المسرح أبا للفنون.. فلسفة التمرد في “مجنون” توفيق الجبالي

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 10 دقيقة للقراءة

باريس – في تأصيل للمسرح كأب للفنون كونه يجمع العديد منها، انطلق المخرج المسرحي التونسي توفيق الجبالي ليمزج بين التراتيل اللاهوتية والميثولوجيا (الأسطورة) الإغريقية وقصائد “الكوميديا الإلهية” لدانتي أليغري، إلى جانب التراجيديا الشكسبيرية، في مسرحيته “المجنون” التي قدمها نهاية الأسبوع في سلسلة عروض في دار تونس بباريس، ليجعل منها عنوانا للأعمال الإبداعية والمسرحية المتفردة التي تنهل من النصوص الفلسفية الشعرية الكبرى القائمة على التمرد والانعتاق والاختلاف.

المسرحية المقتبسة من النص الخالد “المجنون” للشاعر اللبناني جبران خليل جبران -الذي كتب بالإنجليزية بداية القرن الماضي (1918) وترجمه إلى العربية أنطونيوس بشير- تلبّس وتوحد فيها الجبالي بنص جبران الخالد يقينا منه أنه ليس هناك أبلغ من هذه الأيقونة الإبداعية وهذا الصوت الروحاني والشعري والفلسفي والصوفي القادم من عالم “الجوهر الصعّاد”، لكي يستحضره معبرا آنيا عن اغتراب عالم اليوم ووحشته وعنفه وتيهه.

ولذلك برر الجبالي عودة هذا العمل -الذي قدم أول مرة سنة 2001- في تقديمه للمسرحية، بالقول: “لماذا نعيد تقديم هذا العمل بعد أكثر من 20 سنة على إنتاجه، لأننا بحاجة إلى صوت يدعو لنا بالإنسانية، يدعو لنا بالرحمة، إلى صوت يطغى على أصوات التسلط والإقصاء والجبروت.. صوت روحاني”.

فلسفة التمرد والانعتاق

هادئا يبدأ الإيقاع في فضاء مسرحي يموج بين السواد والبياض، وسرعان ما نسمع صوتا من وراء الحجب يردد أحجية الحياة “جئت لأقولَ كلمةً وسأقولُها.. وإذا أرجعني الموتُ قبل أن ألفظَها يقولها الغد”، قبل أن ينبلج فجر الحكاية والولادة بقراءات لـ3 ممثلات (آمال العويني، أمينة البديري، ياسمين الديماسي) غارقات في الظلمة باحثات عن الضوء والحقيقة، طارحات لأسئلة فلسفية مضمخة بالتأمل والحكمة ومتعطرة بضحكاتهن وحركاتهن المدروسة على الركح.

وسرعان ما تتطور الحبكة والحركة ويشتد الإيقاع بدخول الممثل مروان الروين راقصا على حبل الموسيقى منتشيا بوهج البدايات، سابحا بين بحر من الظلمات ولعبة الإضاءة المتناقضة، ولكنه مسكون بالغموض والتحول من لوحة إلى أخرى ومنزوع الشخصية والإرادة بالقناع الذي يلبسه له المخرج توفيق الجبالي في كل ظهور على الخشبة.

هي الحياة بأقنعتها وتناقضاتها المتعددة بين النور والظلام وبين الخير والشر وبين الفرح والحزن وبين الأمل واليأس وبين الإيمان والكفر وبين الجمال والقبح.

الجمال الذي تحول إلى قبح والقبح الذي تحول إلى جمال في عالم مقنّع متناقض مقلوب يمشي على رأسه، يكتشفه المشاهد بلعبة الصوت من وراء الستار الذي يعود ليقص عليهم هذا التحول العجيب: “تلاقى الجمال والقبح ذات يوم على شاطئ البحر، فقال كل منهما للآخر هل لك أن تسبح؟ ثم خلعا ملابسهما، وخاضا العباب. وبعد برهة عاد القبح إلى الشاطئ وارتدى ثياب الجمال، ومضى في سبيله. وجاء الجمال أيضاً من البحر، ولم يجد لباسه، وخجل كل الخجل أن يكون عارياً، ولذلك لبس رداء القبح، ومضى في سبيله. ومنذ ذلك اليوم والرجال والنساء يخطئون كلما تلاقوا في معرفة بعضهم البعض. غير أن هناك نفراً ممن يتفرسون في وجه الجمال، ويعرفونه رغم ثيابه، وثمة نفر يعرفون وجه القبح، والثوب الذي يلبسه لا يخفيه عن أعينهم”.

تتدفق التأملات والقصص والحكم الفلسفية والفواصل الشعرية المقتبسة عن النص الأصلي لجبران، بسلاسة تارة بأفواه الممثلين وتارة أخرى في خلفية الشاشة الحائطية وطورا بأصوات مستعادة تأتي من بعيد، فتعطي كلها للعرض عمقا آخر بين السطور وتدفع المشاهد إلى أقاصي الحلم لاكتشاف ذاته المتشظية المتوترة الخائفة الحزينة والفرحة والحالمة والراقصة والمغنية والمجنونة ولا ريب.

ليعرف المشاهد منذ البداية أنه أمام عمل يبشر بفلسفة الاختلاف، ونص يحفر في الوعي القطيعي ويحاول الخروج عن المألوف بطرح الأسئلة الكبرى دون خوف أو مكابرة، لكن هذه الأسئلة وهذا الحفر لا يتم إلا بروح فنية فلسفية ساخرة وعميقة في آن واحد، تبشر بالأمل وتحض على التمرد رغم كل تناقضات الواقع، فضلا عن السينوغرافيا الناجحة للمخرج توفيق الجبالي وحاتم الفرشيشي، وتصميم وتطريز المشاهد بمؤثرات ركحية متنوعة مثل تقنية خيال الظل.

وبالموازاة مع كل ذلك، يقرأ المشاهد على الشاشة في الخلفية هذه التميمة التي ستحرضه وترافقه خلال كامل ردهات المسرحية “روح الفيلسوف في عقله..روح الشاعر في قلبه.. روح الفنان في صوته.. وروح الراقص في جسده”.

نص داخل النص

لعل الأجواء الفلسفية الروحية في هذا العمل المسرحي الإبداعي المتميز تجسدت عبر اللوحات والرقصات والإضاءة والديكور والكلمات ولكنها ظهرت إلى العيان أشد ما يكون وبلغت ذروتها مع الموسيقى السحرية العذبة للفنانين الإيراني زكير حسين والتونسي نجيب الشرادي، التي تراوح بين الحلم والتوتر وتزاوج بين القصائد والتأملات الحكمية.

موسيقى ومعزوفات خدرت الجمهور واخترقت جسده وطارت بنشوته إلى عالم الماورائيات وسماوات الحلم، موسيقى عبرت عن فيضان أنهار الروح وحشرجتها حين عانقت عالم السرمد فاستحالت صورا وضوءا ونصا غير منطوق داخل النص، إنها القيم الإنسانية الفلسفية الكبرى لكتابات جبران معزوفة ومسكوبة في أوتار ولوحات وإبداعات المخرج المتفرد توفيق الجبالي.

المخرج-المسرحي-توفيق-الجبالي-في-القدس

تزاوج الفنون وتواشج المسرح والأدب والشعر والفلسفة والرسم والغناء والموسيقى والرقص في هذا العمل الإبداعي غير المصنف يشرع للحيرة التي تنتاب المشاهدين وتساؤلهم: هل نحن أمام ديكور حقيقي وشخصيات حقيقية متحركة وكاتب نص محترف ومخرج بعينه، أم نحن أمام فوضى بصرية وحسية وركحية وأمواج من الأفكار المتلاطمة المجنونة تقطع مع مسلماتنا البديهية وتحاول إخراجنا من كهوف البداهة الخادعة، تهدم لتبني وتردم لتحفر، عميقا في لا وعينا؟

في تأصيل للدور الجوهري للمسرح والفنون والإبداع والعبقرية والجنون، كطرق للخلاص الإنساني من الجواب النهائي، والحقيقة الكاملة، ومرفأ الوصول والهوية المنغلقة والإنسان السوي، لذلك يصرخ الصوت مجددا من وراء الستار بكلمات جبران:

” كتبت في الجزر على الرمل سطرا
فلم أجد في الشواطئ سوى جهلي

كَتَبتُ في الجَزرِ سَطراً عَلى الرَّمل
أَودَعتَهُ كُلَّ رُوحي مَعَ العَقل

وَعدتُ في المَد أَقرا وَأَستَجلي
فَلَم أَجد في الشَّواطي سِوى جَهلي”

حفر في أغوار النفس

هي توليفة فنية مسرحية فلسفية إنسانية قائمة على خلخلة المسلمات والوثوقيات والحفر بعمق في أغوار النفس البشرية المتقلبة، مسرحية تدعو المشاهد للتأمل في أحجية الحياة العجيبة بعيدا عن الشعارات والخطابات الأيديولوجية المباشرة، لتجلو عنه غبار الواقع المادي المتكلس وتدخله في فلسفة الشك وتحفزه على التفكير، وعلى مصارعة الذات ومكابدة إغوائها والتغلب على أهوائها وكسر طوقها والثورة على خنوعها ودغمائيتها، تبشيرا بفلسفة الاختلاف.

يرتفع صوت الجوقة وينخفض من وراء الستار بتوالي اللوحات وتوالد الأفكار وبحيلة تكنولوجية بسيطة من المخرج يتضخم الصوت ويتلوى ويبتعد ويقترب ويختنق ويتوضح ويحزن ويفرح ويقهقه ويبكي صارخا “وعظتني نفسي فعلمتني أن المحسوس نصف المعقول، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. وعظتني نفسي فعلَّمتني حب ما يمقته الناس ومُصافاة من يُضاغنونه، وأبانتْ لي أن الحب ليس بميزة في المُحِب، بل في المحبوب. وعظتني نفسي فعلمتني ألا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمَّة”.

وتختلط الأصوات على المشاهدين ويتوهون متسائلين هل هو صوتهم المخنوق الذي لا يستطيعون الصراخ به أمام الجميع، وتتراقص الخيالات أمامهم مضمخة بالضوء؟ فيدخلون في حيرة السؤال مجددا: هل هي صورنا المرسومة في القاع؟ هل هو صوت العقل أم صوت الجنون؟ هل هو صوت العقل الباطن أم العقل الظاهر؟ هل هو صوت الشاعر-المثقف الفيلسوف- المبعد الذي ما عادت تعترف به القبيلة صوتا لها وناطقها الرسمي؟ هل هو صوت يوسف يصرخ من قاع البئر؟ هل هو صوت إنسانيتنا المغيبة؟ هل هو صوت حيوانيتنا ووحشيتنا التي خرجت إلى الطبيعة؟

أسئلة كثيرة وحارقة تفجرها هذه التوليفة الإبداعية الساحرة، لا يفيق منها الجمهور إلا وقد وجد نفسه شاردا عاريا صارخا مغنيا راقصا مجنونا أمام مرآة ذاته العميقة المغيبة، وأمام حفر لا وعيه القابع في غياهب النسيان.

مسرحية المجنون في دار تونس بباريس

أرفع من نسيج العنكبوت

تنغلق المسرحية بفاصلة تأملية ترددت أكثر من مرة خلال ردهات العمل، وبصوت مخنوق وصرخة مكتومة من خلف الحجب: “أنا غريب في هذا العالم يا صاحبي أنا غريب يا صاحبي..يا صاحبي..يا صاحبي..”، ليبقى الصوت يتلوى ويتردد في الأفق والفضاء الرحب وتتردد معه صرخة المبدع في الأبدية وشعوره الدائم بغربته و”نبوته”، في استرجاع لصرخة أبي حيان التوحيدي منذ قرون “أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه”.

إذا كان جبران حفر نصه الأدبي “المجنون” بمعول اللغة والصور الشعرية والتأملات والاستبطانات والتهويمات الفلسفية والخيال المجنح، فإن الجبالي حاول بكل خبرته المسرحية ومعاوله الفنية أن يردم الهوة بين النصين: النص الأدبي المؤسس والنص المسرحي الموسوس -وكل عمل إبداعي حقيقي قائم على الشك والوسوسة وعدم اليقين- ولذلك كله لا نبالغ حين نقول إن توفيق الجبالي نجح إلى حد بعيد في خلق توليفة إبداعية جديدة فريدة اسمها “المجنون” تذوب فيها كل الأجناس والأشكال الفنية والإبداعية، وقد تمكن من هذا الانتقال السلس عبر الكتابة الركحية الذكية القائمة على الاختصار والتكثيف والحذف الموجع.

لذلك كله نظلم هذا العمل الإبداعي المتميز وهذه الأمثولة والتوليفة حين نحسرها في التسمية الضيقة “مسرحية” -رغم أن المسرح هو أب الفنون قاطبة- لأنها ببساطة تتنصل من كل محاولة للتعريف والتوصيف السطحي البسيط، وتخرج عن كل بناء درامي كلاسيكي معروف وحبكة فنية وشخصيات متقلبة ومتحركة وديكور متناسق مع الأحداث، وقصة تراوح بين العقدة والحل وراو عليم ومخرج متمكن يحرك الأحداث والشخصيات من خلف الستار.

إنها طريق من دون وصول، وبحار من دون مرافئ، ومطر من دون غيوم، وحب من دون خلاص، أو هي ببساطة صرخة عبقرية مجنونة تحاول أن تبنى من خيوط العنكبوت كوخا للحكمة في محاولة لاستبطان قولة جبران الخالدة “بين الجنون والعبقرية خيط أرفع من نسيج العنكبوت”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *