كان 2023 عاما صعبا على المثقفين العرب بشكل عام، والصحفيين بوجه خاص.
المثقفون عاشوا حالة من العجز وعدم التوازن على أثر معركة الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة لأكثر من 3 شهور، في حرب راح ضحيتها أكثر من 23 ألفا ما بين شهيد ومفقود، وكان الصحفيون أكثر الفئات التي اكتوت بنار الإبادة والقتل، واستشهاد مالايقل عن 100 صحفي كان سلاحهم الوحيد كاميرا وقلم.
وقبل كل هذا لم تتوقف الحياة الثقافية، وتسارع ايقاعها أيضا مع الأحداث، وشهدت الأنشطة كثافة ملحوظة، وإن لم يكن على مستويات إبداعية عالية. ويرصد هذا التقرير جوانب من الحياة الثقافية في العام المنصرم 2023.
يقول الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، كانت سنة صعبة، عشناها مثل كابوس، اكتوينا فيها بنارين، نار الأسعار والغلاء، ونار الحرب، وإن تحملنا لهيب الأسعار، فمن المستحيل أن نتحمل القهر والذل والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون كل لحظة.
ويتساءل “كيف تصمد الثقافة في مواجهة آلة القتل؟، ويقول “في هذا المناخ، أنام كل ليلة، وأخشى أن أصحو على كارثة، وعندما قامت الحرب، كان كل همي كل صباح، أن أفتح الكمبيوتر لأطمئن على أصدقائي في قطاع غزة، هل ما زالوا على قيد الحياة، أم أنهم ذهبوا في عداد الشهداء”.
ويضيف عبدالمجيد “في وقت الحرب -ودعني ألا أسميها حربا فالحرب مشروعة عقائديا ودوليا، حتى ولو كانت حربا ظالمة، أما مايدور في قطاع غزة، فهو الإبادة وهو القتل، ومنذ بدايتها، وأنا لا يستقر لي حال، فلا كتابة أخطط لها، ولا قراءة أكملها، ولا صحو كامل، ولا نوم بلا قلق، ومنظر القتل والجثث على الشاشات في مشهد لم يتكرر على مدى التاريخ، والعالم كله شاهد عيان”.
صوت الضمير
ولكن ما يعيد للنفس بعضا من هدوئها، يستدرك الروائي المصري، “أتابع صوت الضمير العالمي من خلال رفض آلاف المثقفين للقتل والإجرام الصهيوني، هناك آلاف المظاهرات، وهناك أيضا من يكتب ليدافع عن الحق، ومن يرسم ويشجب أعمال الإبادة، ومن يعلو صوته بالغناء والإدانة رفضا لأعمال الإبادة”.
ويضيف عبد المجيد “إذا ما كان هناك مجال لنتذكر كيف مر علينا هذا العام الطويل، لقد قرأت الكثير من الروايات الجميلة في العالم العربي ومصر. أما الكتب الفكرية فهي كثيرة ورائعة وأتابعها في مصر ومنها ” المتن المجهول” سيد محمود، و”الطاهي يكتب والكاتب ينتحر” لعزت القمحاوي و”أنا قادم أيها الضوء” للمرحوم محمد أبو الغيط، و”الديكتاتورية الجديدة” أنور الهواري و”سيرة الضمير المصري” إيهاب الملاح، و”مذكرات يهودي مصري” ألبير أريه، و”الفيلق المصري” للدكتور محمد أبو الغار و”أنت السبب يابا” لنوارة نجم، و”كل دا كان ليه” لفيروز كراوية، و”300 ألف عام من الخوف” لجمال أبو الحسن، و”سينما المشاعر المنتهية الصلاحية” لمحمود الغيطاني، و”أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” لكريم جمال، و”رجال عاشوا ألف عام” لجلال الشايب وغيرها.. أما أهم حدث ثقافي فلا يوجد في مصر للأسف حتي مهرجان الرواية تم تأجيله ولم يتم”.
وتتابعت معارض الكتاب العربية بداية من معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير/ كانون الثاني الماضي الذي حضره 3 مليون و600 ألف زائر، وتتابعت معارض الكتاب الدولية العربية، في الدوحة، أربيل، تونس، الرباط، أبوظبي، فلسطين، عمان، الرياض، الخرطوم، الجزائر، الشارقة.
وتوالت الإصدارات من دور النشر، رغم الشكوى المتصاعدة للناشرين، بسبب ارتفاع أسعار الورق والطباعة والنقل وتقلص القوى الشرائية للقراء نتيجة ارتفاع أسعار الكتب بوجه عام.
“العرب لايقرؤون” مقولة ظالمة
يقول محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب إن صناعة النشر في الوطن العربي تواجه تحديات كثيرة، منها توغل الشركات الدولية في المنطقة العربية للاستحواذ على نسبة من صناعة النشر العربية، ولهذا نحن في حاجة إلى المزيد من الترابط والعمل الجماعي العربي من أجل مواجهة الواقع الجديد.
وحول مقولة أن العربي لا يقرأ، يقول رئيس اتحاد الناشرين العرب، هذه المقولة تدحضها الأرقام في الفضاء الرقمي، ولكن لم ينعكس هذا على مبيعات الكتاب الورقي إلا بنسبة ليست كبيرة، عكس ما يجري في العالم كله، حيث إن الكتب الرقمية أسهمت في زيادة مبيعات الكتب الورقية بصورة كبيرة.
ويضيف في حديثه “إننا أمام واقع مختلف عن العالم كله، واقع يتطلب أن نبحث عن أسبابه، ولهذا قمنا بعمل دراسات عن الحالة القرائية في كل الدول العربية لمعرفة المشكلة والبحث عن حلولها الملائمة حسب طبيعة كل دولة لتصب في النهاية في صالح الثقافة العربية”.
ويقول رشاد إن المحتوى العربي المكتوب على الإنترنت نسبته أقل من 2% من إجمالي المتاح، وما تخرجه مطابعنا من دراسات وأبحاث في العلوم العلوم التطبيقية والإنسانية والتكنولوجية أقل من 1% من مجمل ما ينشر من كتب (وفقا لمكتبة الكونغرس الأميركي)
وفي دراسة للاتحاد العام للناشرين العرب صدرت هذا العام بعنوان “قراءة القراءة في الوطن العربي – الاتجاهات والميول ” من إعداد الدكتور خالد عزب مستشار الاتحاد للدراسات والاستشارات الفنية، تهدف الدراسة إلى تتبع اتجاهات القراءة في الوطن العربي، والتي من خلالها يمكن تحديد حاجة القارئ العربي من الناشر، خاصة مع اتجاه الشباب للقراءة في ظاهرة لم تكن موجودة من قبل.
يقول الدكتور خالد عزب للجزيرة نت “حاولت معرفة الحالة القرائية العربية عبر القراءة الورقية والرقمية، وإن الطرح في الدراسة قائم على إثارة التساؤلات، وانتهيت إلى أن مايشاع حول ضعف المقروئية لدى المواطن العربي أمر فيه مبالغة، والحال يختلف من بلد لآخر لاختلاف المعطيات، فضلا عن أن أقوى المشاريع العربية المحفزة للقراءة، مازالت دون فاعلية كبيرة تؤدي لإنشاء مجتمع قارئ”.
ويرى عزب مقولة أن العرب لا يقرؤون في حاجة لمراجعة في ظل العديد من المؤشرات من المصادر الرقمية ومنها تحميلات الكتب من متاجر الكتب على شبكة الإنترنت، ونسب شراء الكتب من المعارض، وغيرها من المؤشرات والدلائل، كلها تعطي مؤشرا إلى أن متوسط القراءة السنوي أعلى بكثير من التقارير التي كانت نتائجها مبنية على دراسات مسحية غير دقيقة، فهي وإن لم تكن مرتفعة، فهي ليست متدنية كما كان يشاع دائما.
فجوة رقمية
وتشير الدراسة إلى أن هناك فجوة بين الدول العربية في تملك أدوات المهارات الرقمية، فهي تنازليا بصورة نسبية تنازلية في بعض الدول، كالتالي: السعودية، المغرب، قطر، الإمارات، مصر، الأردن. وبصورة أقل في: تونس، الكويت، الجزائر، لبنان، عمان، البحرين. وبصورة أقل من الدول السابقة في كل من: العراق، سوريا، السودان، ليبيا، وبصورة أقل في: اليمن، فلسطين، الصومال، جيبوتي، جزر القمر.
وتؤكد الدراسة على وجود أزمة في المحتوى الرقمي العربي، حيث لا توجد إستراتيجية عربية للمكتبات الرقمية، ويشير د. خالد عزب إلى أن القراءة الرقمية في الوطن العربي في تصاعد مستمر،ولكنها ترتكز على المواقع الأكاديمية والبحثية، حيث يتم تحميلها ثم قراءتها، وتحتل الكتب الدينية التراثية المرتبة الأولى يليها الروايات.
الروائي والباحث السياسي د.عمار علي حسن، يرى أن المثقفين العرب لم يبذلوا الجهد الكافي تجاه الحرب في غزة، ويقول “نعم، أصدروا بيانا جماعيا، وبعضهم يساند الشعب الفلسطيني، لكن الجهد المبذول في هذا قليل ومتقطع. وكان من اللازم أن يشارك الاتحاد والروابط التي تعبر عن الكتاب والأدباء بقوة في معركة الوعي والمساندة، وتخاطب مثيلتها في العالم كله”.
ويتابع “بالرغم من كل هذا لم تصمت المطابع، أهدتنا الآلاف من الكتب، منها الجيد، ومنها الرديء، ومن خلال متابعتي أرى أن أهم كتاب صدر خلال العام،”التدين والثورة الرقمية”، لمؤلفه نبيل عبد الفتاح، وأما أهم رواية، فهي “2067” للروائي سعد القرش، والحدث الأبرز هو إصدار ألفي مثقف عربي من البارزين بيان تأييد للمقاومة الفلسطينية وتنديد بالعدوان الإسرائيلي، ومطالبة للكتاب في العالم بالتضامن مع قضية الشعب الفلسطيني”.
ويضيف حسن “أرى أن النشر الورقي في أزمة حقيقية، حيث يعاني من أمرين: ارتفاع أسعار الورق في بعض الدول، واستمرار دور نشر صغيرة وهامشية في إهانة صناعة الكتاب من خلال إصدارات سطحية لا تراعي شروط تنفيذ الكتاب وإخراجه وتسويقه، و نفتقد كثيرا الكتب التي تنظر إلى المستقبل بعين واعية”.
والقراءة الإلكترونية في زيادة مضطردة، بعد أن اعتادها كثير من القراء في زمن كورونا، ومع ارتفاع أسعار الكتب، ودخول جيل جديد يميل إلى القراءة الإلكترونية إلى عالم الاهتمام بالكتب، ساعد على ذلك ظهور عدد من الأقلام الشابة الواعدة، التي تنم عن مواهب حقيقية، لكنْ كثير من أصحاب المواهب غير ممكنين من نشر إنتاجهم، وهذا يمثل مشكلة معقدة.
الكتب وسؤال النهضة
ويستطرد عمار علي حسن “الكتاب لا يزال هو وعاء المعرفة الأهم، لكن الأمر يتوقف على مضمون هذه الكتب، وهل تشتبك مع سؤال النهضة أم لا، وهذا بالطبع لاينفصل عن الأزمة التي يمر بها المثقف العربي، وهي أزمة مركبة ومتجذرة سببها غياب القدرة على الاستقلال، فالاغلبية الكاسحة من المثقفين موظفون، أو معتمدون على جهات معنية في تحصيل أرزاقهم، وهذا لا يجعل أقوال وكتابات أغلبهم حرة”.
ومن ضمن أزمات المثقف العربي، بحسب الروائي المصري، أنه يخضع لرقابة مزدوجة، رقابة النظام، ومراقبة الذات، والرقابة الرسمية تفرض على كثيرين رقابة ذاتية، فضلا عن اضطرار كثيرين إلى مسايرة المجتمع في بعض الأوقات، وهو في حد ذاته يمثل رقابة ثالثة وقاسية.
وهل حقيقة أن الاهتمام بالأدب الواقعي يتراجع لصالح الروايات التاريخية الاستهلاكية؟ يجيب حسن “كثيرون هربوا إلى التاريخ بحثا عن استعارة يواجهون بها الحاضر وهم في مأمن من عسف السلطة، ودور النشر أيضا في بعض الدول مقيدة حيال نصوص تناقش الواقع وتشاكسه. علاوة على ذلك فالرواية التاريخية مغرية، في ظل وجود حكايات آسرة في التاريخ الإنساني تجذب انتباه الأدباء”.
خراب ما بعده خراب
أما الروائي فتحي إمبابي صاحب “خماسية النهر” فيعلق على الوضع الثقافي العربي قائلا “لم تعد القضايا الفكرية والثقافية أو الفلسفية تتسم بالوضوح كما كان الحال في عالم الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، نحن نتلهف بانتظار نجاح رئيس ديمقراطي للولايات المتحدة الأميركية، أو تولي الحزب الاشتراكي الديمقراطي مستشارية جمهورية ألمانيا الاتحادية، لنصحو في الربع الأخير من نهاية العام الحالي على خراب ما بعده خراب، حيث يلعب كلاهما الدور الرئيسي في دعم هذه الجرائم المعادية للبشرية ودعم مرتكبيها والدفاع عنهم. وهذا غيض من فيض”.
ويضيف “لقد غاب الدليل الثقافي أو الأيديولوجي الذي يتيح للمثقف أن يتخذ قرارات نزيهة عن يقين وإيمان. وبالرغم من ذلك فلابد من الاعتراف أن الشباب العربي لديه حاسة رائعة تجاه الصواب والخطأ”.
ويستطرد قائلا “سيظل معرض القاهرة الدولي للكتاب من أهم الأحداث الثقافية على المستوى العام والخاص، ومع ذلك، لا يزال المتحكم الرئيس في النشر في مصر وغيرها من الدول العربية عدد من مؤسسات النشر الخاص الكبرى بعيدا عن جدارة المحتوى أو المضمون”.
وعن تراجع الإبداع العربي بشكل عام يقول الروائي فتحي إمبابي صاحب “مراعي القتل” إن “المسألة ترجع في الأساس إلى أمرين، الأول عقم المؤسسة الأكاديمية من جهة ومن جهة أخرى تبعيتها للفكر الغربي الذي صار يروج للقطبية الواحدة والمتمثلة في أحد جوانبها في سيادة وتسيد السياسة والثقافة الغربية على العالم”.
أما الأديب السوداني الدكتور أمير تاج السر صاحب “صائد اليرقات” فيرى أن “أفضل رواية عربية كانت “عباءة غنيمة” لعائشة المحمود، وقصة “السيدة التي سقطت في الحفرة” لإيناس حليم، وعالميا قرأت كثيرا لكن لا أذكر بالتحديد، أما الحدث الثقافي المهم فتوجد أحداث كثيرة ربما أهمها، الفعاليات الثقافية المكثفة في المملكة العربية السعودية”.
المؤرخ والمحقق د.أيمن فؤاد سيد رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ورئيس هيئة المخطوطات الإسلامية يرى أن أهم حدث ثقافي كان مؤتمر نسخة المؤلف الذي نظمه معهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأفضل كتاب قرأته: “رحلة فى الفكر الصوفى وأسرار اللغة” للأديبة ريم بسيوني.