“ليلاف: الثلج الجاف” لابتسام تريسي.. سرد شاق وبوح أليم عن شتاء الشمال السوري

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

“احتفظ بزمنك الجميل حين تطأ طين الواقع البائس”.

عبارة تُسْتَهلُ بها رواية “ليلاف: الثلج الجاف” لتكون عتبة القارئ في ولوجه إلى عوالم سرد شاق ومُجهد ينوء بحمل آلام عظيمة لا يزال صدى أنينها يتردّد إلى يومنا، وجراح نازفة لم تندمل لملايين السوريين الذين جرفت -ولا تزال آلة القتل والفساد- أحلامهم ومستقبلهم خلال ما يربو على عقد من الحرب الدامية.

وفي هذه المرة تعود الروائية السورية ابتسام تريسي (مواليد إدلب 1959) إلى ديارها الأولى، فتروي حكاية الشمال السوري الذي تحوّل خلال سنوات من الحرب (2013-2018) إلى أعنف رقعة صراع جلَبت خواتيمه واقعا إنسانيا هو من الأشد بؤسا في العالم.

رواية شاقة بحمولة كبيرة أجادت تريسي التعامل معها فنيا، فأفرغتها عبر طبقات متعددة من السرد تكشّفت من خلالها الأبعاد الإنسانية والسياسية والاجتماعية لما حدث في تلك المنطقة عقب تحوّل الثورة السورية من السلمية إلى المسلّحة.

ففي “ليلاف” نحن أمام مشهد قاتم تسطو عليه الفوضى المنظَّمة بسلاح عشرات الفصائل مختلفة الانتماء، ويملؤه عبث فائض قادَ إليه فساد بعض تلك الفصائل وتضارب أجندات الدول الداعمة لها.

وربما تكون تلك القتامة التي عمّت المشهد هي التي دفعت الروائية للإحاطة به، ومحاولة تجاوزه عبر مقاربة سردية تفتح أمام القارئ أفقا لاستشراف القادم بناء على ما حدث في الماضي.

منجز أسلوبي

وإذا أردنا إيجاز “ليلاف” بجملة واحدة لقلنا إنها حكاية 6 أصدقاء مع الثورة السورية، وهم: شام وديغوار، ليلاف وتيم، ونازلي ومحمود، أصدقاء يفتح السرد ستارته على حلمهم بالحب والحرية والعدالة الاجتماعية، ويسدلها وهو ما زال يحاول عبثا عدّ كوابيسهم وخيباتهم.

لم تكن “شام” قد تواصلت مع “عبد السلام” منذ زمن بعيد عندما تلقّت منه فجر ذلك اليوم الشتائي من عام 2017 مجموعة من الرسائل عبر تطبيق “واتساب”. تفاجأت الفتاة العشرينية الكئيبة بعشرات الملفات المعنونة بأسماء ومناطق ووقائع من الشمال السوري.

تعرف شام معظم تلك الأسماء فهي لأصدقائها. ولكن ليزيل الريبة عن الموقف، أردف الإعلامي والمصوّر عبد السلام تلك الملفات برسالة يخبر فيها شام أنه بطريقه للخروج من البلاد، وإذا حدث له أي مكروه أثناء خروجه فهي حرة التصرف بمحتواها.

تشركُ شام ليلاف، وهي صديقتها ومقاتلة في صفوف تنظيم كردي مسلح في شمال شرقي سوريا، بالاطلاع على هذه الملفات التي تطوي قصصا ومعلومات دقيقة عنهما، وعن أصدقائهما، وعن مجموعة من الرجال والنساء الذين ساهموا في رسم مصير الشمال خلال الحرب.

وبتناوب الصديقتين على قراءة المجلدات واستعراض محتوياتها أمام القارئ، وما يدور لاحقا بينهما من حوارات، وما يسجلانه من تعليقات، ويسترجعانه من استذكارات تستمد الحبكة مادتها وتشرع في نسج خيوط العقدة التي لا يعرف السرد لها حلا إلا مع نهاية العمل في الصفحة 239.

وفي هذه المعمارية المعقّدة لبنية الخطاب الروائي تتجلّى قيمة المنجز الأسلوبي لتريسي في “ليلاف”، وهو تعقيد ضروري لاستيعاب الطبقات المتعددة من السرد الذي يحاول مقاربة مأساة الشمال السوري إنسانيا، دون أن يغفل عن تعرية أسبابها سياسيا وميدانيا، وتسليط الضوء على كل من شارك فيها، ورصد ما أمكن من آثارها النفسية والاجتماعية على الأفراد وعلاقاتهم ومصائرهم.

العنف المرجعي

وتبدو رواية ليلاف -في مستوى من مستوياتها- استكمالا لمشروع ابتسام تريسي الممتد إلى 16 رواية، والذي كان شاغلها فيه منذ البداية قضايا الإنسان السوري، وسِيَر مكوناته منذ نشوء الدولة الوطنية عقب الاستقلال، ومرورا بكبرى التحوّلات السياسية والاجتماعية التي طرأت عليها خلال عقود، ووصولا إلى حاضرها في بلاد مفكّكة اجتماعيا وجغرافيا.

ويظهر هذا المشروع في بعد من أبعاده كمحاولة سردية لأرشفة أحداث العنف التي عايشها السوريون، وذلك ليس لغرض الأرشفة فحسب، ولكن لأن “السرد يتوغّل في فضح الأذى الذي يتعرّض له الأفراد في حيواتهم، وفي معتقداتهم، ومصائرهم، ويوثّق معظم ذلك توثيقا مجازيا مؤثرا” يُفيد منه القارئ، ويسهم في تشكيل رؤيته ومواقفه من الحياة، كما يشير الناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم في معرض تعداده لأغراض السرد الأدبية عند تناوله أحداث العنف المرجعي.

و”ليلاف: الثلج الجافّ” في وجه من أوجهها تجسيد لهذا الغرض الأدبي، فتقول ليلاف إذ تشحذ همّة شام لتدوين ما جاء في الملفّات ضمن دفتي رواية “حوّليها إلى رواية تجمعنا، لنترك أثرنا لأجيال ستأتي بعدنا يجب أن تعرف الحقيقة، حقيقة ما حدث”.

وهكذا تتلاحق الوحدات السردية التي تحمل أسماء وتواريخ أحداث كانت شاهدة على متوالية العنف التي عصفت بأبناء الشمال وعموم سوريا، ومنها: مجزرة نهر قويق بحلب، معركة تل حميس بين فصائل المعارضة وقوات النظام في عام 2013، سيطرة تنظيم الدولة على معمل الإسمنت التابع لشركة “لافارج” الفرنسية في عام 2014، وحقيقة تورط الشركة بتمويل التنظيم وغيره من التنظيمات المسلحة، عصيان سجن صيدنايا 2008، وغيرها الكثير من العناوين عن عنف مرجعي وقعَت أحداثه فعلا، ولكن تكفّل الرواة بتقديم سردياتهم الخاصة عنه ليكشفوا حقيقة ما جرى حينا، وليحمّلوا مسؤوليته (العنف) لجهة ما دون غيرها أحيانا، وفي الغالب الأعم ليقدموا صورة متكاملة عن السياق الذي أُنتج فيه هذا العنف، فتصبح سردياتهم المصحوبة بالانفعالات الوجدانية الصادقة بمثابة إدانة لكل من شارك في إنتاجه.

نظام هشّ وثورة مُخترقة

تعكس الملفات التي استهلت بها شام روايتها المزعومة رغبة تريسي في رصد أبرز مظاهر المرحلة التي تحوّلت فيها الثورة السورية من سلمية إلى مسلّحة.

فتتكشّف تلك الملفات عن شخصيتي “أبو البراء” و”مرشد العجيني”، أمّا الأول فهو عميل أجنبي يسعى إلى تشكيل كتيبة مقاتلة مستغلا غليان الشارع بعد ازدياد عدد المدنيين القتلى جراء قمع النظام، فيشرع بتجنيد العسكريين والإعلاميين والمخبرين في العمل لصالح مشغّليه.

أمّا مرشد فهو ضابط في أحد الأجهزة الأمنية، يعرض عليه أبو البراء الانشقاق عن النظام وتشكيل كتيبة يكون مرشد قائدها مقابل مبلغ مالي كبير.

ولكن مع ولوج السرد إلى رأس مرشد ونقل صراعه الداخلي بين قبول ورفض العرض الذي قدّمه أبو البراء، لا نجد عند الضابط الأمني أي نوع من الانتماء إلى مؤسّسته، أو شرف عسكري يدافع عنه برفض الطلب، بل على العكس كان يرى أن “الأمر محسوم” بما أن أحد زملائه بالفرع لا بدّ وسيستغل الوضع المضطرب (المظاهرات) ليتدبّر له مكيدة، فيقصيه من الفرع عاجلا أم آجلا، بالإضافة إلى “آلاف الدولارات التي تستحقّ المغامرة” في حال قبوله عرض أبي البراء.

في حين أن “عبد السلام”، الإعلامي الذي سرّب الملفات إلى شام، عرض عليه أبو البراء هو الآخر أن يكون إلى جانبه في مشروعه، فما كان من عبد السلام إلا أن وافق قائلا في نفسه “أنا بالكاد كنت مصورا مهمّشا من قِبَل المهيمنين على الإعلام في الدولة”.

ولهاتين الشخصيتين دلالة مزدوجة، أوّلها على هشاشة النظام من الداخل، وتحوّل مؤسسات الدولة في ظله إلى مرتع للفساد والمحسوبيات يتكئ على نظام ترقية وظيفية لا تعتمد الكفاءة معيارا، بل الانتماءات الفرعية الحزبية منها والمناطقية والطائفية، فتهمّش بذلك السواد الأعظم من عموم موظّفيها دافعة إياهم إلى منحدرات الفقر والفاقة.

وثانيها على اختراق استخباراتي واسع للثورة السورية مع انحرافها عن مسار السلمية، فلم يكن أبو البراء وحده في هذا المضمار، بل “جاك” الرأس الكبير، والكولونيل الفرنسية نور الشام، والأردني أحمد جالودي، وغيرها من الشخصيات الإشارية والمرجعية التي مثّلت هذا الاختراق بحسب أحداث الرواية.

 تفكيك بنية القهر

يشهد الفصلان الثاني والثالث على ولوج شخصيات جديدة مسرح الأحداث، وعلى تصاعد وتيرة العنف في مختلف مناطق الشمال والشمال الشرقي مع ظهور تنظيمات إسلامية متطرفة، وفصائل مسلحة غير منضبطة تسهم في تعزيز العنف والفوضى في المنطقة.

وبتتبع شام قصتي حمزة وعمّار، وهما مقاتلان في صفوف تلك الفصائل، وغوص السرد في طفولتيهما كاشفا عن تحوّلات سيكولوجية عميقة متماثلة (نتيجة لموت والدتيهما مبكرا وقسوة وتخلي أبويهما عنهما) نكون أمام محاولة رمزية لتفكيك بنية القهر في المجتمع السوري.

فالموت الذي خطفَ والدتيهما مبكرا لم يكن موتا لتلك السيدتين فحسب، بل موتا استعاريا يرادُ به الإشارة إلى انعدام مصادر الأمان والدعم والاحتضان للشاب السوري، الذي شبّ في بلاده مقهورا من عوز يرافقه كظله، ومسحوقا بين مطرقة الاستبداد والقمع، وسندان التخلّف الاجتماعي الذي رسّخته السياسات المجحفة بحق سكان منطقة الشمال خلال عقود من حكم البعث.

قهر تغوَّلَ، وقتل عبر الزمن منابع الخوف في فؤاديهما، فلم يتردّد عمار ذات مساء من صعود سيارة “بيك-آب” تقلّ مقاتلين في طريقهم إلى معركة “تل حميس” التي وجد فيها مُرشد فرصة لالتقاط مقاطع فيديو لنفسه وهو يقاتل مع كتيبته، أرسلها لاحقا إلى الممولين ليحصل على مزيد من المال.

أمّا حمزة الذي ذاق قهر دار الأيتام، وعذابات المعتقل، وذلّ التجرّد من الحقوق المدنية كانت الثورة بالنسبة إليه خلاصا “فوجد نفسه منساقا للانضمام إليها”، وحَملَ السلاح إلى جانب جماعة “أبي النصر” ليدرك لاحقا أن لا فرق بين هذه الجماعة وبين النظام، لأن الأمر أشبه بمن ينتقل “من تحت الدلف لتحت المزراب”.

وهكذا تغدو سيرة عمار وحمزة مجازا لسيرة القهر السوري، قهر “شباب الظلّ” الذي أدّى إلى طوفان من العنف المجّاني وسط مشهد ينفتح على عبثية لا نهائية يستشعرها أبطال الرواية واحد تلو الآخر، فيتحوّل معها “العبث” إلى مفردة مهيمنة على تفكيرهم وحواراتهم في ظل التلاشي المستمر لأحلامهم وانحراف بوصلة القضية والثورة التي اختطفها مجموعة من المنتفعين والمتطرفين والطغاة.

شتاء الشمال الطويل

أحبّت شام صديقها الكردي ديجوار، لكنه اختفى مبكرا بينما بقيت هي أسيرة حبها عند “عتبة البدايات”، فيما هامت ليلاف بحبيبها العربي تيم، فكتب أبوها “صولار” عليهما الفراق بعد أن أجبرها على الالتحاق بتنظيم مسلح من شأنه أن يحقق حلمه بنشوء “دولة كردية مستقلة”، بينما لم تعترف نازلي بإعجابها بمحمود إلا وهي تنازع بعدَ تلقيها لطلق ناري في كمين.

وهكذا عبثت الحرب بمصائر شخوصنا، وحوّلت أحلامهم بالحبّ والحرّية إلى كابوس متجدّد من الدم والمرارة والتفرقة.

تصف ليلاف القوات الكردية التي تقاتل في صفوفها قائلة “إنهم ليسوا قوّة مؤثّرة، إنهم مجرّد ظلّ لراية” وتنسحبُ بعيدا.

وعلى منوالها ينسحب الجميع من ارتباطاته السابقة، فشام وعبد السلام اكتشفا أنهما أدوات في يد استخبارات دولية، في حين وجدت ليلاف نفسها ضحية الطموحات العسكرية والسياسية لوالدها، فيما كفر كل من عمار وحمزة بمشروعات قادة فصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات الذين “لا يختلفون في شيء عن النظام الذي يقاتلونه”.

فيما اختارت تريسي لزمن روايتها، الذي يغطي نحو 8 سنوات من الصراع في سوريا، فصل الشتاء فصلا وحيدا يتسرّب صقيعه إلى أجساد شخوصها المتعبة من التنقّل في مدن الشمال المتهاوية، والخاوية إلا من المكائد ورائحة البارود وقصص الموت اليومي.

اختيار فنّي يعكس تشاؤم الروائية من شتاء طويل خيّم على الشمال السوري حتى صار أشبه بـ”الثلج الجاف”، والناس هناك في انتظار “ربيع” طالت قيامته.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *