مصرًّا على تقديم نفسه بدويا لعبت صروف الدهر بمصيره، فأوصلته، عرضا، إلى رئاسة البلاد، يحاول محمد إدريس ديبي إتنو رئيس الفترة الانتقالية لتشاد، ونجل رئيسها السابق، أن يشد القارئ إلى مذكرات شاب أكمل للتو 3 سنوات من خلافة والده في إدارة البلاد قبل أن يبلغ الأربعين.
كتاب، وإن بدا في أغلبه سردا لما انقضى من أيام الكاتب وتجاربه، فإنه في صميم الأمر جزء حملة انتخابية إعلامية أطلقها مرشح طامح لمواصلة حكم تشاد، في انتخابات مايو/أيار المقبل، عبر صناديق الاقتراع. وذاك أمر لا يبدو صعب المنال، في ظل ما يتداول إعلاميا من إقصاء المجلس الدستوري لأهم المرشحين من السباق إلى كرسي رئاسة البلاد.
الوالد رئيسا
يكلف عنوان الكتاب، “من بدوي إلى رئيس” (De bédouin à président)، محمد ديبي العودة إلى تلافيف ذاكرة ذلك الطفل الصغير الذي كانه قبل نحو 4 عقود. هكذا يستحضر كيف كان ينهض في الهزيع الأخير من الليل، مثل بقية أطفال ولاية بحر الغزال في الشمال، ليبدأ في سقي ورعي إبل جدته لأمه، بعيدا عن مقاعد الدراسة والتعليم. يلغي الكاتب والده من المشهد في بداية هذه المذكرات، قبل أن يفرض الأخير نفسه على مسار الأحداث، بعد إطاحته حليفه السابق حسين حبري، في هجوم على العاصمة نجامينا، سنة 1990.
يقدم محمد ديبي والده، بعد وصوله إلى الرئاسة واستدعائه إياه إثر ذلك إلى العاصمة نجامينا، منهمكا في إدارة البلاد، متابعا من كثب، ما أتاحت له الظروف ذلك، المسارات الدراسية لأبنائه، محتفيا بنجاحاتهم، وملبيا طموحاتهم في الالتحاق بما يريدون من معاهد وكليات. وولعا ببريق النياشين العسكرية، ربما، سار الولد على خطا الوالد، بادئا مساره العسكري سنة 2005 من الثانوية العسكرية التحضيرية لصيادي جبال الألب les chasseurs alpins في أكس إين بروفنس جنوبي فرنسا، قبل أن يئد ذلك المسار، مع اشتداد تهديد المتمردين لنظام والده، كما يقول. ومن مدرسة الضباط بنجامينا، يستأنف محمد ديبي مساره العسكري الذي سيضطر مرة أخرى إلى تعليقه، تحت وطأة هجمات المتمردين المتسللين من السودان، ليلتحق بالجبهات. هكذا تبدأ رحلة التماهي والارتباط بين مسار حياته الخاص ومصير بلاده وما تعج به من عنف وتمرد وثورات.
وخلف غبار المعارك الضارية في منطقة أدري، شرقي تشاد ضد المتمردين سنة 2007، ضرب القدر موعدا للولد مع الوالد، ليدشنا ما يريده الكاتب أن يكون علاقة جندي بقائده وعسكري بآخر، لا مكان فيها للشأن العائلي. ومكافأة له على أدائه الباهر في هذه المعارك والمواجهات، كما يقول، دشن الضابط الطالب رحلة الصعود الصاروخي في الجيش وحصد الرتب والنياشين، حتى قبل التخرج من مدرسة الضباط. مسار عسكري سيتكلل مطلع فبراير 2008، بخوض أكثر المعارك ضراوة في تاريخ التمرد العسكري بتشاد، إذ افتك محمد ديبي ووالده البلاد من تحالف متمرد أطبق سيطرته على العاصمة، وكان قاب قوسين من إحكام السيطرة على القصر الرئاسي. وتلك محطة أخرى استفاد منها محمد ديبي، ومن شاركه إياها من العسكريين، ترقيات ونياشين عسكرية إضافية، وانفرد هو بتعيين في الحرس الرئاسي وبتكوين عسكري في أوكرانيا. ترقيات متسارعة ومسار استثنائي مكن محمد ديبي من أن يصبح جنرالا سنة 2013، بعد نحو 7 سنوات من التحاقه بمدرسة الضباط.
وحين هدأت المعارك على جبهات تشاد، واستطاع جيشها، وفق ما يروى محمد ديبي، كسر شوكة المتمردين وتأكيد تفوقه، بعد إعادة تنظيمه واقتنائه للمصفحات، كانت مرتفعات إفوغاس شمالي مالي مسرحا لمغامرة عسكرية جديدة يزهو الكاتب بما كان لجيش بلاده فيها من نجاح في دحر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين. وستسير معظم المعارك التي خاضها محمد ديبي لاحقا، كما يروي، من جبال تبستي شمالا إلى ضفة بحيرة تشاد، على هذا المنوال.
وكان على هذا الضابط السامي الذي عمل في الحرس الرئاسي وتولى قيادة الإدارة العامة لأمن مؤسسات الدولة أن يخوض معارك لا تقل شراسة ضد دسائس الخصوم وشراك المنافسين. وبالكاد نجا من وشاية حيكت ضده بتدبير انقلاب على والده، اضطرته، تبرئةً لنفسه، إلى تقديم استقالته سنة 2020. خطوة آتت أكلها وصداها في قلب والده الذي أعاده إلى نفس المنصب، بعد تبيُّن زيف تلك الادعاءات، كما يسرد محمد ديبي. وفي المواجهة تبدو زوجة الأب هند، وأخوها الجنرال في الجيش التشادي أبرزَ الخصوم وأشرسهم على الإطلاق.
صفاء مفقود
ولن يهنأ محمد ديبي طويلا بما استعاد من صفاء وود مع والده، إذ سيسقط الوالد في 19 أبريل/نيسان 2021 صريعا خلال تصديه لهجوم كاسح شنه متمردو حركة الوفاق شمالي البلاد. سقوط سيتأخر الإعلان عنه، حتى تشكيل مجلس عسكري انتقالي، يقول محمد ديبي إنه تولى رئاسته تحت إلحاح قادة الجيش وذويه المقربين، وبعد رفض رئيس الجمعية الوطنية تولي الرئاسة الانتقالية كما ينص الدستور.، وبمباركة رئيس المجلس الدستوري. وبين مقتل الوالد والإعلان عنه، سيواجه محمد ديبي، كما يسرد، مناورة أخيرة من زوج والده التي نصحته بأن يعلن أن وفاة إدريس ديبي حدثت جراء محاولة انقلابية، ولم تكن على جبهات القتال.
يحاجُّ محمد ديبي على طول صفحات الكتاب بأنه لم يطمح في يوم من الأيام إلى رئاسة تشاد، وبأنه قدم أخاه “كريما” ليرث كرسي والده بدلا منه، لكنه لا يخفي سخطه، في الآن ذاته، على من وقفوا في وجه هذا الاستخلاف. هكذا يصب جام غضبه على رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، الذي يرى في موقفه المعارض لتوليه قيادة تشاد خيانة لعهد ورفقة جمعاه بوالده الذي يعود له الفضل في تولي فكي أسمى منصب في الاتحاد الأفريقي. ويفتح الكاتب نافذة على الصراعات والمنزلقات التي مرت بها الفترة الانتقالية، وعلى ما تعرض له من ضغوط من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الكونغولي، الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي فيليكس تشيسيكيدي ليثنياه عن الترشح للانتخابات الرئاسية.
وتطفو على السطح بين الفينة والأخرى ملامح من الصراع العرقي في تشاد، إذ يبرر إقالة وزير خارجيته محمد شريف زين بعدم توازن الأخير في التعيينات الدبلوماسية، متهما إياه بمحاباة أبناء قوميته من التبو. كما تتجلى أيضا العلاقة المضطربة لمحمد ديبي مع بعض أركان حكمه ومع دول الجوار في اتهامه لمستشاره وزير الدولة السابق في حكومته، أبكر مناني، بالسعي لدى قائد ميليشيا الدعم السريع حميدتي لتدبير انقلاب عسكري ضده، وبفبركة الوزير السابق لما كشفته صحيفة ميديا بارت من إنفاق محمد ديبي مليون أورو لشراء بذلات في باريس.
ووفاءً للمأزق المتأتي عن عنونة هذا الكتاب، وشحذا لمعالم ضفتي المفارقة في العنوان، ما ينفك محمد ديبي يستنجد بأيام البساطة والطفولة ورعي الأنعام في ولاية بحر الغزال، ليطفئ بها وهج السلطة والنفوذ، ويخفف من حدة الاختلاف مع الغالبية العظمى من أطفال تشاد، وهو يسرد انتقاله من مدرسة مونتاني الفرنسية بنجامينا إلى إعدادية في باريس وأخرى في شاتيون سير مارن شمال شرق فرنسا، قبل أن يعود لتشاد ليكمل فيها الثانوية، وينطلق في مسار حصده الصاروخي للرتب العسكرية والوظائف في الجيش.
ولا تغيب عن سيرة الكاتب منعطفات درامية، مثل الشجار مع أستاذه في الثانوية بنجامينا، ولاحقا مع زوج عمه التي اتهمته بدفع زوجها إلى إدمان الخمرة، ليقرر هو الإقلاع عن السكر بشكل نهائي إثر ذلك. وذاك تراجع عن ممارسات المراهقة والشباب يسلط عليه محمد ديبي الضوء في أكثر من مناسبة، ليؤكد ما لحق بحياته من تحولات وما عرفت من منعطفات. تحولات رفدها بتوطيد علاقته مع القرآن التي دشنها على الجبهات، لتعمق من وعيه وممارساته الدينية، كما يقول.