في مارس/آذار الماضي، وفي حواره مع الجزيرة نت، شدد عالم النفس والمفكر اللبناني الدكتور مصطفى حجازي -في سياق حديثه عن طوفان الأقصى- على أن علماء الاجتماع العرب وسواهم لا يدرسون الشعب الفلسطيني من الداخل وصولا إلى اكتشاف قواه الحية الكامنة، مضيفا أن هؤلاء العلماء “يلامسون سطح الواقع الفلسطيني وينخرطون هم والمثقفون في دراسة الفكر الغربي وقضاياه وأطروحاته وكأنها اليقين العلمي الكوني، مع أن هذا الفكر قد تم تطويره لفهم واقع الإنسان الغربي”.
وبعد أشهر من ذلك، وتحديدا مساء الأحد 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024، رحل حجازي عن عالمنا عن عمر يناهز 88 عاما بعد مسار حافل كرّس فيه أبحاثه لبحث ودراسة القضايا الكبرى في المجتمعات العربية، على غرار قضايا الاستبداد والقهر والهدر والبطالة، من خلال مشروع فكري وظف فيه علم النفس في خدمة قضايا التنمية الإنسانية، انطلاقا من خصائص وديناميات الإنسان العربي.
المولد والمسار الأكاديمي
رأى الراحل مصطفى حجازي النور في مدينة صيدا عام 1936، وتدرّج في دراسته إلى أن نال إجازة جامعية في علم النفس من جامعة عين شمس المصرية عام 1960، ثم سافر إلى بريطانيا، حيث اطلع على مؤسسات رعاية الطفولة والناشئة.
وفي سنة 1965 حصل حجازي على دبلوم علم الجريمة العيادي من جامعة ليون الفرنسية، ثمّ على الدكتوراه سنة 1967 في علم النفس من الجامعة ذاتها. وبعد سنة من ذلك اعتُمد خبيرا نفسانيا في محاكم ومراكز رعاية الأحداث في لبنان، وهو النشاط الذي مارسه إلى غاية نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وقاده إلى التنقل بين مؤسسات لبنانية وعربية معنيّة بتدريب العاملين برعاية الطفولة في سوريا والبحرين والكويت والعراق وقطر، كما شغل حتى رحيله منصب الرئاسة الفخرية للمركز اللبناني للعلوم النفسية والاجتماعية- نفسانيون.
أما على المستوى الأكاديمي، فقد عمل حجازي أستاذا لعلم النفس بالجامعة اللبنانية منذ 1983، ثم أستاذا للصحة الذهنية في جامعة البحرين بين عامي 1990 و2006، ليُعين بعدها أستاذا زائزا في كلية الطب بجامعة الخليج العربي، قبل تفرغه للبحث والكتابة بداية من عام 2008.
وأثرى حجازي مكتبة علم النفس العربية بعدة مؤلفات، من بينها “ثقافة الطفل العربي بين التغريب والأصالة” (1993)، “المسؤولية المدنية للخبير القضائي: دراسة مقارنة بين القانون الفرنسي والمصري والكويتي في ضوء آراء الفقه وأحداث أحكام القضاء” (1998)، “علم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية” (2001)، “الشباب الخليجي والمستقبل: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” (2008)، “علم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية” (2010)، “إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي” (2011)، “العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان” (2019)، “اللقاء: كيف يكشفنا لأنفسنا ويفتحنا على العالم” (2021).
كما أنه ترجم كتابَي “الكلام أو الموت” لمصطفى صفوان، و”معجم مصطلحات التحليل النفسي” للكاتبين جان لابلانش وج .ب. بونتاليس إلى اللغة العربية.
وقد عبّر مصطفى حجازي في أبحاثه عن الهموم الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات العربية، حيث درس وحلل سيكولوجية القهر والهدر في الوطن العربي في كتابَيه “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” (1981)، و”الإنسان المهدور” (2006)، وهما من أشهر مؤلفاته.
علم النفس في خدمة التنمية
كرّس مصطفى حجازي أبحاثه لبحث ودراسة القضايا الكبرى في المجتمعات العربية على غرار قضايا الاستبداد والقهر والهدر والبطالة والفقر، فملأ بذلك فراغا هائلا على المستوى العربي، وأحدث قفزة نوعية في مجال علم التحليل النفساني الاجتماعي، من خلال مشروع فكري وظف فيه علم النفس في خدمة قضايا التنمية الإنسانية.
“من أسباب تجنب علماء النفس العرب بحث القضايا الكبرى والشائكة في مجتمعاتهم -حسب حجازي- تعاظم نظام المحظورات، وهو النظام الذي يحرّم أي مقاربة تحاول الكشف عن أمراضنا الاجتماعية بسبب حاجته لإيثار السلامة “في عالم لا حصانة فيه لمن يقدم معلومات كاشفة عنه”.
إذ كان قد انتبه إلى أن علم النفس الغربي قطع أشواطا مهمة وحقق اكتشافات بالغة الأثر على مستوى فهم تكوين الإنسان الغربي ودراسة قواه ودوافعه ودينامية سلوكه وتوجهاته، بينما اكتفى نظيره العربي -في أغلب الحالات- باستيراد هذه المعطيات وتطبيقها على المجتمع العربي، مؤكدا أن علم النفس في الوطن العربي لا يزال مقصرا في تناول هذه القضايا وظل رهين التبعية لعلم النفس الغربي الذي نشأ وتطور لخدمة احتياجات المجتمع الصناعي في الغرب، مهملا بذلك خصائص وديناميات الإنسان العربي.
ومن أسباب تجنب علماء النفس العرب بحث القضايا الكبرى والشائكة في مجتمعاتهم -حسب حجازي- تعاظم نظام المحظورات، وهو النظام الذي يحرّم أي مقاربة تحاول الكشف عن أمراضنا الاجتماعية بسبب حاجته لإيثار السلامة “في عالم لا حصانة فيه لمن يقدم معلومات كاشفة عنه”.
تفكيك التخلف الاجتماعي
لقي كتاب “التخلف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” منذ صدوره سنة 1981 إشادة كبيرة، وظل منذ ذلك الحين محافظا على راهنيته، فتوالت طبعاته إلى الآن بمعدل طبعة واحدة كل سنتين.
وقد حاول مصطفى حجازي في هذا الكتاب، من خلال منهجية تقوم على الملاحظة والتحليل النفسي والاجتماعي للظواهر المعيشة، دراسة التكوين النفسي والتكوين الذهني للإنسان المتخلف، والأساليب التي يواجه بها مأزقه الوجودي، مستعرضا أبرز ملامح بنية التخلف الاجتماعي وما تولده من سيكولوجية خاصة عند الإنسان المقهور. فحسب الكاتب، يتلخص وجود الإنسان المتخلف في وضعية مأزقية جراء القهر المفروض عليه، ويحاول مجابهتها في سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه ليحفظ لنفسه بعض التوازن النفسي الذي لا يمكنه العيش بدونه.
كما رصد مصطفى حجازي الأساليب الدفاعية التي يواجه بها الإنسان المقهور ما يتعرض له من قهر. ومن بين أبرز هذه الأساليب انكفاؤه على الذات من خلال التمسك بالتقاليد والرجوع إلى الماضي المجيد وتماهيه مع المتسلط، بالإضافة إلى السيطرة الخرافية على مصيره (الأولياء، الجن، العفاريت السحر، الحسد، تأويل الأحلام، قراءة الطالع…) ثم اللجوء إلى العنف، وهو ما تناوله حجازي بالشرح والتحليل، مبينا مظاهره وأشكاله، وذلك باعتباره أسلوبا يسجل حضوره بقوة في المجتمعات المقهورة، دون أن يغفل وضعية المرأة في هذه المجتمعات وأوجه وملامح القهر المفروض عليها، والوسائل التي تواجه بها هذا القهر.
