“قدحة”.. نافذة سينمائية على الطفولة المهمشة بتونس

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 4 دقيقة للقراءة

تعتبر الأفلام التي تعنى بقضايا الطفل والطفولة ذات تقاليد راسخة في السينما بمختلف مراحلها، وقد اهتمت الأفلام التونسية بالأجيال الناشئة طوال تاريخها بالتوازي مع الاهتمام العالمي بها.

ولم يكن المخرج التونسي أنيس لسود بعيدا عن هذا الواقع، لذلك قدم أفلام “حصص قرابة” و”صباط العيد” و”صابة فلوس” و”جمهورية نفسي”، وهي أعمال تدور حول انشغالات وأحلام الأطفال، وأبرز الظواهر والقضايا التي تعاني منها الطفولة في تونس وفي المجتمع العربي.

أنيس لسود هو مخرج تونسي من مواليد 1972، ينتمي إلى الجيل الجديد من السينما التونسية التي اكتسحت أغلب المهرجانات السينمائية العربية، وتسير نحو العالمية بخطى ثابتة.

حياة ثانية

نال فيلم “قدحة.. حياة ثانية”، لأنيس لسود عدة جوائز في مهرجانات السينما من بينها جائزة أفضل سيناريو في مهرجان مالمو للسينما العربية، والجائزة الكبرى في مهرجان “زلينغ” للطفولة والشباب في التشيك.

اختار أنيس لسود لبطولة فيلمه طفلين يبلغان من العمر 12 عاما، ومن ثم بدأ النبش في ذاكرة الشاشة التونسية، واختار ممثلين غابت وجوههم عن الشاشة كالممثلة التونسية أنيسة لطفي، والعرفاوي وجمال العروي.

سيناريو الفيلم كتبه كل من شامة بن شعبان وأنيس لسود، ليصنعا فيلما طريفا بوجوه غير مستهلكة في الشاشة.

يروي “قدحة.. حياة ثانية” قصة طفل يتعرض لحادث مرور، لكن والدته لا تستطيع توفير مستلزمات العلاج بسبب الظروف المادية الصعبة، فتتكفل عائلة ميسورة بمصاريفه.

يغير الحادث حياة الطفل ووالدته، حيث تلتقي والدة الطفل قدحة في المصحة بمعز ومليكة اللذين يتكفلان بتغيير حياة قدحة، ويوفران له مسكنا، ليلتقي قدحة أسامة الابن الوحيد لمعز ومليكة، وتنشأ بين قدحة وأسامة علاقة صداقة.

تناقض جارح

يصور المخرج تمزق البطل بين حياته القديمة في الحي الشعبي وحياته الجديدة في بيت مترف، وبين التعليم العمومي في مدرسة الحي والتعليم الخاص وبين الترف المادي و”البتر النفسي والجسدي”.

صوّر المخرج أوجاع الذات وبعض قضايا الشعب التونسي، لكن تبقى صورة الجسد المبتور ذات رمزية عالية، يلقي الأب بنفسه وبجسده في مراكب الموت من أجل الحياة، ويتبرع الابن بكليته من أجل تأمين مقومات العيش الكريم.

يطرح أنيس لسود قضية البتر الجسدي والبتر الروحي معا، النقصان والخصاصة الروحية والجسدية، وغياب الأب في أفق مجهول، وضياع الأم بسبب عدم قدرتها على تحمل مصاعب الحياة.

تعبر هذه الصورة عن تفكك طبقة واسعة من المجتمع التونسي، الذي أنهكته السياسات ودفعته الضغوط الاقتصادية إلى “الحرقة”، وتعني في اللهجة الشعبية التونسية الركوب في قوارب الموت من أجل الهجرة إلى أوروبا، أو إلى بيع أعضاء أبنائه من أجل تأمين العيش الكريم.

يصور المخرج، من جهة أخرى الفئات المترفة، فعلى الرغم من مشاعر الامتنان الواضحة على عائلة أسامة، كانت تسعى دائما إلى الحفاظ على هذه التراتبية الاجتماعية، إنها الطبقة التي لم تستطع التخلص من مشاعرها العميقة بالتفوق على الطبقات الفقيرة في المجتمع.

هذا التباين وإن بدا ظاهرا في الفيلم، إلا أنه ليس الهدف الأساسي الذي بني على ثنائية جدلية، وهي حاجة كل طرف إلى الآخر، فأسامة الصبي لا حاجة له بالمال بقدر حاجته للصحة الجيدة، في حين أن قدحة ليس لديه وعي بأهمية جسده وصحته الجيدة بقدر تفكيره في مصير والده والخصاصة التي يعيشها.

وحدة روحية

رغم قسوة مشهد التبادل وبيع الكلية من أجل الحياة، فإن أنيس لسود أراد أن يغير من الصورة المألوفة لصراع الطبقات، ويجعل التقارب بينهما ليس تقاربا ظاهريا فحسب، بل تقاربا عضويا ودمويا مرتبطا بحاجة كل طرف إلى الآخر.

وسّعت الضغوط الاقتصادية والأوضاع السياسية الهوة بين الطبقات، إلا أن المشاعر الإنسانية التي تعمر عالم الأطفال تجمع وتصنع التوافق بينهم في الجسد والدم، فضلا عن الود الظاهر.

يعتبر أنيس لسود أن بين فئتي المجتمع هناك طبقة هائلة قادرة على صنع الأمل ورسم أفق أجمل للحياة، ذلك أن “قدحة” هو الاسم الشعبي الذي تتداوله الأحياء الشعبية للتعبير عن الانطلاقة والشعلة والنور والشجاعة.

يطرح الفيلم جملة من الثنائيات الإشكالية: الذات والآخر، الأطفال والآباء، الحرية والسلطة، الخيال والواقع، البتر والزرع، النقصان والترف، القطيعة والتوافق، الحياة والموت.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *