دمشق الفيحاء في عيون الشعراء

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

في هذه الزاوية الثقافية “نصوص في الذاكرة” تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة.

تختار هذه النافذة مجموعة منتقاة من نصوص الأدب والفكر والتاريخ، التراثية والمعاصرة، في مجالات ثقافية متنوعة، وتكتفي بمقدمة قصيرة تفتح الباب بعدها للنصوص ذاتها لتشرق معانيها بلا حجاب، وقد أضاف المحرر إليها -أحيانا- هوامش شارحة موجزة.

هذه المجموعة تضم مختارات شعرية عن دمشق.

تشير الأدلة التاريخية إلى أن تاريخ دمشق، الفيحاء، يعود إلى ما قبل الميلاد بأكثر من 3 آلاف عام، إذ التقت على أرضها حقب الزمان والمكان لتشكل حضارة إنسانية مجيدة.

على أرض دمشق دارت رحى الحروب، ومرت كل الحضارات، وظهرت بدايات النبوات. دخلها الإسلام في سنة 14هـ/636م، ومع قيام الخلافة الأموية، أصبحت دمشق حاضرة العالم وفخر المدائن، تشع أنوارها من البرتغال إلى الصين، ومن سيبيريا إلى قلب أفريقيا.

يكفي أن نعلم أن كتابًا واحدًا فقط وضعه محدث الشام ابن عساكر (499-571هـ)، يستعرض جزءًا من تاريخ دمشق، وقد شغل ذلك العمل الضخم 80 مجلدًا، ليعتبره المؤرخون أحد أعظم المؤلفات في تاريخ الإسلام.

يصف البحتري، الشاعر العربي، حين دخل الخليفة المتوكل دمشق من باب “داريا”، بهاء المدينة وروعتها بقوله:

العيش في ليل “داريا” إذا بردا
والراح تمزجها بالراح من (بردى)

ويتابع مادحًا:

أما دمشق، فقد أبدت محاسنها
وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت، ملأت العين من بلد
مستحسنٍ، وزمان يشبه البلدا

أما أبو اليمن الكندي، فقد وصف عمران دمشق في عهد نور الدين محمود زنكي (1174م)، حين بنى قصر الفقراء بجوار قصور الأغنياء:

إن نور الدين لما أن رأى
في البساتين قصور الأغنياء
عَمَر الربوة قصرًا شامخًا
نزهة مطلقةً للفقــراء

وعندما دخلها العثمانيون فاتحين، ظلت دمشق كما كانت، عاصمةً للعلم والعلماء. ذكر عبد القادر النعيمي الدمشقي (المتوفى 927هـ) في كتابه “الدارس في تاريخ المدارس”، أن دمشق في القرن الخامس الهجري ضجت بالعلم. واحتوت على 7 دور للقرآن الكريم، و18 دارًا للحديث، و57 مدرسة للشافعية، و51 مدرسة للحنفية، و4 مدارس للطب، ومدرسة للهندسة.

وصف الأمير سديد الملك ابن منقذ الكناني هذا العمران قائلاً:

ومدارس لم تأتها في مشكلٍ
إلا وجدت فتى يحلُّ المشكلا
وبها وقوفٌ لا يزال مَغَلُّها
يستنقذ الأسرى ويغني العيّلا
وأئمة تلقي الدروس وسادة
تشفي النفوس، وداؤها قد أعضلا

وأضاف:

إذا عنان اللحظ أطلقه الفتى
لم يلق إلا جنة أو جدولا
أو روضة أو غيضة أو قبّة
أو بركة أو ربوة أو هيكلا
أو واديًا أو ناديًا أو ملعبًا
أو مِذبنا، أو مجدلاً أو موئلا

دمشق.. أيقونة الجمال والتاريخ

ومن الأبيات التي تغنى بها المغنون، وأطربت بها القلوب، ما قاله طردار بن علي الدمشقي، المعروف بالبديع:

يا نسيما هبَّ مسكًا عبقا
هذه أنفاس ريّا جلّقـــا
كفّ عني، والهوى ما زادني
برد أنفاسك إلا حرقـــا
ليت شعري، نقصوا أحبابنا
يا حبيب النفس ذاك الموثقا
يا رياح الشوق، سوقي نحوهم
عارضًا من سحب عيني غدقا
وانثري عقد دموع طالما
كان منظوما بأيام اللقــا

ظلت دمشق تتأرجح بين عبق العطور وزهو الزهور، متألقة بمائها العذب ونمائها الدائم، مستلهمة روح البقاء عبر العصور. ورغم الزحوف المغولية، والغزوات الصليبية، والاحتلالات المتكررة، كانت دمشق السر الكامن، المحتفظ دائمًا بمادة الحياة وأنفاس البقاء. أرسلت أسرارها وأنوارها إلى العالم، تضخ فيه الدماء والعافية، متجاوزة البغي والدمار، وتعيد ترميم مجدها مهما طالها من حصار.

في خضم هذا التاريخ العريق، خلّد أمير الشعراء أحمد شوقي في أبياته معاني المجد والحزن حين ألمت بها العوادي، وقال:

نصيحةً ملؤها الإخلاص صادقة
والنصح خالصهُ دينٌ وإيمان
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة، فهو تقطيع وأوزان

ثم أكمل في وصف دمشق، روح الحضارة ومصدر الإلهام:

آمنت بالله، واستثنيت جنته
دمشق روح وجنّات وريحان
لولا (دمشق) لما كانت (طليطلة)
ولا زهت ببني العباس بغدان
جرى وصفق يلقانا بها (بردى)
كما تلقّاك دون الخلد رضوان
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم
ونحن في الجرح والآلام إخوان

وفي لحظة ألم تفجرت من وجدانه صدحة أكثر تفجعًا:

سلام من صبا بردى أرقُّ
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصفٍ يدق
وكل حضارة في الأرض طالت
لها من سرحك العلوي عرق
سماؤك من حلي الماضي كتاب
وأرضك من حلي التاريخ رق
بنيت الدولة الكبرى وملكًا
غبار حضارتيه لا يشق
له بالشام أعلام وعرس
بشائره بأندلسٍ تـــدق

دمشق.. نبض الشعر وحكاية العروبة

ومن الوطنيات الرائقة للشاعر صقر القاسمي، ما جاء في ديوانه صحوة المارد في خاطرة إلى دمشق، ربّة السحر والشعر:

كم في هواك أرى الشقاء سعادة
واللوم حين تمر بي ذكراك
طلبوا بأن أسلو هواك وهل أرى
دنيا تلد بغير جرح هواك
عشقتك روحي مذ عرفتك وانبرى
بالسحر تهني بالهدى عيناك
وتعد لي كأس السنا بعطورها
دنيا تفتق زهرها لشذاك
فخر الأبوة، من كماة أميّة
خلدت بمجدهم العتيد رباك
ما أنّ في دنيا العروبة موجع
إلا وجلّق ذاب قلب بــاك

ثم يترنم صالح جودت، في ديوانه ألحان مصرية، بهذا اللحن الدمشقي الخلاب، ليعزف على أوتار الوحدة والعروبة التي خلّدها في زيارته لدمشق عام 1966م:

هنا دمشق وما أحلاه من نغم
أنشودة في فمي، أم نشوة بدمي
هذي دمشق تناديني فأبلغها
سعيًا على نغماتي لا على قدمي
دمشق يا معبد الأشواق في حلمي
يا كعبة الروح بعد القدس والحرم
يا عزّ قوميتي، يا أخت قاهرتي
يا نجمة يزدهي من نورها علمي
فوق الجراح سمونا في عروبتنا
فما نفى حدثٌ، أنا ذوو رحم
ما زال حبك منقوشا على قدري
فوق الزمان، وحبي غير متهم
ما أجمل النيل، إذ يصغي إلى بردى
وقاسيون يناجي قمة الهرم
هذي فلسطـيـنُ تدعـونـا إلى قسمٍ
وآن مـنّا أوانُ الـبِرِّ بالقسم
فيا دمشقُ دعـاكِ النصرُ فـانـتفضي
ويا عـروبةُ نادى الثأرُ فانـتقـمي

وفي برقية عاطفية أرسلها جودت “إلى ليلى أمية”، نظمها أثناء تحليقه فوق أجواء دمشق عام 1964م، والمرارة من الانفصال بين مصر وسوريا تلون المشهد، كتب:

بلغوها إذا بلغتم حماها
أنني المستهام رغم جفاها
منعتني عن أرضها فتسامى
بي حبي بلغت سماهــا
أقليــل عليّ أن تتبدّى
لعيوني، ولا أقبّل فاها
ليتها وهي تمنع الود عني
نفحتني بحفنةٍ من ثراها
بلغوها أني على العهد باقٍ
فعساها تئوب يومًا عساها

ثم يفتح لنا نزار قباني، العاشق الدمشقي الكبير، مفكرته، فتنبعث قصيدة عاتبة كعتاب الأحباب، ألقاها في مهرجان الشعر العربي في دمشق في ديسمبر/كانون الأول 1971م، وسط غيوم نكسة 1967م الثقيلة:

يا شام أين هما عينا معاوية
وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا
فلا خيول بني حمدان راقصة
زهوا، ولا المتنبي مالئ حلبا
وقبر خالد في حمص تلامسه
فيرجف القبر من زواره غضبا
يا ربُّ حيٍّ، رخام القبر مسكنه
ورب ميتٍ، على أقدامه انتصبا
يا ابن الوليد، ألا سيف نؤجره
فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا
دمشق.. يا كنز أحلامي ومروحتي
أشكو العروبة أم أشكو لك العربا

ويبقى السؤال الذي طرحه نزار، سؤالًا يصدح بالألم والدهشة: أشكو العروبة أم أشكو لكِ العربا؟

سلامًا يا دمشق، دار الفقهاء والعلماء والشعراء والأدباء. ودمت شامخة، نجمة الشام، وقاطرة الحضارة، وباب الأقصى الشريف، رمز العزة والعروبة.

المراجع:

– صالح جودت: ألحان مصرية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ص144.
– صقر القاسمي: الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الأول، القاهرة، 1982م، ص202.,
– نزار قباني: الأعمال السياسية، منشورات نزار قباني، بيروت، ص 82.
– التاريخ الكبير: ابن عساكر، مطبعة روضة الشام، 1329هـ.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *