نهض الشعر الشعبي بدور بارز في مسيرة أهل فلسطين، ورافق مسيرتهم وأحداث حياتهم، منطلقا من التحامه بحياة الجماعة، ومن قرب الشاعر الشعبي منها، وتعبيره عنها باستعمال اللهجة المحكية (العامية) التي تستعملها الجماعة في حياتها اليومية.
ووفق أهل الاختصاص يشمل “الشعر الشعبي العربي الفلسطيني كل الكلام المنظوم باللهجة العربية الفلسطينية الدارجة سواء كان على شكل أغان سعيدة أو حزينة أو على شكل قصائد يَعدّها الشعراء الشعبيون (أي إلقاء وفي حالات معينة يغنيها فرسان الربابة)”(1).
ونلاحظ في هذا التعريف تلازم الشعر الشعبي مع الغناء والأداء شبه الغنائي الذي يتلاءم مع شفاهية الشعر الشعبي، وطريقة إنتاجه وتلقّيه، وهو ما يذكرنا بارتباط الشعر العربي القديم بالغناء مما يظهر في قول حسان بن ثابت:
تغنّ بالشعر إما كنت قائلَه فإن الغناء لهذا الشعر مضمار
وقد حاول بعض الباحثين تحديد الفواصل بين الشعر والغناء، فجعل نمر سرحان “صاحب موسوعة الفلكلور الفلسطيني” لكل منهما مدخلا مستقلا، وذكر في سياق التمييز بين الشعر والغناء: أن “الغناء هو عملية تلحين الشعر، ومن أجل أن يكون هناك غناء لا بد أن يكون هناك شعر فكّر فيه الإنسان أو ألقاه أولا أو ردده أو كتبه على الورق، وأما القول بعفوية الغناء وأنه من تأليف الشعوب بمجموعها فهو قول غير صحيح، ولا بد لكل أغنية من مؤلّف قال أبياتها ومن الممكن أن يكون هذا المؤلف معلوما ومن الممكن أن يكون مجهولا”(2).
وفي مدخل الأغنية الشعبية عرّفها بأنها: “قصيدة غنائية يتداولها الناس في الوسط الشعبي ويتوارثونها في مناسباتهم الاجتماعية، وقد تكون هذه الأغنية مجهولة النشأة.. ومن الممكن أن يكون مؤلف الأغنية فردا معروفا أو رجلا مغمورا”(3).
وسرحان يقصد من كل هذا إبراز مكانة الشاعر الشعبي وعدم غيابه وراء التركيز على الأغنية والغناء، ويحتج بوجود شعراء شعبيين معروفين، كان لبعضهم كراسات ودواوين يلقون ويغنون أشعارهم منها، ولكن ذلك كله لا يبعد الشعر الشعبي عن الأغنية الشعبية، فهما حقا مجالان متداخلان يصعب فصلهما، خصوصا مع وجود سياق ثقافي ومجتمعي زاد من تداخلهما.
ومعظم الشعر الشعبي الفلسطيني ورد بصورة متلازمة مع الغناء والأداء، فضلا عن أن معظم الشعراء الشعبيين هم مغنون أو مؤدون يتقنون تقديم شعرهم وفق قوالبه الغنائية، وإن لم يمتلكوا هذه المهارة استعانوا بالمغنين والمجموعات الغنائية وشعراء الربابة ونحو ذلك من طرق الأداء.
الشعراء الشعبيون في فلسطين
حين نراجع مسيرة الشعر الشعبي في فلسطين نجد طائفة من قصائده ونماذجه قصائد شعبية مجهولة القائل، كما هو الحال في ظاهرة الشعر الشعبي في العالم العربي، ونجد طائفة أخرى تنتسب قصائدها إلى شعراء معروفين نسجوا شعرهم على أساليب الشعر الشعبي ووفق أوزانه وطرائقه وقوالبه.
وقد عدد أحد الباحثين أسماء 38 شاعرا شعبيا ممن ظهروا في القرن العشرين ينتمون إلى مختلف مناطق فلسطين وإلى المهاجر التي ارتحل إليها الفلسطينيون بعد النكبة، وهذا العدد يمثل من اشتهر من هؤلاء ولا يمثل إحصاء تاما للشعراء الشعبيين، ذلك أن العدد الحقيقي يصعب حصره؛ لكثرة الشعراء الشعبيين، وتفرّق بيئاتهم بسبب الشتات الذي لحق بالشعب الفلسطيني، ولاعتماد معظم الشعراء على المشافهة التي تعد وسيلة مؤقتة غير مأمونة في حفظ الشعر وروايته.
وإلى جانب الأسباب الموضوعية المألوفة في الأدب الشعبي لغياب المؤلف أو الشاعر، فإن في الحالة الفلسطينية أسبابا أخرى تتصل بتأليف بعض الشعراء قصائد وطنية وسياسية يحرصون على نشرها وإذاعتها دون ربطها بأسمائهم فما يهم هو وصول الرسالة لا معرفة المرسل والمنشئ، فضلا عن الخوف من رقابة السلطات السياسية وما قد يتعرض له الشاعر من تنكيل وعقاب. وهناك وقائع وحوادث كثيرة تؤكد ما تعرض له بعض الشعراء من سجن وملاحقة ومطاردة.
وذكر نمر سرحان أمثلة من هذه المواجهة بين الشاعر الشعبي وقوى الاحتلال: “في عام 1934 اعتقل بوليس الاحتلال البريطاني (بعض الشعراء الشعبيين) كما نكّلوا بالعديد من الشعراء الشعبيين من أمثال نوح إبراهيم وفرحان سلام وغيرهما. ومع بداية الاحتلال الصهيوني اختفى الشاعر الشعبي حميد من أم الفحم في ظروف غامضة لأنه كان يقول الشعر ضد الاحتلال ويحمس الجماهير باتجاه رفض الاحتلال ومقاومته. وتم استجواب محارب ذيب في عهد الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية وسجن ابناه.. وفي عام 1974 سجن الشاعر موسى حافظ موسى -وهو ابن لشاعر شعبي عريق- لمدة عام ومن ضمنها عشرون يوما في سجن انفرادي لأنه كان يقول الزجل الوطني في عنابر السجن”(5).
وتعد تجربة الشاعر نوح إبراهيم تجربة مؤسسة ورائدة في انتماء الشاعر الشعبي لحركة المقاومة، والتعبير الصادق عنها بألوان متنوعة من الشعر الوطني والسياسي، وباستعمال أساليب جادة وساخرة تهدف إلى مواجهة المحتل، وإلى إثارة الناس ضده، وإبراهيم أحد أبرز تلاميذ المجاهد الشيخ عز الدين القسام.
ويمكن أن نستنتج أن القسام أدرك قيمة الشعر الشعبي وقدراته في استنهاض الهمم، فوجّه تلميذه إلى توظيفه في المعركة مع قوى الانتداب والاحتلال البريطاني، ومن الأمثلة على ذلك قصيدة غنائية سائرة عرفت باسم (دبّرها يا مستر دلّ) “كتبها الشهيد نوح إبراهيم في ثلاثينيات القرن الماضي، خلال اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، والمستر دل هو القائد العام للجيش البريطاني خلال فترة الانتداب ويطالب فيها الشاعر بالاعتراف بحرية الشعب الفلسطيني واستقلاله ويندد بمحاولات قمع الثورة”(6).
الموروث الشعبي في إطار الوطن
يؤكد شريف كناعنة تزامن وتواكب الحركتين الفلكلورية والوطنية التحررية في فلسطين، ويرى أنه أيضا أمر معروف في تاريخ الحركات التحررية الوطنية والقومية، ومعنى هذا أن مفردات الثقافة الشعبية والتراث الشعبي تغدو رموزا ومفردات ذات صلة وثيقة بالهوية، وينقل عن علماء الفلكلور ما يؤكد ذلك(7).
وقد لاحظ عبد اللطيف البرغوثي أن “موضوع الوطن وما يتعلق به هو دائما من أبرز الموضوعات التي يعالجها الأدب الشعبي الفلسطيني، ولأن تاريخ الوطن الفلسطيني مليء بالأحداث المفجعة والنكبات والنكسات والثورات فإن الأدب الشعبي الفلسطيني -كغيره من آداب الشعوب الأخرى- يصور حياة شعبه ويعاصر أحداثها أولا بأول، لكن كونه أدبا يروى مشافهة فيعيش منه ما يجد له صدى في نفوس أكثرية الشعب، ويموت منه ما لا يجد مثل ذلك الصدى، جعل الكثير منه عرضة للضياع والنسيان، بسبب تغير ظروف الحياة وأحوال الناس”(8).
وقد لخّص البرغوثي أهم الموضوعات الوطنية التي ظهرت في الأدب الشعبي في ضوء متابعته وبحوثه الميدانية في ما يلي: “البكاء على أحداث النكبة ومآسيها والوطن المحتل، استذكار الانتصارات والأمجاد السابقة، ورثاء الشهداء، والافتخار بذلك كله، التعلق بآمال العودة، تذكر الديار والحنين إليها، لوم الدهر على غدره ومصائبه، [لوم] الحكام العرب واتهامهم بالتآمر مع الإمبريالية والصهيونية، الاعتداد بالنفس والاعتزاز بأمجاد الأمة العربية وبالانتماء لها، تهديد العدو الصهيوني ومن هم وراءه، التبشير بأن النصر قريب وبأن ليل الظلم سوف يجلوه عن وطننا فجر النصر والتحرير”(9).
الوطن والمقاومة في القوالب اللحنية والشعرية
يعرف نمر سرحان القالب اللحني بأنه: “تلك الصيغة من الوزن الموسيقي الذي بلور الشعب شكله النهائي ضمن عملية توارث طويلة، وعندما استقر ذلك الشكل الموسيقي ومع مرور الزمن أخذ الشعب يصب في ذلك القالب كلمات جديدة تخدم أغراضا حياتية مختلفة بحيث تؤدي الكلمات الجديدة عند غنائها نفس اللحن الأصلي، أو لحنا مشتقا منه”.(10)
وقد وجد الشعراء والمغنون ضالتهم في تلك القوالب المألوفة من ناحية أوزانها وألحانها، وسعوا إلى توظيفها وتجديدها من خلال تكييفها مع الموضوعات والهواجس الوطنية الجديدة التي وجدوا أنفسهم مطالبين بالتعبير عنها، في إطار تجربة الشعب الفلسطيني، وتلاحق الأحداث المرتبطة بمسيرته، ولذلك فمعظم ما يسمع الناس اليوم من هذه القوالب تمثل قصائد مغناة جديدة تعاون في وضعها شعراء ومغنون وملحنون ملتزمون بقضيتهم ومسيرة شعبهم، ولمعظم هذه القوالب أصول أولى يعرفها المتخصصون والمتتبعون لتاريخ الشعر والغناء في فلسطين.
ويمكن القول إن هذه القوالب قد غدت “موروثا” يمثل فيما يمثل جانبا من هوية الإنسان الفلسطيني بمجموعه، ولم تعد محصورة في بيئتها الأولى التي ولدت فيها، مثلما لم تعد محصورة في أغراضها واستعمالاتها الأولى، بل غدت قوالب وطنية جامعة، تعبر عن هموم الوطن والإنسان، ويمثل الحفاظ عليها والتفاعل معها لونا من ألوان التمسك ببعض رموز الهوية وتمثيلاتها الشعرية والغنائية.
وقد اتسع دور هذه القوالب الموروثة عندما وصلت إلى بعض شعراء الفصحى المهتمين بإحياء الموروث واستلهامه، فتأسست انطلاقا من هذا الاهتمام والوعي بالموروث الشعري الشعبي ظاهرة واسعة في الشعر الفلسطيني المعاصر هي ظاهرة توظيف الموروث الشعبي، ومن ضمنه الموروث الشعري والغنائي الذي يمثل ظاهرة فنية وموضوعية متماسكة مؤثرة في سياق تطور الشعر الفلسطيني المعاصر.
وعلى سبيل المثال فإننا واجدون أمثلة قوية على هذه الظاهرة في أشعار معظم شعراء فلسطين المعروفين من مثل: محمود درويش، سميح القاسم، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، محمد القيسي، فواز عيد، علي فودة، وليد سيف، توفيق زياد، خالد أبو خالد، مريد البرغوثي، محمد حسيب القاضي.. إلخ. وقد تناول العديد من النقاد والباحثين هذه الظاهرة بالدراسة والتحليل وما زالت تغريهم بمزيد من الاهتمام.
ويمكننا القول في ضوء قراءتنا للشعر الفلسطيني إن الشعر الشعبي والقوالب الغنائية والشعرية مورد عذب من موارده، وأحد نقاط قوته، وأسلوب رئيس من أساليب تعبيره عن الهوية وسعيه نحو الاختلاف والخصوصية، ويمثل ذلك لحظة مهمة من لحظات اللقاء بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح في سياق التجربة الفلسطينية.
وقد شهدت ستينيات القرن العشرين صعود المقاومة الفلسطينية وتشكل المنظمات المختلفة التي تباينت مشاربها الفكرية ولكنها اتفقت على التوجه الثوري وعلى العمل من أجل تحرير فلسطين، وفي مقدمتها (فتح) حركة تحرير فلسطين، والحركات الأخرى التي انضوت لاحقا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. وقد أسهم في ذلك الشعر والأدب بعامة من خلال التعبير عن ثقافة المقاومة وتعزيز معنويات الإنسان الفلسطيني سواء أكان مقاوما أم إنسانا أم عائلة تمد المقاومة بأبنائها وبناتها.
وفي هذه المرحلة نشأت أو استجدت أحوال جديدة منها ظهور الفرق الفنية الوطنية التي دعمتها الحركات الوطنية لإدراكها لدورها في تعزيز المقاومة ونشر ثقافتها، ومواجهة ثقافة الهزيمة والانكسار، وفي ظل هذه الفرق تزايدت الحاجة إلى الشعر المحكي والشعبي المغنى.
وتعاونت هذه الفرق مع شعراء معروفين سواء من شعراء العامية أو الفصحى الذين لم يتوانوا عن كتابة أشعار بالمحكية الفلسطينية، تلبي حاجة هذه الفرق وتعبر عن الحركات الوطنية التي تنطق بلسانها. فالفرقة المركزية الفلسطينية التي تشكّلت في القاهرة وكانت عماد إذاعة العاصفة وإذاعة فلسطين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين استعانت بأبي الصادق (صلاح الدين) الحسيني وبمحمد حسيب القاضي، وبغير هؤلاء، في إنتاج أغانيها الجديدة.
ونشأت فرقة العاشقين المعروفة نحو عام 1977 في ظل رعاية دائرة الثقافة في منظمة التحرير وباهتمام مباشر من المرحوم عبد الله الحوراني مدير دائرة الثقافة آنذاك، وكتب عددا واسعا من أشعارها وأغانيها الشاعر أحمد دحبور وهو شاعر معروف في مجال الشعر الفلسطيني الحديث بصورته الفصيحة.
وكذلك فعل الشاعر خالد أبو خالد مع فرقة الجذور التي تشكلت امتدادا لفرقة العاشقين في دمشق. فهؤلاء الشعراء ليسوا شعراء شعبيين لكنهم أفادوا من الشعر الشعبي وحاولوا تطويع مواهبهم وقدراتهم الشعرية لكتابة شعر غنائي حديث باللهجات المحكية، وكثير منه يفيد من القوالب الموروثة للشعر والغناء الفلسطيني، بهدف تطوير الأغنية المقاومة والشعر المقاوم بأسلوب قريب من الذائقة العامة، ويمكن اعتبار هذه الظاهرة أحد تجليات أدب المقاومة الذي اشتهرت صورته في الشعر الفصيح، وركزت الدراسات على نماذجه المكتوبة باللغة العربية الفصيحة دون المحكية.
المراجع:
[1] البرغوثي، عبد اللطيف، ديوان العتابا الفلسطيني، ط1، مركز الوثائق والأبحاث، جامعة بير زيت، فلسطين، 1986، ص48.
[2] سرحان، نمر، موسوعة الفلكلور الفلسطيني، ط2، دائرة الثقافة والفنون، عمان، 1989.القسم الثاني، ص316-317 (مدخل: الشعر الشعبي).
[3] سرحان، نمر، موسوعة الفلكلور الفلسطيني، القسم الأول، ص52 (مدخل الأغنية الشعبية).
[4] انظر: مرشود، لطفي حسن: الشاعر الشعبي الفلسطيني محارب ذيب حياته وشعره، رسالة ماجستير، إشراف إحسان الديك، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين، 2004، ص22-25.
[5] سرحان، نمر، الفنون الشعبية في الأرض المحتلة، افتتاحية مجلة الفنون الشعبية، دائرة الثقافة والفنون، عمان، ع12، نوفمبر/تشرين الثاني 1976، ص3.
[6] موسوعة الثقافة الفلسطينية قبل النكبة، وزارة الثقافة، فلسطين، 2022، ص179. وانظر الكتاب الممتاز الذي وضعه نمر حجاب عن الشاعر، معتمدا على شهادات ميدانية حية ومقابلات مع مجايلي الشاعر ومعارفه وجيرانه، إضافة إلى جمع أشعاره وتحقيقها: حجاب، نمر، الشاعر الشعبي نوح إبراهيم، دار اليازوري، عمان، 2006.
[7] كناعنة، شريف، دراسات في الثقافة والتراث والهوية، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله، فلسطين، 2011، ص142.
[8] البرغوثي، عبد اللطيف، الأغاني الشعبية المناضلة فلسطين في أغانيها حتى بعيد نكبة 1948-دراسة ميدانية، عالم الفكر، مج18، ع2، 1987، ص600. وانظر: البرغوثي، عبد اللطيف، أغاني فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، مجلة بيادر، ع6، صيف 1991، دائرة الثقافة، منظمة التحرير الفلسطينية، تونس ص90.
[9] البرغوثي، عبد اللطيف، أغاني فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، مجلة بيادر، ع6، صيف 1991، دائرة الثقافة، منظمة التحرير الفلسطينية، تونس ص92.
[10] سرحان، نمر، من القوالب اللحنية الشعبية، مجلة الفنون الشعبية، دائرة الثقافة والفنون، عمان، ع12، نوفمبر/تشرين الثاني 1976، ص58.