ألعاب سردية متعددة يلعبها ويستخدم الكاتب المغربي عيسى ناصري في روايته الأولى “الفسيفسائي” الصادرة عن دار ميسكلياني التونسية.
وعيسى ناصري (ولد في عام 1985) يعد ثاني أصغر المرشحين بعد المصري أحمد المرسي (1992) إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2024.
في رواية “الفسيفسائي” يظن القارئ أنه أمام رواية بوليسية بحتة، ولكنها سرعان ما تتجول في أماكن أخرى، تاريخية ومعاصرة، نفسية وفنية، اجتماعية وإجرامية، ولكنها تذهب لخدمة التخطيط الذي وضعه الكاتب منذ الصفحات الأولى من أجل تقديم حل للغز جريمة تبدو أنها كاملة استعصت على المحقق فيها لأكثر من عامين، إلى أن يتم حل ذلك اللغز بالصدفة وبطريقة سهلة من قبل مرتكب الجريمة نفسه.
الصدفة تكمن في أن المحقق “مراد” اقتنى رواية بوليسية، هو الشغوف بقراءة الروايات البوليسية العالمية في سلاسلها الشهيرة بعنوان “الفسيفسائي” للكاتب المغربي عاصم الشبيهي، ليجلس في أحد المقاهي وينهي قراءة 453 صفحة في 9 ساعات متواصلة، ليكتشف أن هذه الرواية تحكي عن جريمة هي الجريمة عينها التي ذهبت ضحيتها امرأة أميركية، وهي باحثة وكاتبة روائية، “جريمة قتل غامضة شعر في قرارة نفسه وهو يحقق فيها شهورا طويلة أنها حُبكت بدهاء كبير، وتمت من دون أن يترك له مرتكبها أي دليل ملموس، فكل ما كان هناك (في مسرح الجريمة) جثة وظلال واهية لعبور محتمل لقاتل داهية”.
روايات ضمن رواية
إذن، منذ البداية يعرف القارئ أنه أمام رواية بوليسية ستحل لغز مقتل امرأة أميركية في “زرهون” القريبة من موقع “وَليلي” الأثري، وبالتالي فإن كاتب هذه الرواية عاصم الشبيهي سيشرح للقراء وللمحقق في الوقت ذاته كيف قضى وقتا من سنوات عدة ليتخلص من الفشل الأدبي الذي لازمه سابقا، وكيف جمع 3 مخطوطات لكتابة هذه الرواية التي ستشرح كل شيء عن عالم هذه الجريمة الكاملة، والتي بقيت منيعة عن حلها لمدة سنتين.
وبعدها يبدأ القارئ بقراءة المخطوطات الثلاث، وهي “ليالي وليلي” للكاتبة الأميركية أريادنا نويل، وهي نفسها القتيلة، ومخطوطة “الفتى الموري” للكاتب المغربي جواد الأطلسي، وقد كتبها بتكليف من القاتل الذي يسطو عليها في ما بعد، ومخطوطة “باخوس في العيادة”، وهي مذكرات طبيبة نفسية عالجت القاتل نفسه، وحصل عليها الكاتب/ القاتل بالحيلة والخداع.
تختلف المخطوطات الثلاث التي استخدمها القاتل في كتابة روايته عن بعضها البعض من حيث طريقة السرد والزمن والشخصيات، وكذلك من حيث طريقة كتابتها، فمخطوطة “الفتى الموري” تتحدث عن زمن قديم جدا، وهي الفترة التي احتل فيها الرومان منطقة شمال أفريقيا، وهذه المخطوطة تقدم شخصية فتى موري، وهم شعب المنطقة الأصلي من الأمازيغ يدعى أيدمون، اشتغل في مهن عدة، قبل أن يصبح فنانا شهيرا في رسم وتخطيط وتجهيز الفسيفساء لبيوت الرومان أو الموريين الأغنياء.
هذه المخطوطة -التي يكتبها جواد الأطلسي بطلب من شخص غامض في أميركا- ولقاء مبلغ كبير من المال تذهب للحديث عن حياة ذلك الزمن وعن الحب والحرية والموت والصراع بين الرومان وشعب المنطقة وفن الفسيفساء العظيم.
وجواد معلم مدرسة يستأجر بيتا يكتشف فيه جزءا من فسيفساء هي عبارة عن ثلث اللوحة الكاملة، ومن الواضح أن هناك من سرق كل هذه الأجزاء التي تفرقت بين فرنسا وذلك البيت والموقع الأثري.
يستخدم عيسى ناصري تقنيات عدة في كتابة هذه المخطوطة، منها الحوار والأحلام والمونولوغ وكذلك القص الحكائي، وشرح كبير لفن الفسيفساء، وكل ذلك من خلال وصف شديد البطء خلال بنائه المكان وللشخصيات.
مذكرات
بينما المخطوطة الثانية -التي كتبتها الطبيبة النفسية- تتحدث عن زمن حديث في التسعينيات من القرن الماضي عن شخصيتين هما تهامي وعياش، ومن المستغرب عدم وجود مذكرات عن مرضى آخرين سوى هذين المريضين اللذين يفيدان الرواية الجامعة لهما، إذ يبدو الأمر تأليفا لهذه المخطوطة من أجل الاستفادة منها لاحقا من قبل أحد المريضين الذي يكون كاتبا فاشلا وقاتلا في ما بعد.
تكتب الطبيبة “نوال” يومياتها دون أن تعرف أنها ستقع في غرام المريض تهامي الذي سيستغلها للحصول على هذه المذكرات التي تخصها، والتي ستخص الرواية الجامعة في ما بعد، والتي سيكون عنوانها “الفسيفسائي”.
البوح والمونولوغ سيكونان عماد هذه المخطوطة التي تعتمد على بوح تهامي وعياش عن مشاكلهما النفسية المختلفة، وكذلك التحليل النفسي من الطبيبة ذاتها عن أحوال هذين المريضين اللذين تجري حياتهما بشكل مختلف، ويروي كل منهما قصة تختلف عن قصة ومآسي الآخر، فيما سيضيف القاتل فصلا في نهاية هذه المذكرات تشرح استيلاءه على هذه المذكرات ومحوها من الهاتف المحمول الخاص بالطبيبة.
المخطوطة الأخيرة “ليالي وليلي” ستبدو كذلك مثل كتابة سيرة، سيرة الكاتبة الأميركية التي رأت قطعة فسيفساء في متحف اللوفر الشهير، وستدلها صديقة لها على البيت الذي تملكه والذي يسكنه جواد الأطلسي كاتب المخطوطة الأولى، والذي يحتوي في أرضيته على قطعة فسيفساء مسروقة من الموقع الأثري المجاور.
تكتب الأميركية عن رحلة بحثها عن الفسيسفاء وعن جواد الذي يكتب بدوره رواية أخرى، ويصبح جواد شخصية حقيقية تكتب رواية عن زمن قديم جدا، وشخصية روائية داخل مخطوطة رواية أخرى تحركها الكاتبة في البيت والموقع الأثري وفي السرير والحوش، وتكتب ما يمليه عليها خلال لقاءاتهما وعلاقتهما.
لذلك، يشعر جواد أن هناك أحدا ما يراقبه ويحركه في حياته العادية، بل يشعر بأن هناك أنفاسا تحيط به كلما كان وحده في البيت، دون أن يعرف أن سبب ذلك هو أنه أصبح شخصية روائية في رواية ما.
ألاعيب
استخدم الكاتب الرئيسي/ القاتل المخطوطات الثلاث التي غيّر فيها وفي أسماء شخصياتها، وأضاف فصلا هنا وفصلا هناك حتى يمكن الربط بينها وتحويلها إلى رواية ناجحة عن تداخل الأرواح وانتقالها من زمن إلى زمن آخر، سواء الشخصيات الأنثوية أو الذكورية، خاصة ما يجمعها بقطعة الفسيفساء المسروقة من البيت الذي عمل عليه الفتى الموري إلى البيت الذي سكنه جواد الأطلسي، في رحلة زمنية تستغرق مئات الأعوام.
هذا الانتقال أو التناسخ الروحي بين الشخصيات ومصائرها وارتباط ذلك بقطعة الفسيفساء في زمنها الأصلي وزمنها الحديث هما لعبة سردية ذكية من صاحب المجموعة القصصية “مسخ ذوات الناب” (2016).
كما أن القارئ لا يعثر على الصلة بين المخطوطات الثلاث إلا بعد 130 صفحة من الرواية الأصلية التي تقع في 377 صفحة عندما يعرف جواد أن تهامي مدير المدرسة التي يعمل فيها معلما سكن البيت نفسه، وقد كان على علاقة مع صاحبة البيت الأميركية.
في النهاية نجد أن عيسى ناصري يستفيد من كثير من الأشياء والمعلومات التاريخية والفنية والنفسية والتحليلية والقانونية لبناء رواية من 4 طوابق، ولكن هذه الطوابق يتم بناؤها وفرشها بشكل أفقي، بانيا شخصيات مختلفة قديمة وحديثة، بريئة ومجرمة، شريرة وخيّرة، مفككا ماضيها الشخصي، ومستفيدا من حواراتها وآمالها حتى يسرد قصصا عدة مختلفة في قصة واحدة قد لا تجتمع عادة إلا لأن الكاتب أراد ذلك.
لذلك، تبدو رواية “الفسيفسائي” مثل رواية بوليسية من حيث مفتتحها بوجود جريمة قتل ثم البحث عن خلفيات الجريمة للوصول إلى القاتل وحل لغز الجريمة، ثم تتحول إلى ورشة لبناء أو تكوين رواية بوليسية.
وكما القطع الفسيفسائية الثلاث -التي تمت تجزئتها وسرقتها وصار كل منها في مكان- قام عيسى ناصري بتكوين 3 مخطوطات من أجل كتابة هذه الرواية وكأنه كتبها بشكل وفن فسيفسائي أيضا.
هذا المعمار الروائي لم يكن فقط من أجل حل لغز جريمة القتل، بل كذلك حول فن الفسيفساء نفسه وحالات النهب التي تمت في المواقع الأثرية المغربية وضياع الكثير من الآثار التي كانت تميز هذا المكان “لقد نهبوا من الموقع تماثيل رخامية للأباطرة وفرسان الروم، علاوة على تماثيل برونزية لبعض الآلهة كنبتون ومارس وجوبيتر وباخوس، سرقوا أيضا أواني فخارية ونقوشا ومخطوطات، (…) حتى ألواح الفسيفساء البديعة اقتلعوها وهرّبوها”، وكذلك إحياء التاريخ عن الشعب الأمازيغي واللغة الأمازيغية، وأنها قديمة جدا قدم إنسان تلك المناطق، وهو ما قد يكون غامضا بالنسبة لقراء كثيرين.
معارف كثيرة ومتع كثيرة يحصل عليها قارئ رواية “الفسيفسائي” وهو يتجول بين زمنين مختلفين ويقرأ قصصا متعددة لا تخص فقط جريمة القتل لشخصيات مختلفة نفسيا واجتماعيا، إضافة إلى المعارف الفنية والتاريخية والإنسانية، رواية مشوقة رغم الوصف الشديد والبطيء لا تدل على أنها العمل الروائي الأول للكاتب عيسى ناصري.