الكاتبة بثينة العيسى: واجبنا الخروج من حالة تدجين “إنسان الزمن الأميركي”

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

أعادت حرب إسرائيل على غزة منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي سؤال دور المثقف العربي في مراحل التغيير وتحولات التاريخ إلى الواجهة.

وقبل أيام وقع أكثر من ألفي مثقف عربي موزعين على خرائط الإبداع والجغرافيا بيانا شكّل موقفا ثقافيا عربيا موحدا ضد التطبيع والإبادة، وتجاورت فيه أسماء تناست خلافاتها أمام القضية المركزية.

من بين الأسماء الموقعة على البيان الكاتبة والأديبة الكويتية بثينة العيسى، التي ترى أن العدوان الإسرائيلي شكّل لحظة صحوة جيلنا الذي اعتاد عالما بمبادئ وأخلاق غربية جعلتنا نعيش زمنهم لا زمننا، وسرعان ما أظهر تناقض الغرب الفاضح.

تقول صاحبة “سعار” و”تحت أقدام الأمهات” و”عروس المطر”، إنه من غير الممكن أن نعود بعد انتهاء الحرب على قطاع غزة إلى ما كنا عليه سابقا بصفتنا أبناء العصر الأميركي بأبطاله الوهميين. فلا بد أن الحرب -بما أوضحته من حقائق صعبة- تركت أثرا تغييريا في كل فرد منا.

وفي حوار مع الجزيرة نت، تتحدث الكاتبة -التي نشرت ما يزيد عن 16 رواية وكتابا وتدير دار ومكتبة “تكوين” للنشر- عن دور المثقف العربي في مقاومة الاحتلال، والرقابة على السردية الفلسطينية، والدعاية الغربية.

  •  وصفت الحرب على غزة بأنها لحظة الصحوة الخاصة بجيلنا. ما الأسباب التي جعلتك تعتبريها كذلك؟ 

إنها لحظة صحوة جيلنا، لأننا إلى حدّ بعيد نعيش في عالمٍ من صنع الغرب، نستهلك ما يصنعون ونشكرهم على ذلك، نشرب قهوتهم، ونأكل طعامهم، نرتدي ثيابهم، ونتحدث ونفكّر مثلهم تقريبًا، ليس على الإطلاق بكل تأكيد، لكن إلى حدّ بعيد.

كنت في التاسعة من عمري عندما تحررت الكويت، ولا أنسى كيف خرجنا إلى الشوارع بملابس النوم لكي ننظر إلى العماليق الشقر الذين جاؤوا لتحريرنا.. بعد 30 عاما، سنرى أميركا “التي حررتنا” تخصص أموال دافعي الضرائب لارتكاب عملية إبادة، وتصرح بأنه ليس أمام إسرائيل خطوط حمراء، وترسل قواتها الخاصة، وتجند قنواتها الإعلامية لتكريس سردية العدو، بل تشكك في عدد الأطفال الذين قتلتهم

بالنسبة لبلادي، منذ تحريرها في التسعينيات من احتلال صدام حسين، ولأسباب أوضح من أن يتم ذكرها، وجدت إعجابا منقطع النظير بـ”السوبرمان” الأميركي المنقذ، وذهبت حثيثا نحو التغريب، وبدأ الأمر بالأطفال. كنتُ في التاسعة من عمري عندما تحررت الكويت، ولا أنسى كيف خرجنا إلى الشوارع بملابس النوم لكي ننظر إلى العماليق الشقر الذين جاؤوا لتحريرنا.

بعد 30 عاما، سنرى أميركا “التي حررتنا” تخصص أموال دافعي الضرائب لارتكاب عملية إبادة، وتصرّح بأنّه ليس أمام إسرائيل خطوط حمراء، وترسل قواتها الخاصة، وتجند قنواتها الإعلامية لتكريس سردية العدو، بل تشكك في عدد الأطفال الذين قتلتهم.

من الواجب أن نخرج من حالة التدجين التي أصابت إنسان اليوم، إنسان الزمن الأميركي الذي بدأ رسميًا منذ عام 1989، هذا الإنسان الفرد الأناني السلبي الخامل القلق المدمن المكتئب المستهلك، الذي لا يكترث بالسياسة، وقد تم تطويعه تمامًا. علينا أن نخرج من المصفوفة اللعينة فورًا.

  • قلت سابقا تعليقا على إطلاق المقاومة الفلسطينية سراح مستوطنة وطفليها خلال الحرب إن إسرائيل لم تستطع تحويلنا إلى مسخٍ مثلها. هل للتجارب الإنسانية خلال الحرب على غزة دور في تغيير رأي العالم حول ما يحدث بفلسطين؟

نحن دوما نقرأ أن علينا في معاركنا مع الوحوش ألا نتوحش ونصبح مثل الخصم. ونعتقد أن القصص الصغيرة التي تتسرب إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما من الناجين في غزة، أثبتت أننا لسنا مثل العدو.

رغم كل شيء، كان هناك دائما شكل عجيب من أشكال التماسك والابتسام في أغرب المواقف. المفارقة أن هذا كله يأتي في ظل دعاية غربية عن كونها حربا بين البربرية والهمجية من الناحية الفلسطينية بزعمهم، وبين الحضارة والتقدم وأبناء النور بحسب وصف العدو لنفسه. لكن يمكن لأي شخص غير منحاز أن يرى أي الطرفين كان أكثر تحضرا وإنسانية، وأي الطرفين كان المتوحش.

دور المثقف هو أن ينخرط فورًا في الحرب الإعلامية، فهذه المعركة تخاض على أكثر من مستوى، وأحد أهم هذه المستويات هو اللغة وتفكيك الخطاب والمشاغبة واستحضار السياق، والإشارة إلى المراجع المتوفرة في الكتب والأفلام والتقارير، لرفع مستوى وعينا بطبيعة الصراع الحالي وأبعاده، وليس بجذوره التاريخية فحسب. نحن لا نستطيع أن ندافع عن حقوقنا إذا كنّا جهلة.

  • دائما ما لعبت الثقافة دورا في المقاومة. كيف يمكن للمثقف العربي أن يقاوم في خضم الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة؟

دور المثقف هو أن ينخرط فورًا في الحرب الإعلامية، فهذه المعركة تخاض على أكثر من مستوى، وأحد أهم هذه المستويات هو اللغة، وتفكيك الخطاب، والمشاغبة، واستحضار السياق، والإشارة إلى المراجع المتوفرة في الكتب والأفلام والتقارير، لرفع مستوى وعينا بطبيعة الصراع الحالي وأبعاده، وليس بجذوره التاريخية فحسب.

نحن لا نستطيع أن ندافع عن حقوقنا إذا كنّا جهلة، والجهل أكبر خادم للعدو لأنه يحولنا إلى محامين فشلة، أو إلى أصحاب مواقف رخوة، أو كاريكاتيرية، أو مثالية أكثر مما يجب، وفي بعض الأحيان إلى متواطئين إنْ لم أقل عملاء.

الأمر نفسه يقع على المشاريع الأهلية عمومًا، والثقافية خصوصًا.

منذ الأيام الأولى التي شنّ فيها العدو عملية الإبادة في غزة، تحوّلت مكتبتنا (مكتبة تكوين) إلى جبهة ثقافية. أقمنا معرض الكتاب المستعمل الخيري الذي يتبرع يوميا إلى حملة إغاثة فلسطين التابعة للهلال الأحمر الكويتي، وخصصنا فعالياتنا الثقافية لموضوع فلسطين، هناك أيضًا ورش ومنتجات وفعاليات ريعية.

أذهبُ إلى المكتبة مرّتين في اليوم، وفي كل يومٍ أرى دموع الناس وكوفيّاتهم وحاجتهم الفطرية إلى التضامن. أقول ذلك على سبيل التحريض، لأنني أؤمن بضرورة أن يعطي الكل، كلّ حسب سعته، أؤمن بأثر الفراشة، أؤمن بالمجتمع التكافلي، وأؤمن بالعمل الجماعي أيضا.

الجميل هو رؤية تجاور هذه الأسماء في بيان واحد، إن دل هذا على شيء فإنما يدل على مركزية القضية الفلسطينية التي مهما تواطأ العالم ضدها تبهرنا في كل مرة بقدرتها على توحيد الشوارع ضد عدو واحد، وليس الشوارع العربية وحدها. إن ما يحدث كل يوم في لندن وباريس وبرلين وستوكهولم ونيويورك وشيكاغو مدهش جدا.

  • تجاوز المثقفون العرب خلافاتهم وخصوماتهم للتوحد على قضية فلسطين في بيان الألفي مثقف. كيف تخدم وحدة الموقف الثقافي القضية الفلسطينية؟

هذا صحيح، لقد ضمّ البيان أسماء أشخاص بينهم خصومات قديمة، لأسباب مشروعة وغير مشروعة، منذ الحسد المحض وحتى التناقض المبدئي. لكن الجميل هو رؤية تجاور هذه الأسماء في بيانٍ واحد، إن دل هذا على شيء فإنما يدل على مركزية القضية الفلسطينية التي مهما تواطأ العالم ضدها تبهرنا في كل مرة بقدرتها على توحيد الشوارع ضد عدو واحد، وليس الشوارع العربية وحدها. إن ما يحدث كل يوم في لندن وباريس وبرلين وستوكهولم ونيويورك وشيكاغو مدهش جدا.

الخوف في يومنا هذا هو حق حصري للمدنيين العزّل من أهل غزة، يحصون بعضهم كل صباح ليروا من فقدوا ومن بقي. أما نحن، نحن خارج غزة، فلا حجة لنا كي نخاف، خاصة على عاداتنا القديمة ومصالحنا التجارية وشبكات علاقاتنا وغيرها.

  • يتداول الناشطون العرب منذ بدء العدوان على غزة قصيدة الشاعر نزار قباني عن تلاميذ غزة، التي يقول فيها: حررونا من عقدة الخوف فينا. برأيك، هل نحن خائفون؟

الخوف في يومنا هذا هو حق حصري للمدنيين العزّل من أهل غزة، يحصون بعضهم كل صباح ليروا من فقدوا ومن بقي. أما نحن، نحن خارج غزة، فلا حجة لنا كي نخاف، خاصة على عاداتنا القديمة ومصالحنا التجارية وشبكات علاقاتنا وغيرها.

  • تتحدثين دوما عن أثر الرقابة السياسية على حياتنا وطرق تفكيرنا. هل تعتقدين أن الرقابة في مجتمعاتنا أثرت على طرق فهمنا للسياقات الفلسطينية لا سيما مع العدوان الإسرائيلي على غزة؟

الرقابة عمومًا تعمل على تسطيح الحقائق واختزالها، والحد من قدرتنا على فهم التعقيد، والمجتمع الرقابي يعوّد إنسانه كل يوم على التفكير الثنائي، وهو شكل من أشكال اللا تفكير.

لحسن الحظ، الكتب التي تناولت فلسطين لا تُمنع في الكويت، وحتى كتاب الدكتور شفيق الغبرا “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت”، الذي حاول النائب السابق عبد الله الطريجي منعه بإحالة الغبرا إلى نيابة الإعلام، لم يُمنع بعد أن قررت النيابة العامة أن حرية البحث العلمي مكفولة.

خضتُ معاركي الصغيرة ضد الرقابة لسنوات، ولا أجد الأمر مختلفا جدا عندما نحاربُ السرديات الكاذبة على وسائل الإعلام الغربية، أو حظر الظل على منصات “ميتا”، أو حذف الحسابات المناصرة لفلسطين. كل معركة ضد الرقابة هي معركة مستمرة، لأن الرقابة مثل أي نظام قادرة على إعادة ولادة نفسها دائمًا، وعلينا أن نلجأ إلى الكيد والحيلة، حتى لو استبدلنا علم فلسطين بنصف بطيخة حمراء

مع ذلك، حضور فلسطين في مناهج التاريخ والجغرافيا، أو ما يسمى بالاجتماعيات، آخذ في التقلّص بمرور السنوات، وأعرف أن هناك جهودًا للتصدي لذلك.

لكن إذا تخيلنا مجتمعًا يمنع الكتب التي تتحدث عن النكبة، مثل دولة العدو بالضبط، فهذه بالتأكيد نكبة أخرى. العزاء أن وسائل الإعلام الأخرى قادرة على النهوض بالمهمة.

لقد خضتُ معاركي الصغيرة ضد الرقابة لسنوات، ولا أجد الأمر مختلفًا جدا عندما نحاربُ السرديات الكاذبة على وسائل الإعلام الغربية، أو حظر الظل (Shadow Banning) على منصات “ميتا”، أو حذف الحسابات المناصرة لفلسطين.

كل معركة ضد الرقابة هي معركة مستمرة، لأن الرقابة مثل أي نظام قادرة على إعادة ولادة نفسها دائمًا، وعلينا أن نلجأ إلى الكيد والحيلة، حتى لو استبدلنا علم فلسطين بنصف بطيخة حمراء.

أعتقد أنني أعرف ما لا أريد أن أكونه بعد ما حدث. لا أريد أن أكون شخصًا أقل إنسانية وموجودا لغاية الاستهلاك، كما قرر العدو، في نظام مخترق وتابع لأنظمة استبداد عالمية. لا أريد أن يكون هذا مستقبل أطفالي. لا أريد أن أوجد في عالمٍ من صنع العدو، اقتصاديا وسياسيا وحتى قيميا ولغويا وثقافيا.

  • قلت إنه لا يمكن لنا أن نعود إلى ما كنا عليه سابقا قبل الحرب على غزة. على الصعيد الشخصي، كيف غيّرتك الحرب وأثرت فيك؟

أعتقد أنني أعرف ما لا أريد أن أكونه بعد ما حدث. لا أريد أن أكون شخصًا أقل إنسانية وموجودا لغاية الاستهلاك، كما قرر العدو، في نظام مخترق وتابع لأنظمة استبداد عالمية. لا أريد أن يكون هذا مستقبل أطفالي. لا أريد أن أوجد في عالمٍ من صنع العدو، اقتصاديا وسياسيا وحتى قيميًّا ولغويا وثقافيا.

لقد كنا نعرف الكثير عن تناقض الغرب ونفاقه وازدواجيته، لكنها كانت عناوين، واليوم نراها محفورة على لحمنا. لن يعود في وسع من يشهد على المجزرة أن يعود إلى الشخص الذي كانه. الأمر ببساطة غير ممكن.

لقد كنا، بشكل واعٍ أو لا واع، ننظر إلى الآخر دائمًا في سؤالنا عن الصواب والخطأ، ربما لأن هذا هو ما يفترضه الحوار؛ وجود الآخر، الآخر المختلف.

تحتاج الذات إلى الآخر من أجل جدلٍ صحي لنعرف من نحن؟ ومن نريد أن نكونه؟ وما مرجعياتنا؟ لكن ماذا يحدث عندما يفقد الآخر شرعيته؟ من نحن الآن؟ هل نحن -فقط- نقيض ما هو عليه؟ أعتقد أن من الخطورة وضع إجابات سهلة لسؤال بهذا التعقيد.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *