أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية (5)

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 6 دقيقة للقراءة

وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء التي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه “منطقة موت”.

بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الخامسة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023

مذكرات رسامة نازحة قسريا إلى عنبر الولادة القيصرية أمية جحا كاتبة ورسامة كاريكاتير عاد القصف العميق والقريب على شكل أحزمةٍ ناريةٍ في الثامنة صباحا. اعتاد النازحون هذه الأصوات، مع طول أيام الحرب. ولكنها باتت أكثر شراسةً من ذي قبل، فالهجوم لم يقتصر على الجو فحسب، لا بل أصبح اليوم من البر والبحر أيضا.

ما يخيف النازحين هنا، هو جرأة الاحتلال على تعمد القصف العنيف قرب المستشفيات، من أجل ترهيبهم، والإذعان لتهديداتهم المتكررة، بضرورة إخلاء المستشفيات من النازحين، لا بل والمرضى والأطباء أيضا.

انضمت سارة اليوم مع أخيها الصغير إلى أقارب لها من النازحين. كان من المفترض في نهاية هذا العام الدراسي، أن تختتم دراسة طب الأسنان، ومن ثم تمارس مهنتها.

تضع سارة عصابةً حول رقبتها، ترفع بها يدها اليمنى، يبدو أنها تعرضت لحادث ما، بينما تضع دبلةً ذهبيةً في إصبع يدها اليسرى، مما يشي بكونها مخطوبة. جلست تقرأ القرآن بخشوع، وبصمتٍ عميقٍ، كانت لا تشارك أحدا أحاديثهم.

وقلّما تجد ابتسامةً ترتسم على شفتيها. تبيّن لي فيما بعد، أنّها تعرضت وعائلتها لقصف صاروخي، فاستشهدت أمها مع أخواتها الأربع، ولم يتبق إلا هي، التي أصيبت إصابة طفيفة بيدها اليمنى، وتبقى أخوها محمد ووالدهما سالمين. سارة ليست مخطوبة، فالدبلة التي في إصبعها، هي دبلة أمها الشهيدة.

سريرٌ متحركٌ مرّ سريعا بين النازحين، الذين أسرعوا بالانزواء بعيدا عن سيره، كان يحمل امرأة أجهضت للتو، بعد تعرض بيتها للقصف، وتعرضها للإصابة. كانت أمها تبكي بكاءً مرا، قالت إنّ ابنتها في شهرها الثامن، وهذا أول حملٍ لها بعد انتظار دام 7 سنوات. أما أم البراء، فهي سيدةٌ في أول العقد الرابع من عمرها، موظفةٌ في وزارة الأوقاف.

كانت من أوائل النازحين إلى المستشفى، بعد تهديد بيتها وبيوت بعض جيرانها بالقصف. آثرت أم البراء أن تجعل في مكوثها رسالة دعوةٍ إلى الله أيضا، فتقوم بإعطاء المحاضرات الدينية القصيرة، يتجمع حولها النازحون، ويستمعون لها باهتمام.

أم البراء تحمل حسا فكاهيا أيضا، قالت لي: “اليوم يبلغ زمن مكوثي هنا 21 يوما، لو كان تحتي بيضٌ، لكان حولي الآن صيصاني”.. (واستشهد زوج أم البراء لاحقا بعد شهرين من هذا اليوم).

من المواقف الطريفة في أجواء الحرب، أن تجد نازحين في إحدى المدارس، أو المستشفيات الأخرى، يقومون بزيارة أقارب لهم في أماكن نزوح أخرى قريبة. جاءت اليوم مجموعة من مدرسة صلاح الدين الإعدادية، لأقارب لهم في مستشفى الشفاء. إنهم يغامرون بسلامة أنفسهم، كي يخرجوا من السجن القسري الذي لا يطاق.

سئمتُ المكوث جالسةً على الأرض، بل توجعت من ذلك أشد الوجع، لم أجلس على كرسي منذ أسبوع. آثرت النزول إلى الساحة الخارجية للمستشفى. حتى درجات المصعد، كانت تعج بالنازحين، والأغطية والملابس معلقة على الدربزين. مما يجعل الرائحة لا تُطاق. لا بل حتى المصاعد الكهربية، التي تعطلت عن الحركة، بسبب قطع الاحتلال للكهرباء، تحولت بدورها إلى ملاجئ صغيرة.

النازحون في الساحة الخارجية يزدادون، وهامش القدرة على المشي والتنقل، بات أمرا في غاية الصعوبة. الطريف أن عدة حلاقين وجدوا رزقهم في هذا المكان. بضعف الأجر الذي كانوا يتقاضونه قبل الحرب. يقصون شعر الكبار والصغار من الذكور. يلجأ النازحون لذلك، خشية انتشار القمل والصئبان، في ظل ندرة الماء، وصعوبة توفر الحمامات.

قطةٌ رماديةٌ بفروٍ غزير، كانت بيد صبي، لفتت انتباهي. تذكرت بألم شديد قطتي المدللة “توتة”، التي بقيت في بيتي الذي تهدم. طلبت منه أن أحملها، فوافق. ربتُّ على شعرها الغزير، بكل الشوق والحنان الذي كنت أعطيه لقطتي، ثم أعدتها إليه، وقلت له: لا تفرِّط بها أبدا.

باعة الملابس في داخل المستشفى، يبيعون الملابس الشتوية. هم نازحون أيضا مع بضاعتهم. الجو لا يزال حارا نهارا، وحتى أول المساء، ولكنه يزداد برودةً ما بعد منتصف الليل، وحتى تباشير الصباح. نيران ودخان القصف والتدمير على مدار الساعة، وازدحام النازحين وتكدسهم، زاد الجو حرارة وتلوثا.

أوصتني إحدى السيدات، بشراء منديل لها إن وجدت مع الباعة. النساء في العنبر، يبقين طوال اليوم، ليلا ونهارا، وغطاء الرأس لا يفارق رؤوسهن، مما يزيد شعورهن بالحر والحنق، وقصر البال في تحمل الآخرين، بل وفي تحمل صغارهن.

عدتُ للعنبر وأنا أبتسم بمرارةٍ ساخرةٍ من عودتي إلى نفس المكان الذي بتُّ أمقته. اعتقدت النساء أنّي أحمل أخبارا سارّة. ألقيتُ الكيس الذي بيدي إلى السيدة، وقلت ساخرةً:” أنا لا أحمل إلا المنديل”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *