مراكش – “تنبض الحياة بحركة دائمة في السوق الأسبوعي، كأن الزمن يأبى السكون، أصوات الباعة تتداخل مع نداءات النساء الباحثات عن الأفضل بأرخص الأثمان، ورائحة الخبز الطازج تختلط بدخان المشاوي المتصاعد، بينما الهواء يروي قصة اجتماع البساطة والكدح”.
هكذا يبدأ الأديب الشاب محمد لشهب نصا أدبيا قصيرا عن السوق الأسبوعي في المغرب، يكاد يلخص فيه ما يجول في خاطر كل مغربي عن هذا الفضاء المفعم بالحياة، والمليء بالدلالات الثقافية.
ويقول ل”الجزيرة نت”:
“حين نكتب عن هذا الفضاء، يشدنا الحنين إلى أيام الطفولة، ندون بحس مرهف ونرى الجمال في صخب السوق وفوضاه، حيث يصبح العادي مدهشا، والمألوف جديدا يستحق الاكتشاف”.
بينما يقول الأديب المغربي عبد الواحد كفيح ل”الجزيرة نت”: “إن السوق الأسبوعي بؤرة متقدة بكل ما يبهج الروح ويزرع البسمة على المحيا. نجد فيه كل مظاهر الحياة الاجتماعية الحيوية، المتسمة بالتواصل ومعرفة أحوال الأقارب والأباعد، كما أن الحلقة – بمفهومها الفرجوي – تعد ملاذا للكثير من الرواد، وخاصة حلقة الساحر أو الخداع، الذي كان يشد انتباهنا بخوارقه التي لا تنتهي”.

تمثلات
لا يعد انعقاد السوق الأسبوعي حدثا تجاريا واقتصاديا فحسب، فهو أيضا فضاء يعبر فيه المواطن البسيط عن تمثلاته وقضاياه، كما يعد مناسبة لاتصاله بالمؤسسات الإدارية، أو للاستشفاء أحيانا، ويمثل كذلك ذاكرة جماعية حية، ومكانا أصيلا للقاءات الاجتماعية التي تساهم في بناء النسيج المجتمعي وتعزز الانتماء.
ويرى الباحث في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا عمر الإيبوركي أن السوق الأسبوعي يحمل حمولة تاريخية وثقافية، لأنه يعد مركزا للتفاعل الاجتماعي بين فئات اجتماعية متنوعة تشمل ما هو قروي وحضري، وما هو تبادلي وطقوسي، وبالتالي فهو يعكس الذهنية المجتمعية السائدة.
ويبرز في حديثه لـ “الجزيرة نت” أن الدراسات، سواء الجغرافية أو التاريخية أو الأنثروبولوجية للسوق، تظهر طبيعة هذا المجتمع المركب نظرا لتعدد النشاطات والعقليات والفئات الجنسية والعمرية؛ ففيه تمارس الأنشطة التجارية، والأنشطة الترفيهية، والطقوس ذات الطبيعة المقدسة.
ويضيف:
“من وجهة نظر أنثروبولوجية، يعد السوق الأسبوعي نظاما من القيم والرموز، لأنه مجمع للتفاعل الاجتماعي، وهو مجال للمجتمع الشبكي العلاقي، يعتمد على علاقات تقليدية تطبعها القبلية والمعتقدات، وتسودها علاقات التضامن الميكانيكي، سواء على مستوى التعاملات الاقتصادية عن طريق الثقة والنية التي تحكم هذه التبادلات، أو عبر تبادل الرأسمال الرمزي قبل التبادل المادي”.

منبع إلهام
يشكل السوق الأسبوعي فضاء غنيا بالأحداث والعلاقات الاجتماعية المتنوعة والتقاليد المحلية، وبالتالي فهو منبع إلهام لعدد من الكتاب والمبدعين، بما يغني الكتابة الإبداعية وينقل القارئ إلى عوالم جديدة قد لا يشعر بها وهو يتجول عادة في سوق أسبوعي.
ونجد الأديب المغربي عبد الواحد كفيح مفتونا بالعوالم المدهشة في هذا الفضاء، وبما تمارسه عليه من إغراء وإغواء لاستغوار عوالمه الناطقة، واستنطاق الصامت منها، سواء في نصوص روايته “روائح مقاهي المكسيك” أو رواية “أتربة على أشجار الصبار”.
ويرى كفيح، في حديث ل”الجزيرة نت”، أن السوق الأسبوعي، بكل حمولته الدلالية، يبرز ما يبحث عنه كل كاتب لإظهار التناقضات والفروقات الاجتماعية، ورسم معالم حياة الطبقات المهمشة التي تناضل من أجل لقمة العيش. كما يعبر فيه عن التفاعل البشري والمشاعر الإنسانية الموسومة بالحب والتعايش أحيانا، وبالصراع والمنافسة مرات عديدة.

أما في نص (الباب الكبير) للأديب والناقد الحسين والمداني (حسام الدين نوالي)، من مجموعته القصصية (الطيف لا يشبه أحدا)، فيجد القارئ السوق الأسبوعي محورا للعمل القصصي، وليس جزءا منه فحسب، بما يجعل منه فضاء للهوية والذاكرة الجماعية، ومجالا للتفاعلات اللغوية والاجتماعية، لا باعتباره فقط مجالا للبيع والشراء والعرض.
ويضم النص الأدبي، من خلال شخصية السارق الهارب في القصة، انفعالات إنسانية عميقة، مثل الغضب والجوع والطمع والخوف، كمكون دال على التحول واللايقين، حيث تتقاطع فيه الألسن والثقافات ومصائر الشخصيات وتختبر فيه قراراتهم.

عمل ونقد
كما يثير السوق الأسبوعي اهتمام الكتاب، يجد فيه النقاد مادة غنية بالرموز والدلالات، وبالمعاني الثقافية بجميع تنظيراتها وتوجهاتها.
وينطلق الناقد الحسين والمداني من تصور أنثروبولوجي للسوق الأسبوعي باعتباره واجهة ثقافية يتشابك فيها الاقتصادي والهوياتي واللساني والاجتماعي والنفسي، وغير ذلك.
ويقول ل”الجزيرة نت” إن هذا الفضاء يتيح للمبدعين مداخل متعددة تتجاوز الخلفية المكانية المحايدة التي تتحرك فيها الشخصيات، ويتفاوت التقاطهم ومراكز اهتمامهم”.
ويشتغل المداني نفسه اشتغالا عميقا على مجتمع مغربي مصغر يثير سؤال الذاكرة الجماعية والرأسمال الثقافي، مقابل التدبير الرسمي للتهيئة المجالية الذي يقذف بنا إلى دائرة الاغتراب في أسواق حالية لا تكاد تشبهنا.
ويضيف المداني في حديثه: “لعل هاجس خلق معادل دلالي للواقع المغربي وتعقيداته وتفاعلاته، يفضي بي إلى اختيار شخصية السارق الهارب، بما يتيح الانتقال بين فضاءات السوق الأسبوعي، من الخضارين وبائعي الخردة والمقاهي الشعبية والكسابين وغيرهم، مع ما يرافق ذلك من الروائح العديدة والأصوات المختلطة والنداءات والموسيقى، فضلا عن التقاط اختلاف الثقافات والألسن والممارسات والاهتمامات، وكل هذا التركيب الكثيف تم نقله اعتمادا على تسارع الجمل المتجاورة، بحيث تتساوق مع اللهاث والجري والحركة والعنف”.
“بينما تسدل الشمس ستار النهار، يظل السوق الأسبوعي شاهدا على سيرة حياة، بسيطة كخبز أمي، عميقة كندبة على يد عجوز. هنا، حيث الفرح يباع على هيئة لحظة، والتعب يشتري حياة جديدة، تجد الحكايات التي لم ترو بعد مكانها بين أكياس الأعشاب ووجوه الناس. في السوق، لا أحد يعود كما جاء، حتى وإن لم يشتر شيئا”.
كما يختم لشهب نصه القصير، تاركا قارئه متلهفا لاكتشاف عوالم السوق الأسبوعي في المغرب في نصوص أخرى.