في عصر الهيمنة الثقافية والغزو الفكري الذي تمارسه القوى الكبرى جنبا إلى جنب مع هيمنتها السياسية وسيطرتها العسكرية، وما تعانيه شرائح من أبناء أمتنا من هزيمة حضارية وشعور بالدونية أمام هيمنة القوة؛ كلُّ ذلك أدى بدرجة ما إلى تضييع الهويّة وضياع الذات تحت ستار من شعارات الانفتاح الحضاري والاندماج اللغوي، لذلك غدا من الضروري تحديد الفروق بين الاندماج وبين الذوبان والانصهار حتى يستبين السبيل ويترشد الخطو في شعاب التغريب والتغييب.
بين الاندماج والانصهار اللغوي
يواجه كثير من الناس صعوبة في التفريق بين الاندماج اللغوي والانصهار اللغوي؛ أمّا الاندماج اللغوي فهو الاختلاط بأهل اللغة الثانية التي لا تمثل اللغة الأم للإنسان، والامتزاج بهم وبلغة البيئة التي يعيشون فيها، والانفتاح على اللغات الأخرى وما تحمله من منهجيات وأساليب تفكيرية، بدون التخلي عن اللغة الأم وما فيها من بناء عقلي وفكري، فالمقصود بالاندماج اللغوي ليس امتزاج المتعلم بالبيئة اللغوية حتى مرحلة التخلي عن ثقافته، أو هيمنة الثقافة الأخرى واستحكامها لديه حتى تغيب ملامح ثقافته وبيئته ولغته الأم، وإنما الهدف من الاندماج اللغوي هو الإفادة من المجتمع الجديد وتبادل التأثر والتأثير الإيجابي، لأنه مهما بلغ الامتزاج مداه، فلن يصبح المتعلم محكوما بالمطلق لثقافته الجديدة ولن يتخلى عن ثقافته لصالحها.
أمّا الانصهار اللغوي فهو تحول اللغة في عقول أبنائها من حالة صلبة إلى حالة سائلة سرعان ما تتبخر عن ألسنتهم لصالح اللغات الأخرى؛ لغات البيئات الجديدة التي يعيشون فيها، وبذا تذوب اللغة في المجتمع الجديد فتغيب شيئا فشيئا عن ألسنة أبنائها وثقافتهم حتى تغدو أثرا بعد عين. وتكمن خطورة الانصهار في الآخر المختلف بضياع ملامح الهوية، وحدوث لبس لدى الأجيال الناشئة لعدم قدرتهم على التمييز بين ما هو أصيل متجذر في مكونات هويتهم، وبين ما هو دخيل.
ويحدث كثيرا أن يخلط الكبار أيضا بين المفهومين، إذ تتسارع خطوات الاندماج للتخلص من ثقل الشعور بالغربة والانزواء والاختلاف البيّن عن الآخر، أي المضيف بوصفه ابن البيئة الجديدة الأصلي أو المجتمع المستضيف، لكن هذا التسارع يجب أن يكون مدروسا ومحكما، وإلا فإنه قد يوصل إلى الانصهار والذوبان في الآخر وضياع الذات وغيابها عن المشهد، ابتداء من اللغة مرورا بالثقافة وانتهاء بالدين والمعتقدات.
الهزيمة النفسية بوابة الذوبان والانصهار اللغوي
ولا يمكننا الحديث عن الذوبان والانصهار اللغوي بدون التعريج على الهزيمة النفسية التي يعيشها كثير من المغتربين والنازحين واللاجئين من أبناء شعوبنا العربية، وفي الوقت نفسه الشعور بتفوق الآخر والرغبة بالانصهار فيه لأنه الأكثر تقدما وتطورا. وترتفع حدة هذه المشكلة حين يتصاعد شعور المرء بالدونية أو التبعية، فيشعر بالخجل من استعمال لغته الأم ويحاول التنصل من أي انتماء لا يروق للآخر، فتجد بعض الشباب غدا يرسم صورة ذهنيّة للمثقف بأنه ذلك الذي يحرص على تمرير بعض المصطلحات والعبارات غير العربية في ثنايا حديثه، ولا يتحقق له وصف المثقف رفيع الفكر إلا بمقدار ما يذكر من كلمات ومصطلحات تزدان بالرطانة الأعجمية.
وهذه حال كثير من العرب والمسلمين في بلاد المهجر والنزوح مع الأسف الشديد، بل غدا حال شرائح من أبناء مجتمعاتنا في البيئات العربيّة التي يفترض أن تكون العربيّة فيها هي اللغة المهيمنة على الألسنة والعقول، وقد نسوغ ذلك في أحيان بالعنصرية التي يتعرض لها اللاجئون والمغتربون لمحض انتمائهم القومي أو الديني، إذ يحرص الآباء والأمهات على حماية أولادهم وحماية أنفسهم أيضا من الوقوع في مواقف عدوانية عنصرية، قد تصل إلى درجة التنمّر الذي لا يقوى المغترب على مجابهته وحده بدون حماية مجتمعية، فكيف إذا ما انتقل الأمر إلى الأطفال، فإنه سيغدو أصعب وأكثر تعقيدا، ومواجهته ستغدو مسؤولية أسرية ومجتمعية أيضا.
التّرياق المطلوب لمواجهة الانصهار والذّوبان اللغوي
إن أول خطوات معالجة هذا الشرخ هو اعتزاز العائلة والأهل بانتمائهم وهويتهم وعقيدتهم، فالأبناء يتقمصون شخصيات الآباء والأمهات ويُحاكونها بدون وعي منهم، وعلى الآباء والأمهات أن يسعوا إلى تجنيب الأبناء خوض مثل هذه المعارك المجتمعية وهم في عمر صغير، إذ لم يقو عودهم بعد لمواجهة الآخر وتفنيد ادّعاءاته أو عدم التأثر وعدم الاكتراث بتنمّره وأذيته. ويبقى هذا الكلام نظريا إلى حدٍّ بعيد، فسلطة المجتمع في أحيان كثيرة تفوق قدرة العائلة على مواجهته كما ينبغي.
ويجب أن نحدّث أبناءنا عن أهمية الانتماء واللغة والحفاظ على الهوية الخاصة، وعلينا أن نغرس في أذهانهم أن اللغة العربية ليست محض لغة للتواصل فحسب، فهي تستمد أهميتها من قدسية القرآن الكريم الذي نزل بها، فهي وثاقنا العقدي المتين الذي يربطنا بجميع المسلمين في أنحاء العالم، وهي رباطنا الوطني والقومي الأصيل.
وقد جاء في كتاب “المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام” للمؤرخ العراقي جواد علي: “عن عثمان المهري: أتانا ونحن في أذربيجان كتابٌ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه كُتِبَ فيه: تعلموا اللغة العربية فإنها تُثبِّت العقل وتزيد في المروءة”. فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي جنده وأصحاب في بيئة غير عربيّة بالحفاظ على اللغة العربيّة مبينا أثر اللغة في بناء الفكر وصياغة الأخلاق.
وكذلك لا بد من التخلص من فكرة الانبهار بالآخر، إذ يظن كثير من الناس لا سيما في الأوساط الشبابية أن الحديث باللغات الأجنبية، والإنكليزية على وجه التحديد كونها اللغة العالمية الأولى؛ يظنون أن ذلك دليل حضارة ورقي، وقد يكتفون بإدخال بعض الألفاظ منها في أثناء حديثهم باللغة العربية، ويبالغ بعضهم ويُغرق ويخرج عن الحق في القول إن اللغة العربية تقصر في أحيان عن التعبير عن المراد، ظنا منهم أن الرطانة بلغة أجنبية والاعتزاز بها يجعلهم ينتسبون إليها وإلى ما ترمز إليه زيفا من تقدّم وحضارة!
بين التقليد والاستلاب
لا بدّ من التمييز بين التقليد والانفتاح على المجتمعات المختلفة، إذ يمكن للمرء أن يعتز بنفسه وهويته لغةً وانتماء وعقيدة وتاريخا وثقافة وحضارة، ويكون في الوقت ذاته منفتحا على الآخر ومعطياته، ويمكن له أن يتعرف إلى الآخر ويتقبل منه ما يناسبه ويرفض ما يعتقد أنه لا يناسبه، ويكتسب ويعطي في دورة الحياة الطبيعية بين البشر، بدون المساس بجوهر الهوية والانتماء، فالتوازن ضروري والمحاكمات العقلية يجب أن تكون حاضرة، وإلا فإن التقليد الأعمى لن يوصل إلا إلى الذوبان في الآخر وانمحاء الذات وانصهارها.
إن شعور المرء بضعف الانتماء يولد شعورا سلبيا عاما في مواجهته للحياة، وقد ينتج عنه استلاب للآخر وانبهار به وولع بتقليده، فالشعور بضعف الانتماء وهشاشته يولد شعورا بالاغتراب عن الذات، إذ يشعر المرء كأنه اقتلع من جذوره ورمي في الهواء على غير هدى وحيدا ضعيفا، وينص قانون الحياة على أن ما يقتلع من جذوره آيلٌ في نهاية المطاف إلى الأفول والغياب والزوال.
ويخطئ كثير من الناس حين يظنون أن الانصهار بالآخر سيضمن لهم القبول، وستفتح لهم الأيدي مرحبة مهللة مستبشرة، لكن الأبتر الأقطع لا يحظى بالقبول، فالآخر ينتبه إلى صلابة انتماء الوافد أو هشاشته، ويعنيه أن يرى مدى تمسك القادم الجديد بهويته وجذوره، ومدى مرونته وتمسكه بجذوره وقابليته لاحتمال التخلي عنها بسهولة، فالمتخلي لا يحظى بالاحترام على المدى البعيد وإن تهيأ له ذلك في بادئ الأمر. والمتخلي عن جذوره يبقى هائما مكشوف الجانب، خفيفا تهوي به الريح بدون جذور تشده إليها لتؤويه وتحميه. كقصة الغراب والطاووس، وهي قصة شهيرة، فقد حاول الغراب تقليد مشية الطاووس، فلا استطاع أن يمشي مثله، ونسي كيف تمشي الغربان، فما عاد له مكان بين الطواويس ولا هو معدود في الغربان!
وفي هذا السياق لا بد لنا من الحديث عن مسؤولية الفرد ومسؤولية المجتمع تجاه هذا الشعور، أي لا بد من تفصيل الحديث والتفرقة بين مستويين اثنين، إذ يقع على عاتق الفرد أن يعزز روابطه الذاتية بهويته، ويقع على عاتق الشعوب والمجتمعات ألا تبتر الروابط الحضارية فيما بينها وألا تغالي في مدّ أواصر الاندماج فتبلغ حدَّ الانصهار، فتغدو أوطاننا بعيدة غريبة عنا، ونفقد في البعد عنها فضيلة الإسهام في بنائها وتطورها.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -رحمه الله- وقد كان رئيس لجنة تحقيق التراث الإسلامي في الكويت:
“من الأولويات لكل مسلم في الأرض، وللأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، أن تكون اللغة العربية هي لغتهم الأولى، مهما كانت اللغة التي نشؤوا عليها، وذلك أن اللسان العربي يرتبط بالإسلام ارتباطا عضويا، ولا ينفك عنه، فلا فهم حقيقيا للإسلام إلا بفهم وتعلم اللغة العربية، إذ هي لغة القرآن والسنة، ولغة أمهات الكتب في الدين الإسلامي، ومهما حاولنا ترجمة معاني القرآن ومعاني السنة إلى لغة أخرى، فإنها لا يمكن أن تقوم مقام العربية في معرفة إعجاز القرآن الكريم، ومرامي وفحوى الحديث النبوي، وحقائق العلوم الإسلامية، ثم إن تعلم اللغة العربية قد أصبح يعني الانتماء إلى أمة الإسلام بعد أن أصبحت العربية شعار الإسلام، ولغة القرآن. وتعليم ناشئة الإسلام اللغة العربية سيعطيهم المفاتيح لفهم القرآن والسنة، وأحكام الشريعة الإسلامية، وسيجعلهم بالضرورة أعضاء وأجزاء من الجسم الإسلامي”.
وقد أصاب الشّاعر اللبناني وديع عقل وصدق وهو يحذّرُ من الذوبان والانصهار اللغوي حين قال:
إنّ يوماً تُجرَح الضَّادُ به هو واللَه لكم يومُ الممَاتِ
أَيُّها العَربُ إذا ضاقَت بكم مُدنُ الشّرقِ لِهولِ العادِياتِ
فاحذرُوا أن تَخسرُوا الضّادَ وَلَو دَحرجُوكُم مَعها في الفَلَواتِ