ويؤكد حجازي أن هذه الخصائص النفسية التي تميز شخصية الإنسان المتخلف وأساليبه الدفاعية “تشكل في الكثير من الحالات عقبات جدية في وجه التغيير الاجتماعي، وتكون كوابح هامة لمشاريع التنمية”، مشددا على أهمية اكتشاف هذه الخصائص والوعي بها كشرط أساسي إذا أردنا لمشاريع التغيير والتطوير في مجتمعنا العربي أن تنطلق من أسس صلبة، وأن تؤتي المخططات التنموية التي نرسمها بعض أكلها.
في دراسة الإنسان المقهور، ركز حجازي على الخصائص النفسية للقهر، وعلى الآليات الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان المقهور لمجابهة مأزق الوجود غير القابل للاحتمال. وانصب البحث أساسا على الخصائص النفسية للإنسان المقهور ودفاعاته، بدون الخوض في قوى التسلط التي تفرض هذا القهر
هدر الإنسان
في دراسة الإنسان المقهور، ركز حجازي على الخصائص النفسية للقهر، وعلى الآليات الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان المقهور لمجابهة مأزق الوجود غير القابل للاحتمال. وانصب البحث أساسا على الخصائص النفسية للإنسان المقهور ودفاعاته، بدون الخوض في قوى التسلط التي تفرض هذا القهر.
وفي كتابه “الإنسان المهدور”، عمل حجازي على استكمال الصورة “من خلال البحث في ألوان الهدر ووكالاته والقوى التي تفرضه لحساب مصالحها ونفوذها وسلطانها”. كما تطرق -من خلال دراسة تحليلية نفسية واجتماعية- إلى “الاستبداد وما يتوسله من آليات وتلاعبات الفرض والإخضاع والتخويف، وصولا إلى خلق حالة الإعجاب بالمستبد والتعلق الانفعالي به، بل والذوبان في كيانه”.
ويتجلى هدر الإنسان العربي من قبل ثالوث الحصار والقمقمة (الاستبداد، العصبيات، الأصوليات) -حسب حجازي- “من خلال التعامل معه ليس باعتباره إنسانا له كيان وقيمة، وإنما باعتباره أداة، أو عقبة ومصدرَ تهديد، أو عبئا وحملا زائدا”.
ويؤكد صاحب حصار الثقافة في هذه الدراسة أن الهدر يتفاوت “بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى، وبين استبعاده وإهماله والاستغناء عن فكره وطاقاته باعتباره عبئا، أو كيانا فائضا عن الحاجة” كما هو الشأن -مثلا- في تعامل الأنظمة التي تستأثر بخيرات الوطن، وترى في جحافل الجماهير المغبونة والمحرومة عبئا على رفاه المَحظيين.
“الناس أداة المستبد يزج بهم في الحروب، أو يستخدمهم للترويج لعظمته وعلو شأنه، في مختلف عمليات التبجيل والتطبيل والتزمير والإشادة بقدراته الخارقة، أو أعطياته ومكرماته”
ويضيف حجازي أن الهدر قد يتخذ طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض الاستبداد يضحَّى به في حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذي اشتعالها، أو هو الأداة التي تُبجّل وتُطبل لسلطان المستبد وتخدم أغراض همينته وتوسع سطوة نفوذه. فالناس -على حد قوله- “أداة المستبد يزج بهم في الحروب، أو يستخدمهم للترويج لعظمته وعلو شأنه، في مختلف عمليات التبجيل والتطبيل والتزمير والإشادة بقدراته الخارقة، أو أعطياته ومكرماته”، بينما قد يتخذ الهدر أحيانا طابعا ذاتيا كما يشاهد في الحالات المرضية التي ينخرط فيها المريض في عملية تدمير ذاتي.