بعد عرض الموسم الرابع من مسلسل “محقق فذ” (True Detective)، ينبغي العودة 10 سنوات للخلف لفهم الإرث الذي يحاول هذا الموسم منافسته.
بدأ عرض الموسم الأول من المسلسل عام 2014 من بطولة ماثيو ماكونهي و”وودي هارلسون”، ورشح وفاز بعدد كبير من الجوائز، منها برايم تايم إيمي وغولدن غلوب، وشاهده ملايين المشاهدين الذين تحولوا خلال العقد الماضي إلى قاعدة شعبية صلبة لا تقبل أي مقارنة بمسلسلها المحبوب، وتُمثل الناقد الأصعب لكل المواسم التالية.
حاول صناع المسلسل مضاهاة نجاح الموسم الأول في الموسمين الثاني والثالث، وذلك بفريقي عمل جديدين وقصة مختلفة، ولكنْ أي منهما لم يستطع الوصول إلى المستوى الفذ الذي يميز الموسم الأول، في حين حقق الموسم الرابع المعادلة الصعبة، على الرغم من كونه الموسم الأول الذي لم يشارك فيه الكاتب نيك بيزولاتو أيقونة نجاح المسلسل.
أخرجت وألفت الموسم الرابع من “محقق فذ” المكسيكية الأميركية إيسا لوبيز، وهو من بطولة الحائزة على الأوسكار جودي فوستر، في أول عودة لها للتلفزيون منذ منتصف السبعينيات، بالإضافة إلى كالي رايس.
مرآة تعيد نجاح الموسم الأول
تدور أحداث الموسم الأول من “محقق فذ” في الجنوب الأميركي خلال فصل الصيف، مما يؤسس عدة سمات لهذا الموسم، منها درجات الحرارة العالية التي تؤثر بشكل واضح على أبطاله، وطبيعة المجتمع الجنوبي المنغلق على نفسه فلم يصل لبعض أجزائه سمات الحداثة، بالإضافة إلى مساحات ولايات الجنوب الشاسعة التي تجعل من الصعب خضوعها لرقابة الدولة بشكل كامل.
يقدم الموسم الرابع من المسلسل الصورة المعاكسة لهذه البيئة الدرامية، فتدور أحداثه في “ألاسكا” ويبدأ في اليوم الأول من الليل الممتد في هذه البقعة الشمالية من الأرض، حيث البرد القارس والظلام المستمر لأيام، ويتشابه الموسمان في المجتمع المنغلق الذي تدور فيه الأحداث، فلدينا الآن قرية “إنيس” -وهي قرية خيالية- سكانها خليط من أبناء العرق الأبيض والسكان الأصليين للمنطقة أحفاد الإنسان الأول الذي عمر هذا الجزء النائي من العالم.
يبدأ المسلسل في مختبر على حدود القرية، سكانه مجموعة من العلماء الرجال، وبعد غروب الشمس الأخير في العام تنقطع الكهرباء عن المختبر بشكل مفاجئ، وخلال الساعات التالية يتم إبلاغ الشرطة باختفاء العلماء جميعهم، ثم العثور على جثثهم ما عدا أحدهم فقط، وهم بلا ملابس ومتجمدون وقد لاقوا حتفهم بهذه الصورة المرعبة، ودون أي دلائل على أسباب خروجهم أو خلعهم ملابسهم ومما كانوا يهربون.
تصدر مشهد البحث عن الفاعل اثنان من المحققين في الموسم الأول، هما “راست” و”كولي”، وبالمثل لكن مع عكس “الجندر” (نوع المحققين)، تقوم رئيسة الشرطة “دانفرز” وشرطية المرور ومعاونتها السابقة “نافارو” بالتحقيق في هذه الجريمة المحتملة.
تضاد يقوي المعنى
لا تتمثل الصلة بين الموسمين الأول والرابع فقط في هذا التضاد في البيئة الدرامية وجنس المحققين، ولكن هناك صلات أخرى ممتدة، على رأسها طبيعة الشخصيتين الرئيسيتين، ففي كلا الموسمين لدينا شخصية معادية للمجتمع، تحارب أوهامها الشخصية خلال بحثها عن القاتل.
في الموسم الأول، نجد “راست” المحقق الذي فقد أسرته، ومدمن المخدرات السابق الذي يرى أشياء لا يشاركه في رؤيتها أحد آخر، ولا يدري المشاهد هل تلك الرؤى نتيجة لروحانيته العالية أم لخلايا مخه المدمرة من المخدرات.
في حين نقابل في الموسم الرابع “نافارو”، وهي واحدة من السكان الأصليين فقدت والدتها المريضة النفسية منذ سنوات، وأختها تعاني من الأعراض ذاتها، تسمع البطلة طوال الوقت صوتا غامضا يناديها للثلوج المحيطة بالبلدة، نداء يعني موتها إن اتبعته، ويلمح المسلسل طوال الوقت إلى قدرتها على استقبال رسائل من الموتى، ولا يعلم المتفرج مرة أخرى هل تلك النداءات حقيقية أم نتيجة لمرض نفسي ورثته من والدتها؟
لا تعني هذه الصلة أن الموسم الرابع يستغل نجاح الموسم الأول ويعيد استخدام سماته التي أهلته للنجاح، قدر ما تعني فهم المخرجة والمؤلفة لهذا الموسم وإعجابها به لتستخدمه كإلهام لمسلسلها الخاص، الذي يقدم قصة مختلفة تمامًا لها مذاقها شديد الطزاجة والذي يجعل هذه التشابهات والتضاد مزية إضافية للحبكة ولكن ليس الأساس.
جريمة فذة
يقدم الموسم الرابع من “محقق فذ” أكثر من حبكة فرعية يكتشف المشاهد ضرورتها قرب النهاية، أهمها تلوث مياه “إينيس” بسبب المنجم الذي تتحكم فيه شركة رأسمالية، ويتسبب هذا التلوث في قتل حديثي الولادة بشكل مستمر، مما يستدعي قيام الاحتجاجات والمظاهرات من السكان الأصليين ضد المنجم والشركة من خلفه، والمطالبة بإغلاقه واستعادة الحالة الأصلية للمنطقة.
تتصل بهذه الحبكة الفرعية قصة “آني”، القابلة والناشطة ضد المنجم التي قُتلت بصورة غامضة منذ سنوات، واهتمت “نافارو” بشكل خاص بالتحقيق في مقتلها، لكن لم تجد أي أدلة تعزز شكوكها في عمال المنجم. بالإضافة إلى علاقات البنوة والأبوة والأمومة المضطربة التي تربط الشخصيات ببعضها بعضا، مثل علاقة “دانفرز” بابنة زوجها السابق التي تربيها كابنتها وتنتمي للسكان الأصليين فتحاول حمايتها من مصير “آني”، وعلاقة “نافارو” بوالدتها الميتة التي لم تخبرها قبل موتها باسمها العائد إلى ثقافة السكان الأصليين، الأمر الذي يحرمها من إرثها الثقافي، بالإضافة إلى علاقة الشرطي المستجد “برايور” بوالده “هانك” الشرطي الفاسد والأب المسيء.
تربط هذه الحبكات الفرعية ثنائية الواقعي والخيالي، وتفرض تحليلين لكل موقف، على سبيل المثال يؤمن البعض بأن شبح “آني” عاد من الموت وانتقم لمقتلها ممن ساهموا فيه، ومنهم رجال مختبر “تسالالا” المنتفعون من تلوث المنطقة، في حين يؤمن آخرون بوجود قاتل حقيقي بينهم قام بالجريمة.
يطرح الموسم الرابع في حلقته الأخيرة الاحتمالين على الطاولة، مع أدلة وبراهين على كل منهما، ويترك للمتفرج حرية الاختيار بين قراءة واقعية وأخرى أكثر روحانية قد تناسب البعض، والأهم أنه أعاد المسلسل لمساره الصحيح.