وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الأجزاء العشرة التي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه “منطقة موت”.
بين يديك عزيزي القارئ الحلقة السادسة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.
الثلاثاء 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023
في حوالي الرابعة قبيل أذان الفجر، سمعت جارتي، التي تنام في المربع الذي بقربي، توبخ بصوت يكاد يكون مكتوما، ابنتها التي بالت على الفراش. هي ذاتها بالت أيضا قبل يومين وهي نائمة، ولكن في وضح النهار. يتكرر هذا المشهد عند كثير من الأطفال هنا. أفعال فطرية طبيعية للأطفال في ظروف طبيعية. فما بالكم في ظروف القصف الهمجي، التي جعلت الكبار قبل الصغار، يعانون اضطرابات نفسية عديدة.
مأساة الأمهات هنا، في صعوبة توفير الملابس البديلة، وفي الإحراج الناجم عن غسل الفراش المبلل، وكيفية نشره ليجف، وفي صعوبة الاستئثار بالحمام، في ظل حاجة الجميع له، ناهيك عن إمكانية وجود الماء أصلا. فغالبا لا يتوفر الماء إلا بعد عصر كل يوم، ويكون ملحا أجاجا لا يتجاوب معه أي نوع من المنظفات.
يغسل النازحون هنا ملابسهم بأيديهم، وباستعمال الصابون، الذي يشترونه من الباعة المتجولين. ينشرونه بداية في الحمامات لسويعات، حتى يتخلص من الماء الزائد فيه، ثم ينشرونه على شبابيك صالة الانتظار الكبيرة، التي تسمح بدخول الهواء المتجدد، وكذلك الشمس خاصة وقت الظهيرة.
ما بين الظهيرة والعصر يكون الوضع قاسيا على النازحين الذين يفترشون الصالة الكبيرة المواجهة للشباك الكبير، إذ تبسط الشمس أشعتها اللاهبة لـ3 ساعات تقريبا، ولا يجد النازحون ملاذا من سياط أشعتها اللاهبة، سوى بمواراة أنفسهم خلف الوسائد التي يضعونها بشكل عمودي على ظهورهم، وقلما تجدهم يزاحمون نازحين آخرين في الممرات البعيدة عن الشمس، لأن التكدس الكبير لا يسمح بذلك أصلا.
تأخرت العائلات اليوم في تناولها للطعام، والأطفال الجياع صاروا يبكون حتى الماء. آباؤهم ينتظرون منذ الفجر في طوابير الخبز تارة. وفي طوابير الحصول على الماء المفلتر تارة أخرى.
عاد الآباء بعد الظهر بالخبز، ولكن من دون الماء، تفاقمت أزمة الماء كثيرا لعدة أسباب، منها ندرة محطات التحلية بسبب انقطاع الكهرباء، مما لا يتيح تشغيل مولدات الفلترة فيها. أو تعرض المحطات للقصف المباشر. ومنها بسبب تدمير الاحتلال لعشرات المساجد التي كانت تتيح للناس الحصول المجاني على الماء المفلتر من الصنابير الخارجية.
صار النازحون يغامرون باجتياز مسافات بعيدة عن المستشفى للحصول على الماء. وآخرون يضطرون لشراء عبوات الماء بضعف ثمنها الأصلي وأكثر. يوجد بعض باعة الخضروات القلائل على مشارف بوابة المستشفى، أما الفواكه التي كانت توجد بوفرة قبل الحرب، فتلك رفاهية غير موجودة الآن على الإطلاق.
اليوم فقط تمكنت من تناول نصف حبة برتقال، وتمكن زوج أختي من شراء كيلوين من البرتقال. إنه موسم الحمضيات في غزة، ولكن من ذا الذي يجرؤ على قطف ثمار بستانه. وكم من البساتين وآلاف الدونمات الزراعية تم الآن تدميرها.
يعتمد النازحون بشكل أساسي على معلبات اللحمة والتونة والمرتديلا، وكذلك جبنة الفيتا، مع بعض حبات الطماطم والخيار إن توفرت. رأيت عائلات تطبخ العدس في طنجرة كبيرة، مما يُطلق العنان لرائحة العدس، كي تتسرب من بين الممرات، هذه الرائحة شبه دائمة في ظهيرة كل يوم.
أما في المساء فأغلب الأطفال وكثير من الكبار يتناولون الأندومي، الذي يطبخونه في مطبخ القسم الصغير، ثم يوزعونه فيما يتوفر من أكواب أو صحون بلاستيكية. كما أتاح الازدحام الكبير للنازحين، وعدم وجود فواصل بينهم، في تكوين علاقات تعارف وصداقة.
الأمهات مع الأمهات، وكل من الصبايا والأطفال مع أقرانهم، بات للجميع قصصهم الخاصة، وحلقات السهر، التي باتت تشكل في الوقت ذاته إزعاجا للنائمين، خاصة إذا تجمع الأطفال الذين يحلو لهم اللهو والحديث حتى ساعة متأخرة من الليل. كنت في بداية النزوح كثيرة الضجر من ضجيج الأصوات، ولكن ما ذنب الأطفال أن نجعلهم يعيشون الخوف وكتم أصواتهم، حتى بعدما استأصل الاحتلال بيوتهم أو قتل أفرادا من عائلاتهم.
هاجر طفلة في الـ11 من عمرها، كانت تعاني فوبيا صوت الصواريخ في بيتها، تقول أمها إنها كانت لا تفارقها، حتى لو اضطرت أمها إلى دخول الحمام لقضاء حاجتها. لم تعد هاجر اليوم تخشى أصوات الصواريخ وهي وسط النازحين، ولا تضع يديها على أذنيها لتلافي سماع أصواتها.
في المساء، عادت الأمهات يكنسن الأرض لبسط فرش صغارها. الكل يعرف حدود مساحته الخاصة، ولا يتجاوزها، إلا إن أرادوا الذهاب إلى الحمامات، فيمشون على أطراف أصابعهم، يبحثون بصعوبة عن أي مساحة فارغة من المد البشري، خشية الوقوع على أحد النائمين. الكل يريد النوم بهدوء. الكل يريد نهاية للحرب والنوم في بيوتهم، حتى وإن كانت ركاما.