رام الله – في وقت تحذر فيه السلطة الفلسطينية من سرقة الاحتلال الإسرائيلي آثار قطاع غزة خلال عدوانه المستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن الواقع في الضفة لا يختلف كثيرا؛ إذ تحولت آثار الضفة إلى فريسة سهلة للاحتلال وأحيانا بأيدٍ فلسطينية.
وفي جلستها الأسبوع الماضي قررت الحكومة الفلسطينية تشكيل لجنة برئاسة وزارة الخارجية والمغتربين تضم وزارات السياحة والعدل والثقافة “لمتابعة سرقة سلطات الاحتلال لمقتنيات المتاحف والآثار خلال العدوان المتواصل على قطاع غزة ومتابعة الملف عالميا بالتواصل مع منظمة اليونسكو”.
والخميس، دمر جيش الاحتلال مبنى جامعة الإسراء في غزة، بما في ذلك المتحف الوطني المرخص من وزارة الآثار والذي أسسته الجامعة كأول متحف على مستوى الوطن، وكان يضم أكثر من 3 آلاف قطعة أثرية نادرة.
واتهمت الجامعة ووزارة السياحة والآثار الفلسطينية الجيش الإسرائيلي “بنهبها قبل نسف مبنى المتحف للتغطية على آثار جريمتهم”.
هذا في غزة، لكن ما يحدث في الضفة لا يقل أهمية، إذ يجري تدمير سياقات ومواقع أثرية إلى الأبد، فما الذي يجري؟
بحث وبيع
مع بدء العدوان على غزة تعطلت إلى حد كبير عجلة الاقتصاد في الضفة، وانضم عشرات آلاف الفلسطينيين إلى طابور البطالة الطويل أصلا، بينهم عشرات الآلاف ممن كانوا يعملون داخل إسرائيل.
انتشر العمال وغيرهم ممن انقطعت بهم السبل إلى المواقع الأثرية للبحث عن كنوز الأرض لبيعها وتوفير بعض المال لإعالة أسرهم.
الجزيرة نت واكبت عن قرب عمليات البحث في الضفة الغربية، وعاينت انتشار العشرات منهم، مستخدمين أدوات بسيطة وآلات لكشف المعادن.
العجوز الستيني “م.ح” انتظر أسابيع على أمل أن تنتهي الحرب ويعود إلى عمله في مجال الزراعة داخل الخط الأخضر الذي لجأ إليه بعد تقاعده من وظيفته الحكومية، كعمل مساند لدخله التقاعدي.
يقول أبو أيمن إن الحرب طالت، ودخل مع أبنائه الستة في ضيق شديد لانعدام المال، فقرروا البحث عن الآثار في مناطق سبق وجرى تنقيبها سابقا وتم بالفعل العثور على آثار لمختلف العصور.
يذكّر أبو أيمن بأجواء حرب الخليج أوائل تسعينيات القرن الماضي؛ حيث فرض الاحتلال إغلاقا على الضفة استمر عدة شهور، فهب الناس للبحث عن الآثار وبيعها لتوفير المال، مشيرا إلى أن أغلب البحث يتركز حاليا على إعادة “تتخيل” التراب المستخرج لأن أغلب الآثار تم استخراجها وبيعها سابقا.
إضافة إلى أبنائه، يقول إن لهم شركاء آخرين، يعملون ضمن فريقين أحدهما في النهار والآخر في الليل، وما يتم العثور عليه يقتسمه المتشاركون.
وتمكنت الجزيرة نت من تصوير مقتنيات متنوعة لدى بعض المواطنين والتجار تعود إلى عصور مختلفة مع تقديرات متباينة لأثمانها.
وتتباين تلك الآثار وقيمتها بين القطع النقدية المعدنية والأواني الفخارية والنحاسية، يعرف الباحثون والتجار العصر الذي تنتمي إليه، وفق علامات تعرفوا عليها بالخبرة.
تجار إسرائيليون
ووفق تاجر الآثار “أ”، رفض الكشف عن اسمه، فإن جميع المقتنيات التي يتم العثور عليها تباع إلى تجار عرب أو إسرائيليين داخل الخط الأخضر، وينتهي بها المطاف إلى متاحف إسرائيلية.
وعن تقييم سعر القطع والمعادن الأثرية، يقول إن المواطن يرسل صور القطع التي يعثر عليها إلى التاجر الذي يحولها بدوره إلى التاجر الإسرائيلي الذي يعرضها على عدة متاحف، ثم يحدد سعر شرائها.
وأضاف أن “التجار الوسطاء في بيع القطع الأثرية يبيعون القطع على الأغلب بضعف المبلغ الذي تم الشراء به”.
ويشير إلى أن أسعار القطع الأثرية قد تصل إلى مئات آلاف الدولارات حسب صنفها إن كانت ذهبا أم لا، والعصر الذي تعود له، وأقلها سعرا تلك التي تعود للعصور الإسلامية إلا إذا كانت ذهبا.
ويوضح أن الآثار التي يعثر عليها عادة تعود للعصور اليونانية والرومانية والإسلامية، لكن يحتل المرتبة الأولى في السعر “الشكَل” الإسرائيلي وأي فخار عليه كتابة عبرية.
ويزعم التاجر أن جميع فئات الشعب الفلسطيني بالضفة أصبحت تبحث عن الآثار بمن فيهم موظفون حكوميون، موضحا أن 2% فقط من الباحثين يعثرون بالفعل على آثار مهمة وذات قيمة.
وتقع أغلب عمليات البحث في المنطقة “ج” الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية والتي تشكل نحو 60% من الضفة، ولا تستطيع الشرطة الفلسطينية الوصول إليها.
وعلمت الجزيرة نت أن الجهات الحكومية أوكلت للبلديات مهمة متابعة البحث ومنعه، لكن البلديات تفتقد لسيطرة والقوة التنفيذية.
مخاطر كارثية
عن مخاطر ما يجري، يقول وكيل وزارة السياحة والآثار سابقا الدكتور حمدان طله للجزيرة نت إن ما يجري من بحث غير منظم عن الآثار أحد “الظواهر الكارثية” للإغلاق الإسرائيلي وحرمان الفلسطينيين من حرية الحركة، والتي تكررت في الماضي وخاصة أوائل التسعينيات.
وأضاف أن البعض يبحث عن الآثار في المواقع الأثرية لبيعها وتوفير لقمة العيش، لكن ذلك يتسبب في “تدمير السياقات الأثرية في الخِرَب والتلال الأثرية دون رجعة”.
وفضلا عن تدمير المواقع إلى الأبد، يقول طه إن “مصير الآثار التي يعثر عليها سيكون بيد حلقة وسيطة من التجار ومنتهاها السوق الإسرائيلية، في خسارة علمية محققة وتبديد للموارد الأثرية الفلسطينية”.
ومقابل غياب وجود وتأثير السلطة الفلسطينية في المنطقة “ج” حيث أغلب المواقع الأثرية، يقول الخبير الفلسطيني إن إسرائيل غير معنية بحماية هذه المواقع وتغض الطرف عن الباحثين عن الآثار فيها.
القانون يحاسب
وحسب مصادر وزارة الآثار الفلسطينية، فإن في الضفة الغربية أكثر من 7 آلاف موقع أثري مسجلة، وعشرات آلاف المعالم والمواقع التاريخية، لكن أغلبها يقع في مناطق “ج”.
ويفرض القانون الفلسطيني “عقوبة لا تقل عن 7 سنوات، ولا تزيد على 10 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 20 ألف دينار أردني (نحو 28 ألف دولار)، ولا تزيد على 50 ألف دينار أردني (نحو 70 ألف دولار)، أو ما يعادلها من العملة المتداولة قانونا، على كل من باع أو اشترى أو تداول أي مواد منتزعة من تراث ثابت، أو أجرى الحفريات أو النبش في مواقع التراث الثابت بحثا عن الدفائن الذهبية أو أي دفائن أخرى، ولو كانت في ملكه الخاص”.