صدر حديثا بالمغرب كتاب “الإغراء الأخير للغرب.. تداعيات الحرب على غزة” للمفكر والمؤرخ المغربي حسن أوريد، وهو عبارة عن “أوراق تسعى إلى أن تمسك بتلابيب مرحلة مفصلية، بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وشهادة تتوخى أن تكون إبانة”، كما يقول المؤلف.
ينقل الكاتب المغربي لقراءه “صرخة مظلوم دفع إليها دفعا، وأنة جريح لا تسمع أنته، إذ يستفيق العالم على جرح نسيه أو تناساه، ألا وهو وضع الشعب الفلسطيني وحقه في العيش والتحرر”، بادءا باستهلال يصف فيه ما وقع في “طوفان الأقصى”.
ثم يذكر فقدان الغرب لإغرائه، وسلوكه الكيل بمكيالين، قبل أن يسائل الغرب عن مسؤوليته في كل ما يجري من قتل ودمار، مظهرا في مقابل ذلك كيف يصطف أحرار العالم إلى جانب الحق، كما وصفه.
يعتبر الكاتب ما جرى في غزة تطهيرا عرقيا وإبادة جماعية، لكنه أيضا بمثابة حدث مزلزل، سيغير معالم المنطقة والثقافة السياسية بها، مشيرا إلى أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول أوقف قطاع التطبيع، وأسقط الأساطير المؤسسة لدولة الاحتلال من قبيل “واحة الديمقراطية” و”الجيش الذي لا يقهر”.
ويقول أن صفحات كتابه “ليست مجرد استحضار فصول مريعة لتقتيل شعب لم يسبق أن جرى في التاريخ على مرأى من العالم. أثبتت الصورة في الزمن صفر ما يجري من تقتيل وتدمير، ولذلك لا يصح لأي أن يقول إنني لم أكن أعرف. الصمت والتجاهل، هو تواطؤ في الجريمة، بل مشاركة. وفي أدنى درجة خذلان وهوان”.
في هذا الحوار، يضيء الكاتب جوانب أخرى من كتابه، الذي تناول فيه أيضا ارتدادات صدع غزة على المثقفين، ودور فرنسا في ما يجري، ومستقبل التطبيع مع الاحتلال، وفي ما يلي نص الحوار:
-
بداية، هل يعتبر كتابكم الأخير “صرخة مثقف” أمام الصمت العالمي تجاه ما يجري في غزة؟
لا أظن ذلك، لأن الضمير العالمي عبّر عن شجبه لهذا العدوان، ليس فقط من خلال الكتابات، ولكن أيضا من خلال المواقف والمظاهرات، فلا يمكن أن يُختزل هذا العمل في كونه صرخة. هناك أحرار في العالم عبروا عن شجبهم للعدوان وانصاعوا للحق، بغض النظر عن كل اعتبارات ذاتية أو ثقافية، غلّبوا الحقيقة.
لذا، الكتاب ليس صرخة، ولكنه رصد للأحداث وهي تجري، والتفاعل معها. صحيح أن ذلك من عمل الصحفي، ولكن الكاتب كذلك يمكن أن يقوم برصد ما يعتمل؛ أولا لكيلا ننسى، وثانيا لأننا بصدد حدث مزلزل سوف يغير ما دأبنا عليه، وعلينا أن نقف عليه وهو في طور الاعتمال.
الوضع الجديد يسائل القيم الغربية ومدى عالميتها، ومن شأنه أن يفقد ما كان يتمتع به الغرب من إغراء
-
عنونتم الكتاب بـ”الإغراء الأخير للغرب.. تداعيات الحرب على غزة”، بما يعنيه فقدانه قيم الإنسان المثلى، ما المؤشرات الواضحة لهذا الحكم؟
مارس الغرب إغراء، كانت له جاذبية دوما، ليس فقط من حيث إمكاناته التقنية والمادية والعسكرية، ولكن لحمولته الأيديولوجية وقيمه المروج لها، التي اعتبرت قيما كونية.
علاوة على ذلك، كان الغرب يمارس نوعا من الإملاء، وما اعتبر لفترة نوعا من الشرطية، بمعنى إذا أرادت دول أن تستفيد من علاقات معينة من الغرب، يجب أن تأخذ بالديمقراطية وحقوق الإنسان. ذلك أن الفكرة الثاوية وراء هذا الطرح، هي أنها قيم كونية.
لكن حينما يتحول تعامل الغرب إلى تمييز واختزال أو الكيل بمكيالين، هذا ما يضع هذه القيم موضع تساؤل، بطبيعة الحال. فأن تقول إنك نصير الحق، فينبغي أن تكون نصيره في كل الظروف، وأن تزعم بأنك تدعم المظلومين، فيجب أن تقوم بذلك حيثما كانوا، ولكن حينما يتغير موقفك وفق الحالات، فمن العسير الزعم أنك تأخذ بقيم كونية. تشجب الحرب على أوكرانيا، وتصمت عن الحرب على غزة. الوضع الجديد يسائل القيم الغربية ومدى عالميتها، ومن شأنه أن يفقد ما كان يتمتع به الغرب من إغراء.
كان موقف فلسطين طبعا حينها ضعيفا بالنظر إلى أن قطار التطبيع كان يتحرك. الآن على الساحة الدولية وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي، القضية الفلسطينية حاضرة، وقد عدنا إلى الأبجديات الأولى، وهي أن هذه القضية هي جوهر الصراع في المنطقة
-
لو لم يكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلى أين كانت تتجه القضية الفلسطينية؟ أو بعبارة أخرى كيف أنقذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول القضية من النسيان وتعوّد الاحتلال؟
بخصوص القضية الفلسطينية، لا جدال أن ما سمي بـ”اتفاق أبراهام” كان يتجاوز القضية، إن لم نقل إنه كان يلتف عليها، وبتعبير آخر، اللامنطوق هو أنه يمكن إقامة إسرائيل لعلاقات طبيعية مع محيطها، من دون الحاجة إلى حل القضية الفلسطينية. وعلى مر التاريخ، سيتم تناسيها في نهاية المطاف، مع إجراء نوع من الإغراء المادي، أو صفقة، مثل صفقة تجارية. هكذا، بتبسيط واختزال. وكان موقف فلسطين طبعا حينها ضعيفا بالنظر إلى أن قطار التطبيع كان يتحرك.
الآن على الساحة الدولية وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي، القضية الفلسطينية حاضرة، وقد عدنا إلى الأبجديات الأولى، وهي أن هذه القضية هي جوهر الصراع في المنطقة، إذ سيكون الإنسان أعمى إذا لم ينظر إلى هذه الحقيقة، هذا معطى موضوعي.
الانتصارات في الحروب ليست بالضرورة أن تكون انتصارا عسكريا؛ هناك انتصارات عسكرية هي هزائم إستراتيجية. إسرائيل الآن “ستنتصر” تكتيكيا، لكن ستنهزم إستراتيجيا، والمقولة ليست لي، ولكن للولايات المتحدة الأمريكية. هذا، وهي أطول حرب تخوضها إسرائيل
فقدت “إسرائيل” بعض أساطيرها المؤسِسة كما جاء في كتابكم من قبيل:
– “المظلومية والريع التاريخي”
– ” الجيش الذي لا يقهر”
– “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”
-
ماذا يعني ذلك لمستقبل الاحتلال؟
في ثنايا الكتاب، ذكرت أن هذه الأساطير من الركائز الأساسية لقيام إسرائيل، بصفتها قوة عسكرية ضارية وكانت تسمى بـ”الجيش الذي لا يقهر”، وانتصر جيشها في معاركة حاسمة.
الآن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اهتزت هذه القاعدة، والحال أن الصراع لم يكن مع قوى نظامية، ولكن مع حركة حققت اختراقا، وطبعا يكفي فقط أن نشير إلى التجييش والتعبئة التي عبرت عنها الدول الغربية، بما في ذلك تحريك الأسطول السابع، لأنه اعتبر أن هناك خطرا وجوديا وشيكا يتهدد إسرائيل، كان لإسرائيل التميز استخباراتيا وإستراتيجيا، بحكم المظلة الأميركية.
الانتصارات في الحروب ليست بالضرورة أن تكون انتصارا عسكريا؛ هناك انتصارات عسكرية هي هزائم إستراتيجية. إسرائيل الآن “ستنتصر” تكتيكيا، لكن ستنهزم إستراتيجيا، والمقولة ليست لي، ولكن للولايات المتحدة الأمريكية. هذا، وهي أطول حرب تخوضها إسرائيل.
ثانيا، غاية وجود إسرائيل أنها كانت تعتبر وطنا آمنا لليهود الذين تعرضوا لكل أشكال الظلم في أوروبا، ومنها المحرقة، والآن عقرب المظلومية انتقل من وجهة غربية، لفائدة الفلسطينيين، لا أتحدث عن العرب والمسلمين أو دول العالم الثالث. الفلسطينيون هم المظلومون من وجهة نظر العالم وأحرار العالم، وهم من يتعرض لإبادة جماعية. ريع المظلومية الذي كانت تستفيد منه إسرائيل اهتز. وهذا مسار بدأ سيعسر على إسرائيل أن تغير منه.
ثالثا، كانت إسرائيل تُسوِّق لنفسها باعتبارها واحة للديمقراطية أو الواحة الوحيدة في الشرق الأوسط، فحين لا تأخذ دولة بالرأي العام لمواطنيها، وتستهزئ بكل الحركات التي كانت تنادي بوقف إطلاق النار وفك الأسرى، فهي لم تعد ديمقراطية، هذا فضلا عن النزوع الفاشي للحكومة اليمينية الذي يجافي التوجه الديمقراطي لما عرضت له في كتابي، ويرتبط بالجذور الفاشية لفلاديمير جابوتنسكي.
يخون الغرب قيمه أو يعرضها للاهتزاز، فكيف يستطيع أن يحمل العالم على الإيمان بهذه القيم التي يزعم أنها كونية، وهو مذبذب، وعاجز، يقول بالشيء ونقيضه. الغرب أمام امتحان إبستمولوجي،
والحضارات لا تنهزم عسكريا، تنهزم إبستمولوجيا، أي حينما تخون قيمها، وتفقد تلك القيم بريقها
-
ماذا يخسر الغرب في اصطفافه التام مع دولة الاحتلال، ورواياتها عن الحرب؟
يخون الغرب قيمه أو يعرضها للاهتزاز، فكيف يستطيع أن يحمل العالم على الإيمان بهذه القيم التي يزعم أنها كونية، وهو مذبذب، وعاجز، يقول بالشيء ونقيضه. الغرب أمام امتحان إبستمولوجي، فإما أن يقول إن قيمه كونية ولا يمكن أن يسكت عن التقتيل الذي يلحق المدنيين بالأساس، إذ إن الغالبية من ضحايا الحرب هم الأطفال والنساء، وإلا سينصاع إلى ما تمليه عليه مصالحه دون قدرة على الاستمرار في تسويق هذه القيم بكونها كونية. والحضارات لا تنهزم عسكريا، تنهزم إبستمولوجيا، أي حينما تخون قيمها، وتفقد تلك القيم بريقها.
-
بخصوص قطار التطبيع، هل توقف فعلا، أم له إمكانية استئناف السير بعد الحرب؟
لا بد أن نشير إلى أن قطار التطبيع الآن في أزمة، فالسياق تغير؛ هناك دول مرتبطة باتفاقات بصفتها دول الجوار، مثل مصر والأردن، وهناك موجة ثانية في إطار ما يسمى “اتفاق أبراهام”، لكن هناك شرخا بين الحكومات والمجتمع، على الأقل بالنسبة لبعض الدول مثل المغرب والسودان، فلا يمكنني أن أتحدث عن بعض الدول الخليجية، وعلى كل حال، وعلى افتراض استمراريته (قطار التطبيع)، فسيكون في أحسن الأحوال عبارة عن سلم “بارد”.
-
يُعرف عن الباحث جون بيير فيليو كتاباته الرصينة عن العالم العربي، إذ ألف كتابا عن غزة قبل 10 سنوات ونيف لم يفقد راهنتيه، وألقى سلسلة محاضرات في المغرب في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتقيتم به خلال ذلك، كيف رأيتم دعوته إلى الحوار بين عقلاء الضفتين؟
أنا سعيد لاكتشاف هذا الباحث من قِبل القارئ العربي، فله مقاربة رصينة وموقف متوازن، إذ يرى أن هناك تاريخا مشتركا بين العالم العربي وفرنسا، بدأ منذ نابليون وأن فرنسا قدحت النهضة العربية، ورعت بالأساس الاتجاهات التنويرية، واستمر هذا التقليد حتى مع الجمهورية الخامسة مع ديغول، إلى شيراك.
هذه السياسة العربية انتهت في فرنسا مع ساركوزي؛ لم تعد لها سياسة متمايزة بخصوص الشرق الأوسط، واعتُبرت ذيلية تابعة للولايات المتحدة الأميركية. والسؤال أصبح مطروحا على فرنسا، هل يمكنها الآن أن تستعيد تقليدها “الديغولي” ومكانتها الدولية، أولا لمصلحة فرنسا.
فيليو وجملة من الباحثين يريدون أن تتغير سياسة فرنسا العربية، وأن تصبح متمايزة، لترتبط بالتقليد القديم ولا تبقى تابعة للولايات المتحدة. وكما قلت في كتابي، إن السياسة الخارجية هي استمرار للسياسة الداخلية، فلا يمكن لفرنسا أن تضطلع بدور وهي تستمر في سياسة تفتيشية حيال المسلمين، مكرسة للإسلاموفوبيا، لذلك يجب أن تعيد النظر في صحيفتها، بالتعبير الفرنسي، إذا أرادت أن تكون لها سياسة متمايزة، لصالحها أولا، وربما خدمة للأمن والاستقرار، فالولايات المتحدة فقدت الرصيد المعنوي والأخلاقي بانصياعها لطرف ضد طرف آخر.
دور المثقفين في هذه المحطات مهم جدا، فالمثقف ليس مجرد خبير، ولكن يعبر عن ضمير، فهناك حالات لا يمكن للمثقف أن يبقى في نوع من الضبابية والغموض، فالتعبير عن الموقف يصبح فرض عين
-
في نظركم، ما ارتدادات أحداث غزة على المثقفين العرب والأجانب؟
إن دور المثقفين في هذه المحطات مهم جدا، فالمثقف ليس مجرد خبير، ولكن يعبر عن ضمير، فهناك حالات لا يمكن للمثقف أن يبقى في نوع من الضبابية والغموض، فالتعبير عن الموقف يصبح فرض عين. هذا من الناحية المبدئية. من اللافت أن هناك بعض الأسماء المشهورة فضلت الصمت، وهذا أمر يساءل، مثلما أن أسماء أخرى عبرت عما ينبغي أن تضطلع به بوصفها حاملة ضمير.
هناك صراع بين الحق والباطل، فالأمم المتحدة إذا كانت ضميرا كونيا، وكانت غايتها تحقيق واستثبات السلام في العالم، ينبغي أن تنصاع للحق، وهذا ما عبرت عنه منظمات تتحلق حول الأمم المتحدة، وتعرضت للقصف الإعلامي، بل للقصف الناري
-
استقال مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بنيويورك السيد كريغ مخيبر من منصبه لما اعتبرها إبادة جماعية تجري أمام أعين الجميع، ما دلالة ذلك؟
المسألة ليست مرتبطة بنوع من الحرب الحضارية أو الشرخ الحضاري. هناك صراع بين الحق والباطل، فالأمم المتحدة إذا كانت ضميرا كونيا، وكانت غايتها تحقيق واستثبات السلام في العالم، ينبغي أن تنصاع للحق، وهذا ما عبرت عنه منظمات تتحلق حول الأمم المتحدة، وتعرضت للقصف الإعلامي، بل للقصف الناري.
المسألة ليست ثقافية أو حضارية، ولكن كما قلت بين الحق والباطل. مصطلحات مثل جرائم حرب وإبادة جماعية كانت تمنع في القنوات التلفزية الغربية. يحسب للأمم المتحدة ووكالتها وموظفيها أنها وقفت إلى جانب الحق، ولكن ينبغي أن نقر بعجز الأمم المتحدة، وإفشالها بسلاح الفيتو (حق النقض) الأميركي، الذي عطل قرارات كانت تنادي بوقف العدوان.
إن خاتمة هذا الحوار مناسبة لطرح سؤال حول الميكانيزمات المدبرة للمنتظم الدولي، هل الأمم المتحدة بالشكل الذي هي عليه ضمير كوني وإحدى الوسائل لتحقيق الأمن والسلام في العالم. سنستيقظ على أسئلة عدة بعد أن تضع الحرب أوزارها. نحن على مشارف حدث مزلزل في العلاقات الدولية.