدبي الفارسي والأوردي غريبة على الشعر العربي، وإنما يستعملها العرب عادة في الأنظام التعليمية التي لا تندرج ضمن الشعر بمعناه الفني الخالص. كما دعوتُ إلى تجديد الكتابة في سيرة إقبال التي لم يكتب عنها العرب كتابة نوعية منذ مدة مديدة، ومن كتبوا منهم عنها في العقود الأخيرة لم يستمدُّوا من الثروة العلمية المتوفرة عن إقبال اليوم، بفضل الجهود العظيمة التي تبذلها أكاديمية إقبال في لاهور.

فلم تصدرْ بالعربية في العقود الأخيرة كتبٌ ذات قيمة إضافية عن حياة إقبال -حسب اطلاعي- إذا استثنينا كتاب الباحث الهندي، الدكتور عبد الماجد الغوري: “محمد إقبال: الشاعر المفكر الفيلسوف”، وهو كتاب وجيز جدًّا صدر عام 2000م، ثم الترجمة العربية لكتاب جاويد إقبال: “النهر الخالد” الصادرة عام 2005م، وهو كتاب وافر المعلومات، لكن ترجمته تحتاج إلى مراجعة أسلوبية.

 

بين إقبال والمودودي

وما كان لي وأنا في ربوع إقبال إلا أن أزور آثار الشيخ أبي الأعلى المودودي (1903-1979م)، وهو شخصية علمية كانت ذات صلة وثيقة بإقبال، ولها بصمتها الفكرية الباقية في باكستان، وفي أرجاء العالم الإسلامي. يقع بيت المودودي في حي متواضع من أحياء لاهور، وهو فيلا بيضاء أنيقة، تدل على حياة أسرة متوسطة الحال. وفي حديقة البيت الأمامية ضريح العلامة المودودي وزوجته السيدة الفاضلة محمودة بيغُم، وإلى جانب البيت شيَّدت ابنة المودودي مسجدا متوسط الاتساع.

عند ضريح العلامة المودودي في حديقة بيته بلاهور

بعد زيارة الضريحيْن والدعاء للراحليْن، دلفتُ إلى مكتب الشيخ المودودي، وهو مكتب صغير داخل مسكنه، ويضم مكتبته الشخصية، وبعض الأدوات التي يستخدمها في الكتابة، فسجلتُ فيديو من داخل المكتب، جالسا على الكرسي الذي كان العلامة المودودي يجلس عليه وهو يكتب، أو يستقبل زواره في مكتبه. وتحدثتُ في الفيديو عن هذا المجتهد المجدد، وعمَّا يدين له به المسلمون من إسهام في بناء الوعي الإسلامي المعاصر.

كما تحدثت فيما بعد إلى جمع من فضلاء لاهور عمَّا أدين به للمودودي وتراثه الفكري، مع تركيز خاص على كتابه “الخلافة والملك” الذي كان من الكتب التي أعانتني في فهم أزمة الشرعية السياسية في التاريخ الإسلامي. ويمكن القول إن هذا الكتاب مِن أثمن ما خطَّه قلم المودودي، وقد كان ملهما لي في كتابة كتابي: “الخلافات السياسية بين الصحابة”، وكتابي “الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية” الذي تكرمت الجماعة بنشر طبعة أوردية له، من ترجمة البحَّاثة الدكتور محيي الدين غازي.

ورأيي أنه لو لم يتخطَّف الموت إقبالًا عام 1938، بعد أول تعارف جدِّيٍّ بينه وبين المودودي، لربما كانا أنتجا معا عملا جليلا في خدمة الرسالة الإسلامية. ولربما تحولا ثنائيا فكريا متكاملا، على نمط الثنائيّ السياسي، إقبال وجناح، الذي سنتحدث عنه لاحقًا.

لقد اشترك إقبال والمودودي في رؤية الخطر المتعاظم على مسلمي شبه القارة الهندية، في ختام الحقبة الاستعمارية البريطانية. ولاحظ كلاهما بقلق بالغ إحساس الهندوس الواضح في تلك الفترة بأن مستقبل الهند أصبح بأيديهم، دون اعتبار للمسلمين، الذين كانوا صفوة المجتمع وحكام معظم البلاد لقرون. كما لاحظ كلاهما أن العلاقة بين الهندوس والمسلمين بدأت تتحول تدريجيا -عشية رحيل المستعمرين البريطانيين- علاقة محكوم بحاكم، وتابع بمتبوع، أكثر مما هي علاقة شركاء في الوطن والتاريخ.

أما إقبال فقد أدرك ذلك الخطر الداهم من احتكاكه المباشر مع النخبة السياسية الهندوسية، ولقاءاته ومراسلاته مع المهاتما غاندي (1869-1948م) وجواهر لال نهرو (1889-1964م) وغيرهما من الساسة الهندوس، ففهم سعيهم إلى تفتيت الكتلة البشرية الإسلامية في الهند، وحرمانها من التحول قوة سياسية ذات شأن. وأما المودودي فقد أدركه خلال أسفاره داخل الهند، وملاحظاته اليومية الذكية. ففي حديث له عام 1970م يتذكر المودودي أنه فهم في زيارة له لدلهي عام 1937 مخاطر “الإحساس بالهزيمة” لدى بعض المسلمين. ويذكر أنه في أحد أسفاره بالقطار آنذاك لاحظ التعامل الاستعلائي الفظَّ من طرف أحد القادة الهندوس مع المسلمين، فأحسَّ بجرح في الكرامة، ولم يستطع النوم لعدة أيام، حزنا على حال المسلمين.

وقد أُعجِب إقبال في وقت مبكر بكتاب “الجهاد” الذي أصدره المودودي وهو لا يزال شابا في الثالثة والعشرين من عمره، كما كان إقبال قارئا منتظما لأعداد مجلة “ترجمان القرآن” التي كان يُصدرها المودودي، فعرف قيمة هذا الباحث الصاعد والقلم المتمكن.  والتقى الرجلان لقاءين: أولهما كان لقاء عابرا عام 1929 أثناء زيارة إقبال لحيدر أباد، حيث كان المودودي يقيم. والثاني، وهو الأهم، حين تواصل إقبال مع المودودي بشأن وقف علمي إسلامي مهم، كان إقبال يرجو أن يكون بذرة لتجديد الفقه الإسلامي.

أدرك كل من إقبال والمودودي أن مصير المسلمين في الهند سيكون في أقاليمها الشمالية الغربية، حيث تتركز الكثافة السكانية الإسلامية، وأن حيدر أباد التي كان يقيم بها المودودي لن تكون جزءا من الدولة الإسلامية المنشودة، نظرا لقلة عدد سكانها المسلمين مقارنة بالهندوس. فدعا إقبالٌ المودوديَّ للانتقال إلى إقليم البنجاب، للتعاون معه في التخطيط للنهضة الإسلامية، من خلال إشراف المودودي على وقف علمي إسلامي أوقفه أحد أثرياء المسلمين في البنجاب، هو تشودري علي نياز (1880-1976م)، بنصيحة من إقبال، وسجَّله باسم “صندوق دار الإسلام”. وقد أراد إقبال أن يكون هذا الوقف مؤسسة علمية متخصصة في التخطيط الفكري للنهضة الإسلامية، وتجديد الفقه الإسلامي.

إقبال والمودودي.. شخصيتان متكاملتان، لكن لكل منهما منهج وطريقة ومزاج (الجزيرة)

وقد كتب إقبال إلى شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي (1881-1945م) يوم 05 أغسطس 1936م رسالة بهذا الشأن، طالبا منه “التكرُّم بإرسال رجل عالِم مصري متنوِّر، على نفقة جامعة الأزهر، ليُساعدنا في تحقيق رسالتنا الواعدة. وينبغي أن يكون ماهرًا في العلوم الشرعية، وفي تاريخ التمدُّن الإسلامي، ويجب أيضا أن يكون متمكّنًا من اللغة الإنجليزية”. لكن شرط التمكُّن من اللغة الإنجليزية أعاق الشيخ المراغي عن تلبية هذا الطلب، فكتب في جوابه لإقبال يوم 21 أغسطس 1937م، معبِّرا عن غبطته بفكرة تأسيس هذا الوقف العلمي الإسلامي، ومعتذرا: “وإنّي آسف جدًّا، إذ أصرِّح لكم بأنه لا يوجد عندنا أحد من علماء الأزهر قادرٌ على اللغة الإنجليزية؛ فلمْ تدخل اللغة الإنجليزية الأزهر إلا في السنة الماضية لطلاب الكليات. ولا أظن أني أستطيع إجابة طلبكم إلا بعد عودة البعثة التي أُرسلَت في العام الماضي إلى إنجلترا”.

ويبدو لي ردُّ الشيخ المراغي منطقيا، إذ إن نافذة الأزهر على الثقافة الغربية آنذاك كانت نافذة فرنسية في المجمل، بينما كانت نخب المسلمين في شبه القارة الهندية متمرسة باللغة الإنجليزية. لكن إقبالًا وجد ضالَّته التي يبحث عنها في مصر قريبة جدًّا منه، فاتَّجه إلى أبي الأعلى المودودي، ذلك العالِم الشاب الذي التقاه إقبال في حيدر آباد عام 1929، واطَّلع على كتابه “الجهاد” وبعض مقالاته، وأدرك أهليته لقيادة هذا المشروع العلمي الإسلامي الطموح. فكان اللقاء الثاني بينهما في شهر مارس 1938م، لوضع اللمسات الأخيرة على المشروع الذي تقرَّر أن يتولى المودودي إدارته. لكن المنيَّة تخطَّفت إقبالًا في الشهر الموالي (أبريل 1938م)، وهو ما خلَّف حزنا عميقا وفراغا كبيرا في نفس المودودي، فكتب في تأبينه أنه فَقَد “عِمادَه الروحي” بوفاة محمد إقبال.

الشيخ المراغي راسله إقبال بشأن وقف "دار الإسلام"

ويعتقد المودودي أن أعظم ما يَلفت النظر في شخصية إقبال هو أن عقله تضلَّع بالفلسفة الغربية، لكن قلبه ظل مسلمًا، عميق الإيمان، عزيز النفس، وأن إقبالًا كان كلما زاد اتساع معرفته بالثقافة الغربية زاد اقتناعه بعظمَة الرسالة الإسلامية. ويمكن اعتبار إقبال والمودودي شخصيتين مختلفتين، لكنهما متكاملتان. فأولوية إقبال كانت النظر البعيد في سبل إنقاذ الحضارة الإسلامية في الهند، من خلال التعاون بين مختلف مكونات المسلمين، مهما كانت مشاربهم الفكرية والسياسية، ومستوى التزامهم بالدين، وبناء دولة قوية للمسلمين تكون درعا لهم، لأنهم يواجهون معركة وجودية. فلا مستقبل لحضارة حُرمتْ مظلة الدولة وقوة السلاح في نظر إقبال. أما المودودي فكان تركيزه على الجانب النوعي والمعياري، والسعي لبناء نموذج نقيٍّ للحياة الإسلامية المعاصرة، وصيانة معالم الإسلام من الانطماس، خصوصا في أجواء الثقافة الهندوسية التي تكاد تبتلع المسلمين، وهجمة الثقافة الغربية الغازية التي تكاد تشوش وجدانهم. فلا تناقض بين رؤية إقبال والمودودي للغايات البعيدة، لكن لكل منهما منهج وطريقة ومزاج.

ويمكن القول إن إفراط المودودي في المعيارية الصلبة انتهى بمشروعه إلى بناء نخبة إسلامية نوعية، لكنها منفصلة إلى حد بعيد عن خضمِّ المجتمع العريض، كما هو واضح من ضعف الأداء السياسي للجماعة الإسلامية في باكستان، خصوصا في العقود الأخيرة. ويكفي أن نعرف أن الجماعة لم تظفر في الانتخابات الأخيرة بمقعد واحد في برلمان باكستان، الدولة الإسلامية التي يتجاوز عدد سكانها مئتين وأربعين مليونا. أما إقبال فقد تحقق حلمُه السياسي في بناء دولة للمسلمين في الهند خلال فترة وجيزة (وإن كان ذلك بعد وفاته بتسعة أعوام)، بفضل قدرته على بناء المساحات المشتركة مع الجميع، وهذا هو جوهر العمل السياسي. فليست السياسة -في اعتقادي- هي “فنُّ تحقيق الممكن” فحسب، بل هي أيضا “فنُّ بناء المساحات المشتركة”.

ثم إن فكر إقبال المفتوح ساح مع الهواء والضياء في كل طبقات المجتمع الباكستاني، بل وفي كل أرجاء العالم، بخلاف فكر المودودي الذي ظل محصورا في النخب الإسلامية. ولعل هذه المقارنة تُرجع إلى الأذهان مقارنة المستشار طارق البشري (1933-2021م) بين حسن البنَّا (1906-1949م) وسيد قطب (1906-1966م) إذ قال: “إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا رحمهما الله… فكر حسن البنا فكر انتشار وذيوع، وارتباط بالناس بعامة، وهو فكر تجميعٍ وتوثيقٍ للعُرَى. وفكر سيد قطب فكرُ مجانبةٍ ومفاصلةٍ، وفكرُ امتناعٍ عن الآخرين. فكر البنَّا يزرع أرضًا، وينثر حبًّا، ويسقي شجرًا، وينتشر مع الشمس والهواء. وفكر سيد قطب يحفر خندقًا، ويبني قلاعًا ممتنعةً عالية الأسوار”.

ولإنصاف المودودي و”الجماعة الإسلامية” التي أسسها، يجب التنويه بأن الجماعة نجحت نجاحا عظيمًا في العمل الخيري والاجتماعي، وفي استقطاب الشباب، وصيانة عقيدتهم وهويتهم. وقد رأيت مشاهد باهرة من حيوية شباب الجماعة في مؤتمر كراتشي. كما أني اطلعتُ على أياديها البِيض في المجتمع الباكستاني من خلال زيارة “مؤسسة الخدمة الخيرية” التابعة للجماعة. لكن الجماعة الإسلامية في باكستان تشبه بعض شقيقاتها من الجماعات الإسلامية العربية، في عجزها عن ترجمة إنجازاتها الثقافية والاجتماعية إلى رأسمال سياسي، فظل خطابها السياسي نخبويا منبتًّا عن المدافعات السياسية الواقعية، وبعيدا عن التمكُّن في الفضاء السياسي. وهذا ما كان يخشاه إقبال، وهو أن يبقى “نور السماء” دون أثر على “أرض البشر”:

أيها المسلم يا نورَ السماءْ … كيف لا تشرقُ في أرض البشرْ؟

 

مع البحَّاثة خُرَّام شفيـق

لقد كان من أهم غايات زيارتي لباكستان أن ألتقي البحَّاثة الباكستاني خُرَّام شفيق، أحد أوسعِ الباحثين معرفة بالشاعر الفيلسوف محمد إقبال، وأغزرِهم كتابة عنه. فقد ألَّف شفيق -إلى جانب كتبه بالأوردية- كتابين قيِّمين عن حياة إقبال باللغة الإنجليزية، هما “إقبال: سيرة مصوَّرة”، و”إقبال: حياته لأزماننا”. كما حرَّر شفيق طبعات مبسَّطة ومرصَّعة بالرسوم الفنية من ديوانيْ إقبال “رسالة المشرق” و”رسالة الخلود” في ترجمتهما الإنجليزية، تسهيلا لولوج القراء الشباب إلى عالم إقبال وشعره. وله دراسات أخرى عن مفهوم إقبال للتاريخ، ومفهومه للسياسة، وغير ذلك. ورغم وفرة المؤلفات عن حياة إقبال، ومن أهمِّها كتاب “النهر الخالد” الذي ألَّفه نجلُه جاويد إقبال في مجلدين، فإن لكتابات خرام شفيق عن حياة إقبال مذاقًا خاصًّا، لأنها نجحت في الجمع بين التوثيق والتشويق. وبفضل هذه الجهود الرائعة حصل خرام شفيق على جائزة الرئاسة الباكستانية في دراسة “الإقباليات” ثلاث مرات.

خُرَّام شفيق كتب عن حياة إقبال بتوثيق وتشويق

تواصلتُ مع الأستاذ شفيق من الدوحة قبل سفري بأيام، وتحدثتُ معه عن مقصد رحلتي، وحرصي على لقائه، للاستمداد من خبرته عن إقبال وجها لوجه، بعد أن تابعتُ نتاجه المكتوب على مدى أعوام. فوافق على لقائي حالما أصِل كراتشي، وزارني بتواضعٍ وكرَمِ نفسٍ في الفندق الذي أقيم به في كراتشي، فذهبنا معا لمقهى بحثا عن مكان هادئ قصيٍّ، يناسب أحاديث السمر في الفلسفة والشعر. وقد بدا لي خرام شفيق متوسط الطول، ذا بشرة سمراء فاتحة، وشَعَر أصهب سَبطٍ، تُشعُّ عيناه فطنةً وذكاءً، ويظهر عليهما شيء من الإعياء والكلَل الذي كثيرا ما يظهر على عيون الباحثين المجتهدين، مع صوتٍ هادئ عميق فيه بحَّة خفيفة، لكنه يحمل ثقة العارف بما يقول وهو يتحدث عن إقبال.

جمَع شفيق بين الاهتمام بمحمد إقبال والاهتمام بمحمد عليّ جناح. وكان آخر ما اطَّلعتُ عليه من كتب شفيق كتابه الصادر عام 2022م بعنوان: “كيف حرَّر جناح الهند”، وهو كتاب مشحون بصراع السرديات، وجدَل الذاكرة المتوازية، بين النخب الإسلامية والنخب الهندوسية في شبه القارة الهندية. وفي هذا الكتاب ينقُض شفيق بحِجاجٍ رصين المزاعم المتوارثة بين النخب الهندوسية التي تتهم المسلمين بتقسيم الهند، ويبرهن على أن الهند لم تكن في تاريخها دولة واحدة أصلًا، وأن المسلمين الهنود بقيادة جناح كانوا أكثر جِدًّا واجتهادًا في سعيهم لتحرير الهند من الاستعمار، من نظرائهم الهندوس الذين استكانوا له، ووجدوا فيه مصلحة لهم، خصوصا أن المستعمِرين البريطانيين هم الذين هدُّوا أركان الإمبراطورية الإسلامية المغولية في الهند، وأعادوا هندسة المجتمع الهندي لصالح الهندوس على حساب المسلمين.

ولا بأس من التذكير هنا بأن المسلمين كانوا رأس الحربة في مقاومة الاستعمار البريطاني، فقد قاوموا البريطانيين بشراسة، خصوصا في انتفاضة 1857، المعروفة باسم “حرب الاستقلال الهندية الأولى”.  وهي لحظة تاريخية فاصلة، هزَّت أركان المشروع الاستعماري البريطاني، وكادت تجتثّه من جذوره. وقد جعلت تلك الانتفاضة البريطانيين والهندوس يتقاربون فيما بعدُ على حساب المسلمين.

عرضتُ على شفيق الفكرة المحورية لمشروع كتابي الذي أكتبه عن إقبال بعنوان: “عزّ العبودية لله: عِناق الحق والقوة في شعر محمد إقبال وفكره”، وهو محاولة لعرض جوهر الرسالة التي أراد إقبال إيصالها إلى أجيال المسلمين، من خلال مبدأيْن يختزلان فلسفة إقبال، وهما: “نفي الذات” في العلاقة بالخالق، و”إثبات الذات” في العلاقة بالمخلوق. وقد استخدم إقبال عبارة “عز العبودية لله” في شعره -ومنه استعرتُـها عنوانًا لكتابي- وذلك في أبيات من ديوانه “جناح جبريل” يقول فيها:

أنْتَ عَبْدُ الله فالزمْ … ليسَ للحُرِّ تحَوُّلْ

ما عَدَا عِزِّ العُبوديَّة لله تَسَوُّلْ

ثم استنصحتُ شفيقًا في أخصر طريق إلى المصادر المعينة على إنجاز مشروع كتابي، فنصح بالتركيز على نصوص بعينها من دواوين إقبال، وبعض مقالات إقبال السياسية التي تنقل فلسفته من ضيق الذات الفردية إلى سعة الذات الجماعية. ثم أفاض إليَّ بحديث مُنسابٍ عن جوانب من حياة إقبال ورؤيته لمستقبل المسلمين في شبه القارة الهندية وفي أرجاء العالم. وامتدَّ سَمَري الممتع معه نحو أربع ساعات، ولولا خشيتي من أن أكون ضيفا ثقيل الظل لطال اللقاء أكثر.

وقد أحسستُ من سَمَري الطويل مع الأستاذ شفيق أنه يحمل همًّا دفينا حول مستقبل المسلمين في الهند، بعد تصاعد سطوة اليمين الهندوسي المتعصِّب، المدفوع بذاكرة انتقامية مظلمة، والمتأثر بألاعيب القوى الغربية، الساعية إلى اتخاذ الهند مطيَّة لصراعها الإستراتيجي مع العالم الإسلامي، ومع الصين. وتمنَّى شفيق لو أن المسلمين في الهند وحَّدوا كلمتهم، وبنوْا على تجربتهم السياسية الثَّـريَّة في الأعوام السابقة لاستقلال الهند تحت مظلة “رابطة عموم مسلمي الهند”، عسى أن يحققوا مزيدا من الفاعلية والإقدام في التعاطي مع التحديات الوجودية التي تواجههم اليوم.

وكان من آخر أسئلتي للأستاذ شفيق السؤال التالي: ماذا تحقَّق حتى الآن من حُلم إقبال وماذا لم يتحقق بعد؟ فكان ردُّه أن أهم ما تحقَّق من ذلك الحلم أمران: أولهما أن مسلمي القارة الهندية يملكون اليوم دولتين مستقلتين، هما باكستان وبنغلاديش، حيث يمارسون السيادة على أنفسهم، دون رهبة من الغالبية الهندوسية المثقلة بروح التصعب ونوازع الثأر التاريخي. ويكفي النظر إلى التعامل القبيح الذي تعامل به الحكومة الهندية مواطنيها المسلمين اليوم، تحت سطوة رئيس الوزراء اليميني الحالي ناريندرا مودي، لإدراك حكمة إقبال وبُعد نظره في هذا المضمار. والثاني أن اللغة الأوردية اليوم لغة حيَّة وثريَّة بالآداب والعلوم والفنون. وقد كان الحِفاظ على هذه اللغة من أهم ما حرص عليه إقبال، حتى إنه اشترك في تأليف عدة كتب في الأدب الأوردي لطلاب الثانوية -وهو المنشغل بعظائم الأمور- إدراكًا منه أن اللغة هي وعاء الهوية، ودرع الذاكرة الجمعية، وبضياعها تضيع معالم الحضارة.

وقد اتضح لي في ختام سمَري مع خرام شفيق أن تعلُّقَه بإقبال تعلُّق قلبيٌّ صادق، وأن عمله الكثيف عنه لم يكن مجرد اهتمام ذهني بارد، بل وراءه دفقاتٌ من الوجدان والاستلهام العاطفي لمآثر هذه الشخصية الإسلامية العظيمة. ففي ختام حديثي مع الأستاذ شفيق سألتُه: كيف أمكن لإقبال أن يُنجز كل ما أنجزه من مآثر، رغم أنه عاش حياة صعبة على المستوى الشخصي والمهني، فقد عانى حياة عاطفية وعائلية مضطربة، وعمِل محاميا رغم أن قلبه معلَّق بالشعر، و”لغة الشعر لا تصلُح لدار القضاء” كما تقول العرب، وكثيرا ما كان وضعه الصحي والمالي متعثرا. ثم إنه فقَدَ زوجته المحبَّبة إلى قلبه بعد بضعة أيام فقط من انتقالهما إلى بيتهما الجميل الذي شيَّداه بشِقِّ الأنفس، فظل يحمل حزنا عميقا على فراقها، وحنينا دفينا إليها، حتى لحِق بها بعد ثلاثة أعوام؟!

اغرورقتْ عينا خرام شفيق بالدموع، وتلَعْثم في الجواب! فأدركتُ أني لامستُ وترًا حسَّاسا في نفسه، وحرَّكتُ شجنا عميقا في قلبه.. ووجدتُ أن الأرحمَ به، والأرفقَ بي، أن نفُضَّ الجَمْع، ونختِم السَّمَر.

انهضْ أيها الأسد المتحفِّز!

تزامنتْ زيارتي القصيرة لمدينة لاهور مع موسم انتخابي ساخن في باكستان، كشف عن الأزمة البنيوية العميقة التي تمنع الأسد الباكستاني المتحفِّز من النهوض والريادة، على النحو الذي حلُم به إقبال.

لقد جمع إقبال بين العمق النظري والحاسة العملية. وقلَّ أنْ تجتمع هاتان الصفتان في شخص واحد. فلم يكن إقبال يقبل التنازل قيد أنملة في المبادئ الكبرى، مثل كرامة المسلمين وحريتهم، وصون هويتهم الإسلامية، واستقلال قرارهم الإستراتيجي. لكنه كان مرنًا في التفاصيل والتكتيكات، مع عقل مفتوح، ونزوع إنساني منصف للذات وللغير. وكان أعظمُ إنجاز حققه إقبال لمستقبل المسلمين في شبه القارة الهندية أمرين:

  • إقناعُه السياسيَّ العبقري محمد علي جناح بضرورة إنشاء دولة خاصة بالمسلمين بالهند، بعد أن كان جناح مندمجا في الحركة القومية الهندية، ضمن حزب “المؤتمر “.
  • ثم إقناعُه جماهيرَ المسلمين في الهند بالالتفاف حول جناح، والإجماع على قيادته، لضمان بقائهم قوة سياسية ذات وزن في التفاوض مع الهندوس ومع الإنجليز.

يقول عباس محمود العقاد (1889-1964م) في كتابه: “القائد الأعظم محمد علي جناح” إن أخص خصائص جناح هي “الصدق الصريح في جميع الأقوال وجميع الأحوال”. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الروح العملية، والبراعة التكتيكية. وهكذا شكَّل محمد إقبال ومحمد علي جناح ثنائيا ذهبيا، وضَع بصمته على تلك المرحلة التكوينية الأولى لفكرة الدولة الباكستانية. فعِناق رؤية إقبال وكلماتِه الملهِمة مع حركية جناح ومهارته السياسية هما الدعامتان اللتان أثمرتا استقلال المسلمين في شبه القارة الهندية. وقد لاحظتُ عبارة معبِّرة عن هذا في أحد منشورات “بستان إقبال” تقول: “فكِّر مثل إقبال، وتصرَّف مثل جناح”. فلإقبال وجناح مكانة خاصة في الهوية التكوينية لباكستان، ولا عجب أن تفرَّد جناح في باكستان بلقب “القائد الأعظم”، وتفرَّد إقبال فيها بلقب “العلاَّمة”.

وقد أورد الباحث حفيظ مالك في كتابه “إقبال والسياسة” قصة معبِّرة عن شخصية إقبال السياسية الذكية. فقد زار الزعيم الهندي جواهر لال نهرو إقبالًا في بيته في يناير 1938م، وهو مريض في خواتيم حياته، وأصرَّ نهرو على الجلوس على الأرض توقيرًا لإقبال. لكن نهرو كان ثعلبا سياسيا، وكان من غايات زيارته التفريق بين إقبال وجناح، من أجل إضعاف جبهة المسلمين السياسية. وفي ختام لقائهما تحدث ممثل حزب “المؤتمر” الذي جاء رفقة نهرو إلى إقبال، قائلا: “يا دكتور.. لماذا لا تصبح قائد المسلمين؟ فالمسلمون يحترمونك أكثر بكثير مما يحترمون جناحًا، ولو أنك تفاوضت مع حزب المؤتمر باسم المسلمين فستكون النتائج أفضل”. أدرك إقبال لعبة القوم ومراميها فورًا، وكان متَّكئا تحت وطأة المرض، فنهض غاضبا، ورد بحسم قائلا: “إن إستراتيجيتكم هي إطرائي أنا، ودفعي للتنافس مع جناح. لكني أخبركم أن جناحًا هو القائد الفعلي للمسلمين، وأنا مجرد جندي من جنوده”. فما كان من نهرو إلا أن نهض، وأنهى الزيارة فورًا.

زار نهرو إقبالا في خواتيم حياته وأصرّ على الجلوس بالأرض توقيرا له

ومن المهم التذكير في هذا السياق بأن إقبالا ينتمي لأسرة سنية، وهو إسلامي حتى النخاع، أما محمد علي جناح فهو ينتمي لأسرة شيعية، وكان علمانيَّ التوجُّه في حياته السياسية المبكِّرة، وكل من أسرة إقبال وجناح متحدِّرة -قبل إسلامها- من طبقة البراهمة، أي من عِلِّيَّة القوم طبقا لنظام الطبقات في المجتمع الهندي التقليدي. لكن كلا الرجلين كان يفكر بأفق رحب، وينظر إلى المصائر الكبرى لأمته، وأجيالها اللاحقة، ومكانتها بين الأمم، ورسالتها الخالدة، بعيدا عن أي اعتبارات طائفية أو اجتماعية ضيقة.

فقد حرص إقبال على كسب جناح لفكرته، بعد أن أدرك كفاءته السياسية، وأهليته لقيادة معركة استقلال المسلمين في الهند. أما جناح فقد خرج من ضِيق العَلمانية إلى سَعة الإسلام، بعد تقاربه مع إقبال، وتماهِيهِ مع وجدان شعبه، وهكذا “تحوَّل العلماني جناح إلى داعية متحمِّس للإسلام باعتباره القاعدة التأسيسية لدولة باكستان”، كما لاحظ المفكر السياسي الأميركي صمويل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات”.  وهذا درس تاريخي مهم للذين تمزقهم اليوم النزعات الطائفية، والحروب العدمية، ويسقطون في أحابيل القوى الدولية الباغية، التي تضرب بعضهم ببعض، وتسعى إلى تدميرهم جميعا.

وتدل مراسلات إقبال مع جناح التي أهداني منيب إقبال -مشكورا- نسخة منها على تناغم تام بين الرجلين حول الهوية الإسلامية والنظام الديمقراطي. ففي إحداها يكتب إقبال إلى جناح أن “مستقبل الإسلام كقوة سياسية وأخلاقية في آسيا يتوقف -إلى حد بعيد- على حسن تنظيم المسلمين في الهند”، وأن “تشريعات الإسلام يستحيل تطبيقها إلا بوجود دولة حرة، أو أكثر من دولة حرة، للمسلمين في الهند”، وأن إقامة النظام الديمقراطي “عودة إلى نقاء الإسلام الأصلي”. وفي تقديمه للنسخة المطبوعة من هذه المراسلات يصف جناح إقبالًا بأنه “الفيلسوف الحكيم والشاعر الوطني الإسلامي”، ويقول إنه “كان له دور واضح” فيما حققه المسلمون من مكاسب سياسية.

لكن باكستان التي حلُم بها إقبال، وعمل لبنائها جناح، لا تزال بعيدة المنال، رغم الإمكان الكامن الذي يؤهلها لأن تكون في طليعة الدول الإسلامية. إذْ تعاني باكستان منذ أعوام استقلالها الأولى من الاضطراب السياسي، والهشاشة الاقتصادية. وتشبه مدينتا كراتشي ولاهور اليوم -وهما من أضخم الحواضر الباكستانية- حال مدينة إسطنبول التركية أيام الحكم العسكري في التسعينيات، من الازدحام والتلوث، وضعف التنمية الاجتماعيةـ وهشاشة الخدمة العامة. وهذه هي المعضلات التي واجهها رجب طيب أردوغان بحزم، حينما انتُخب عمدة لبلدية إسطنبول 1994-1998. وكان نجاحه الباهر في حلِّ تلك المعضلات بدايةً لمساره السياسي، ومفتاحًا لصعوده إلى قِمَّة السلطة، وصعود تركيا إلى مصافِّ الدول الصاعدة. وتعود المعضلات البنيوية في باكستان -كما كان الحال في تركيا التسعينيات- إلى أمرين:

  • تدخُّل الجيش في الحياة السياسية، وفرْض إرادته وصيًّا -ظاهرًا أو مستترًا- على الشعب وعلى مصائر البلاد. وهذه ظاهرة مزمنة في التاريخ الباكستاني منذ الاستقلال عام 1947م.
  • والأنانية السياسية المستحكِمة في النخب الحزبية، التي تسعى كل منها إلى كسب الجيش إلى صفها، بدل التوافق على إخراج الجيش من السياسة، ودفْعِه إلى الالتزام بمهمته الدستورية.

وتشبه باكستان في قوَّتها العسكرية، ومحوريَّتها في العالم الإسلامي، دولتين عربيتين هما مصر والجزائر، وهي تشترك معهما في المعاناة من أزمة بنيوية عميقة، هي العلاقات غير السَّويَّة بين المدنيين والعسكريين. ففي مصر استأثر الجيش بالسلطة والثروة على مدى سبعين عاما، فقتل الفضاء السياسي، وشوَّه المجتمع المدني، ولا يوجد -حتى الآن- أفُق للخروج من هذا المأزق. وفي الجزائر استأثر الجيش بالسلطة عدة عقود، ثم انتقل من الحكم المباشر إلى الحكم غير المباشر خلال العقدين الأخيرين. أما في باكستان فقد سارت الأمور سِجالًا، بين حكم مدني متصدِّع، وحكم عسكري متسلِّط، حتى إن أيًّا من رؤساء وزراء باكستان المنتخَبين لم يكمل ولايته، منذ استقلال البلاد عام 1947 إلى اليوم.

وربما يحسن بالدول الثلاث استخلاص العبرة من تجربة تركيا التي استطاع فيها الرئيس رجب طيب أردوغان، بحاسَّته الإستراتيجية، وبراعته السياسية، أن يحتوي المؤسسة العسكرية، ويحيِّدها سياسيا، دون أن يعرّض استقرار البلاد لهزات عنيفة، على نحو ما حدث في دول أخرى في المنطقة. فكانت “الثورة الصامتة” التي قادها أردوغان هي التي جنَّبت تركيا أخطار “الثورة الصاخبة” وثمنها الفادح الذي نراه اليوم في أكثر من دولة مهشَّمة في العالم العربي.

لقد رشَّح صمويل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” جمهورية باكستان الإسلامية -من بين ست دول أخرى- لأن تكون دولة محورية قائدة في العالم الإسلامي، وهذا أقلُّ ما كان يطمح إليه إقبال حين صاغ فكرة باكستان. وقد لاحظ هنتنغتون أن باكستان تملك بعض المؤهلات الضرورية لهذه الريادة، ومنها: المساحة الجغرافية الفسيحة، والكتلة السكانية الكثيفة، والقوة العسكرية الضاربة. لكن هنتنغتون لم يَغفل عن العوائق التي تحْرِم باكستان من الاضطلاع بهذا الدور، وأهم هذه العوائق أن باكستان “تجاوزت الرقم القياسي في عدم الاستقرار السياسي” حسب تعبيره.

العالم النووي عبد القدير خان مهندس البرنامج النووي الباكستاني (الفرنسية)

وما من ريب في أن باكستان، بالتحدي الهندي الدائم المتربص بها، وبموقِعها في قلب “اللعبة الكبرى” الدولية في جنوب آسيا، بحاجة إلى قوة عسكرية ضاربة، تصونها وتحميها. وقد حققت باكستان اختراقا إستراتيجيا لا مثيل له في العالم الإسلامي كله، وهو تصنيعها سلاحا نوويا، بفضل العزائم الصلبة لقادتها السياسيين والعسكريين، وبفضل جهود علمائها، وعلى رأسهم “أبو القنبلة النووية الباكستانية”، المهندس العبقري عبد القدير خان (1936-2021م).

وقد عادت بي الذاكرة إلى الأيام الخوالي وأنا أكتب هذه الأسطر، فتذكرتُ احتفالَ جمعٍ من الفضلاء اليمنيين في صنعاء بأول تفجير نووي باكستاني صيف عام 1998، وكنت في صحبتهم يومها، فكتبتُ أبياتا رنانة ابتهاجا بذلك المكسب العزيز، لم أعُدْ أذكر منها سوى مطلعها، وهو:

جرِّد السيفَ فالعدُوُّ أَلَدُّ … واحتفِلْ للوغَى فلِلصَّبْرِ حَدُّ

وكنت دائما -وسأظل- فخورًا بقوة الردع العسكري الباكستاني، خصوصا مع حالة الاستباحة التي تعاني منها الشعوب الإسلامية في كل مكان، بسبب الضعف والوهَن أمام كل عدوٍّ طارق. وكيف لا وقد تعلمتُ من حكمة إقبال أن “الدين من غير قوة مجرَّد فلسفة”. على أن كل ذلك لا يسوِّغ الوصاية العسكرية على الفضاء السياسي. فالتدخل العسكري في الحياة السياسية تترتب عليه ثمار مريرة، منها الجدْب السياسي، والركود الاقتصادي، وهدْر الإمكان، واغتيال الحريات، وانشطار المجتمعات. وقد عانت باكستان من كل ذلك خلال عمرها السياسي الذي يتجاوز ثلاثة أرباع القرن.

ويمكن القول إن باكستان -شأنها شأن كل دول العالم الإسلامي- تواجه تحديات ثلاثة: هي الهوية والحرية والتنمية. أما صراع الهوية فهو محسوم في باكستان، بحكم ظروف نشأتها التكوينية التي جعلت الهوية الإسلامية مبرر وجودها، وعلامة تميزها عن المحيط الهندوسي، فلا يوجد تنازع سياسي جدِّيٌّ في هوية باكستان الإسلامية. بَيْدَ أن تحديِّ الحرية وتحدِّي التنمية لا يزالان معضلتين مزمنتين في باكستان. وبدون تجاوز هما بنجاح سيظل حلم إقبال بعيد المنال.

 

سطوة الجغرافيا السياسية

وبمنطق الجغرافيا السياسية، تواجه باكستان تحدِّياتٍ جسيمةً، تستلزم تعاونًا بين نخبها المدنية والعسكرية، وتعاليًا على الأنانية السياسية والحزازات الصغيرة التي تستنزف هذا البلد الكبير. ومن هذه التحديات الخلافُ الحدودي المزمن مع أفغانستان، وحالة الفوضى السياسية والغموض الإداري في المناطق القبَلية الرابطة بين البلدين. فليس من مصلحة باكستان ولا أفغانستان استمرار هذا الخلاف المزمن، بل تقتضي مصلحة البلدين تجاوزه بسرعة، وتحويل تلك المنطقة الحدودية الملتهبة إلى مساحة الْتِحام، ومصدرِ وئامٍ، بين الشعبين الشقيقين، اللذين تجمع بينهما أرحام الدين والتاريخ والجغرافيا.

خارطة كشمير- الصين - الهند

لقد كان إقبال يحمل تقديرا خاصا للشعب الأفغاني، وقد طفح شعره بالثناء على شجاعة الأفغان وشهامتهم، فهم الشعب الذي “تسري دماء الأُسُود في عروقه” حسب تعبيره. وأفغانستان هي الجار الشقيق والوطن الثاني من منظور إقبال. فمن الوفاء لرسالة إقبال أن تكون العلاقات بين باكستان وأفغانستان علاقاتٍ أخويةً واستراتيجيةً، خصوصا وأن باكستان وأفغانستان تقعان في قلب “اللعبة الكبرى” للسيطرة على آسيا والعالم. وقد أشرنا في صدر هذه الحكاية إلى أن الأسد الباكستاني المتحفِّز يحمل أفغانستان على ظهره، ويبدو أن هذه الصورة ليست مجرد تعبير مجازي.

فليس أمام باكستان إلا أن تَحْمل وتتحَمَّل الأوضاع الأليمة التي مرَّ بها الشعب الأفغاني منذ عام 1979، وتوثِّق علاقاتها الاستراتيجية بأفغانستان. فنهوض أفغانستان من كبوتها الطويلة، ودخول باكستان معها في حلف إستراتيجي -بالتعاون مع العملاق الصيني الصاعد- مفتاح لنجاح البلدين في التعاطي مع المعضلات الداخلية والمخاطر الخارجية، خصوصا مع ما يشهده النظام الدولي اليوم من انزياح القوة ورحيلها من الغرب الأطلسي إلى الشرق الأوراسي، تلك الظاهرة التي دعوناها “شروق الشرق وغروب الغرب” في دراسة خاصة بهذا العنوان.

أما التحدي الثاني أمام باكستان فهو -بمنطق الجغرافيا السياسية- أكبر وأخطر، وهو خلاف السيادة بينها وبين الهند على إقليم جامو وكشمير، الذي تدين الغالبية الساحقة من سكانه بدين الإسلام، وكان يُفترض أن يكون جزءا من دولة باكستان في لحظة ميلادها عام 1947، لولا أن حكومة الهند آنذاك، وحاكم الإقليم هاري سينغ (1895-1961) -وهو غير مسلم- قد أعاقا ذلك المسار المنطقي. فالخلاف على إقليم جامو وكشمير خلاف قديم ترجع جذوره إلى الحرب التي نشبت بين الدولتين بعد تأسيسهما مباشرة، وانتهت بتقاسم السيطرة عليه بينهما، ثم لحقت الصين بهذا الخلاف فضمَّت جزءا من الإقليم بعد هزيمتها للهند في الحرب الحدودية بينهما عام 1962.

aerial view to Indus river and valley, Karakoram, Pakistan

فالصراع على هذا الإقليم صراع ثلاثي، أطرافه دول نووية ثلاث، هي الهند وباكستان والصين، ويكفي ذلك دلالةً على أهميته وخطورته، حتى وإن كانت باكستان والصين متفقتان في منظورهما للموضوع، ضمن تفاهماتهما الاستراتيجية الكبرى في أكثر من قضية حيوية. ولا تزال باكستان تطالب بتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، الداعية إلى إجراء استفتاء شعبي في كشمير، لتقرير مصير الإقليم طبقا لإرادة أهله، بما يضمن حقوقهم الإنسانية والسياسية. وهو استفتاء يؤمن القادة الباكستانيون بأنه سيقود سكان الإقليم -ذوي الغالبية المسلمة- إلى اختيار الانضمام لجمهورية باكستان الإسلامية.

على أن موضوع جامو وكشمير يحمل لباكستان مخاطر استراتيجية جمَّة، تتجاوز قضايا الهوية والانتماء. فكشمير تقع على الخريطة في موقع لرأس من الأسد الباكستاني المتحفز، وسيطرة الهند على كامل الإقليم تعني تهشيم رأس ذلك الأسد، وفتح حدود مباشرة بين الهند وأفغانستان (ومن وراء أفغانستان دول آسيا الوسطى) وإغلاق الحدود المباشرة بين باكستان والصين، وهذا يعني تطويق باكستان جغرافيَّا، وخنْقها استراتيجيًّا، ويستحيل أن تقبل باكستان بذلك. كما يترتب عليها تسلُّق الهند عبر جبال الهيمالايا إلى إقليم التِّبت داخل الأراضي الصينية، ومن المستحيل أن تتسامح الصين أيضا مع ذلك.

والأهمّ من كل هذا بالنسبة لباكستان أن استمرار سيطرة الهند على القسم الأعظم من إقليم كشمير تعني استمرار تحكُّمها في مياه الأنهار التي تتغذَّى منها باكستان، وهي أنهار تتفرع من نهر السند، الذي ينبع من هضبة التبت في الصين، ويتدفق عبر الأراضي الهندية والباكستانية نحو 3000 كيلومتر، إلى أن يصبَّ في بحر العرب. ومعظم هذه الأنهار المتفرعة من نهر السند تمرُّ من إقليم جامو وكشمير. وقد بدأت حكومة مودي في الهند خلال الأعوام الأخيرة بناء السدود، وفرض القيود على تدفق مياه تلك الأنهار إلى باكستان، مخالفة بذلك اتفاقية تقاسم المياة الموقَعة بين البلدين منذ مطلع السيتينيات من القرن العشرين. وذلك خطر استراتيجي على دولة باكستان وشعبِها، يتفاقم يوما بعد يوم.

فالصراع بين الهند وباكستان على إقليم جامو وكشمير -من المنظور الباكستاني- ليس مجرد صراع على قطعة من الأرض، بل هو قضية موت وحياة للأمة الباكستانية كلها، بسبب ارتباطه بشريان الحياة الباكستاني، وهو نهر السند وفروعه التي تعبر ذلك الإقليم. ويمكن اعتبار تحكُّم الهند في مصادر المياه المتدفقة إلى باكستان شبيها بتحكم أثيوبيا بمصادر المياه المتدفقة إلى مصر، وتلك مقارنة يفهم القارئ العربي معناها ومغزاها.

ومهما يكن من أمر، فإن دولة باكستان الإسلامية التي دعا إليها ونظَّر لها الشاعر الفيلسوف محمد إقبال ليست من نمط الدول الضعيفة، الممزَّقة سياسيًّا، المنكشفة استراتيجيًّا. فلم يحلُم إقبال بمجرد مأوًى جغرافيٍّ لمسلمي القارة الهندية في شكل دولة من أي نوع، بل طمح إلى أن تكون تلك الدولة قوية مزدهرة، مستقلة القرار، مبنية على القيم السياسية الإسلامية من العدل والشورى والمحاسبة، ذات شعب متعلِّم، ومؤسسات ديمقراطية راسخة، وذات مكانة ريادية في العالم الإسلامي. ومن هذا المنظور يمكن القول إن حلم إقبال لم يتحقق بشكل كامل حتى الآن.

 

وداعٌ وأُمْنياتٌ أربع

بعد زيارتي التي لم تتجاوز أسبوعا واحدا، ودَّعتُ إقبالًا ولاهور بقلب مُثْقلٍ بالذكرى، مفعَمٍ بالحنين، وبنفسٍ مَطويَّة على فخر واعتزاز بما تحقَّق من حُلم الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، وحزنٍ وأسى على الإمكان المهدَر الذي لا يزال يمنع تحقيقه كاملًا.

وهنا أختم حكايتي -التي طالت- بأمنيات أربع:

  • أن تتحول العلاقة المدنية العسكرية في باكستان إلى علاقات سويَّة، بتوقُّف الجيش الباكستاني عن أي تدخل في السياسة، سرًّا أو علنًا، وانصرافه إلى مهمته الدستورية، وتحرُّر النخبة السياسية الباكستانية من الأنانية السياسية، لكي تُحسن احتواء الجيش، وتحييده سياسيا، دون اصطدام مباشر به، لكي يتمكن الأسد الباكستاني المتحفِّز من النهوض من عثراته المتكررة.
  • وأن تعي النخب السياسية والعسكرية الباكستانية حجم التحديات التي تواجهها باكستان، سواء منها المعضلات البنيوية المزمنة في الداخل، أو مخاطر الجغرافيا السياسية المحدقة من الخارج، وأهم هذه الأخيرة إدارة العلاقة مع الهند -الخصم التاريخي الدائم- بحكمة وقوة وحزم في ملف جامو وكشمير، واحتواء الشقيق الأفغاني ضمن منظور استراتيجي يخدم الطرفين.
  • وأن يدرك العرب قيمة الأسد الباكستاني على الضفة الشرقية لبحر العرب. فباكستان دولة فتيَّة قوية، ذات موقع إستراتيجي بالنسبة للعالم العربي، بحكم إطلالتها على بحر العرب، وقربها من مدخل الخليج، فضلا عن الأرحام الدينية والإنسانية والتاريخية التي تربطها بالعالم العربي. ومهما يكن لديها من معضلات بنيوية، لا تخلو الدول العربية من مثلها، فإن لديها إمكانا كامنا عظيما، وإنما القوة الإمكان.
  • وأن تتعاون المؤسسات الأكاديمية والثقافية العربية، من جامعات ومراكز أبحاث وهيئات ثقافية، مع “أكاديمية العلامة إقبال” في لاهور، وتستفيد من جهدها الرائع، خدمةً للقارئ العربي، وتوسيعًا لمعرفته بالشاعر الفيلسوف محمد إقبال، الذي طالما أسَرَ قلوب العرب بفكره النيِّر، وشِعْره العذب، وروحه المتوثِّبة.

فلم يكن إقبال أحْرصَ على شيءٍ منه على أن تلامس كلماته وجدان الناس، وتحرِّك شغاف قلوبهم، بعد رحيله عن الدنيا، وأن تهزَّ روحُه المتوثِّبة أجيال المسلمين في الزمن الآتي. لقد كان ذلك هَمَّه الأهمَّ الذي عبَّر عنه في “جناح جبريل” بهذه المناجاة:

خشوعي في عذاباتي .. ووَثْبِي في طموحاتي

وفكري وهْوَ بستانٌ .. ونفسي وهْـيَ مِرْآتي

وقلبي وهْوَ ميـــــــــــدانٌ .. تضجُّ به عراكــــــــاتي

ودَرْوشَتي التي تبدُو .. نصيبي من معاناتي

سألتكَ أن تُعتِّقَهــــا .. وتمْزُجَـها بآهَــــــــــاتي

وتَسقِيها لقافلــــــتي .. بموكبِ جيلنا الآتي

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *