جاء الإعلان الصادر عن “جائزة فلسطين العالمية للآداب”، والخاص بإطلاق حملة دولية، لقراءة رواية “الطنطورية” للكاتبة الراحلة رضوى عاشور، بـ3 لغات؛ هي العربية والإنجليزية والفارسية، متزامنا مع جريمة الإبادة التي يواصل الجيش الإسرائيلي تنفيذها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في غزة، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة، ما ارتكبته الصهيونية من مجازر في “الطنطورة” وفي بقية الأراضي الفلسطينية.
في تلك الرواية المهمة، تسرد الكاتبة سيرة عائلة فلسطينية تم اقتلاعها من أرضها في قرية الطنطورة، على يد عصابات “الهاغاناه”، وترصد من خلال الأحداث، تلك الرحلة التي قطعتها هذه العائلة ما بين عامي 1947 وهو العام السابق على النكبة وقيام إسرائيل، وعام 2000، والأحداث التاريخية التي رافقتها.
لتستعيد الرواية الكثير من الأحداث والوقائع التاريخية التي تتشابه مع واقع الحرب الدائرة حاليا في غزة وبعض المدن الفلسطينية الأخرى، وتكاد فصول هذه الرواية أن تكون توثيقية، لمعظم مراحل التاريخ الذي شهدته 4 أجيال، بينما تحمل في طياتها، العديد من الإشارات للحياة القاسية في المخيمات، في الوقت الذي ينتقل فيه السرد ما بين الحاضر والماضي، دائرا بنا رفقة حشد من التفاصيل، التي تنتقل من مرحلة ما قبل النكبة إلى المراحل التالية لها، حتى الوصول إلى مستهل الألفية الجديدة، وما بعد ذلك من تفاصيل، يتضمنها الواقع المعاش، عبر جرعات من السرد الدافق بحس عاطفي، وكتابة توثيقية، لجوانب من التاريخ، التي تستند في الكثير منها، إلى الكثير من الحكايات التي تسردها الذاكرة الحية.
تحملنا الرواية، لنتعايش مع المعاني تدور في معظمها حول المقاومة وصراع البقاء، وتحدي ما يجري على أرض الواقع، من ممارسات التهجير والقتل، تلك الممارسات التي لم يتوقف عنها الكيان المغتصب في أي يوم. تلك الممارسات التي جعلتنا نعيش وقائع بالغة البشاعة، ونشاهد معها صورا مفزعة للمجازر التي تناولتها رواية “الطنطورية”، ومن بينها الوقائع الموثقة لعدد من تلك المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال، والتي كان من بينها، “مجزرة “الطنطورة”، ومجزرة “صبرا وشاتيلا”، حتى نصل إلى ملجأ مدرسة الأطفال في “صيدا”.
تأريخ وتوثيق
أصبحت قرية “الطنطورة” شاهدا على النكبة والأحداث من خلال “رقية” بطلة رواية “الطنطورية” وما تمثله المرأة الفلسطينية، في التعاطي مع يوميات اللجوء والتمسك بالمقاومة، حتى ولو بالإصرار على إنجاب المزيد من الأطفال. وعبر فصولها المتعددة، تؤرخ تلك الرواية للأماكن، وتوثق التواريخ والأشخاص، في مسعاها لتأكيد ما شهده الواقع من أحداث، حتى وإن اقتربت أحيانا في بعض المواقف من الخطابية، قبل أن تتدفق جمالية السرد على الفور، لتنقذها من مطبات المباشرة.
وإذا كانت رقية هي الراوية الرئيسية، في نص “الطنطورية”، إلا أنه في بعض الأحيان، يظهر هناك راو آخر، وعلى وجه التحديد، في اللحظة التي تحكي فيها رقية عن نفسها بضمير الغائب، وهو الأمر الذي تبرره الكاتبة، قائلة إن رقية تستخدم صيغة المتكلم في الغالب، غير أنها تشير بين حين وآخر، إلى نفسها بصيغة المفرد الغائب، كأنها تتحدث عن شخص آخر. وهنا تؤكد المؤلفة، أن هذا لا يعني أن الحديث ينتقل إلى راوية أخرى، بل يعني أنها في الوقت الذي تحكي عن نفسها، تتطلع إلى البنت التي كانت تسترجع مراحل سابقة من عمرها، أو تتأمل ذاتها.
وهنا تشدد الكاتبة رضوى عاشور، على أن رقية، هي التي تحكي من أول الرواية إلى آخرها، وإن كانت تلجأ إلى تضمين الحكاية بعض ما سمعته من روايات الآخرين.
لكنها في إحدى الحوارات التي أجريت معها، تؤكد أن “رقيّة ليست بطلة الرواية الوحيدة بالمعنى التقليدي، بل جميعهم أبطال، وجميعهم لاجئون. ولكل واحد منهم حكاية. وتشير في هذا الصدد إلى أن “رقية” عاشت في الطنطورة أيام الطفولة، وأول المراهقة، وتمت خطبتها إلى شاب من قرية “عين غزال” المجاورة قبل أن تقتلع العصابة الصهيونية الأهل والجيران، ويرحل كل منهم إلى مكان. ويمتد العمر بـ”رقية” حتى ما بعد الـ70، لتجد نفسها تمسك بالقلم، وتلبي رغبة ابنها “حسن”، فتكتب سيرة الأجيال الثلاثة: الآباء والأبناء والأحفاد”.
الراوي الخلفي
عندئذ، تواصل رقية الحكي، في حين تقبع من وراء رقية، المؤلفة رضوى عاشور، خلف مكتب، في داخل غرفة، في مصر، ثم تسافر بنا لكل تلك الأماكن، لتصف الأحداث، الناس، العادات والتقاليد والأغنيات بدقة، وتجعلنا نصدق تماما أن رقية هي من كتبت الطنطورية، تلك المرأة الفلسطينية اللاجئة والمغتربة طويلا.
ترسم المؤلفة في “الطنطورية” تاريخ البلد، وتصور على الأوراق، دماء المجازر، وشتات الشباب، وحطامهم، والأحلام التي راودتهم.
هل لخصت رقية بذلك الحكاية؟ امرأة تنتظر على محطة القطار، وبينما هي تنتظر عاشت حياة بأكملها، ثم جلست ذات يوم إلى دفترها لتنقل تلك الوقائع إلينا، بعد أن ظلت تتساءل: ما الذي تنتظره رقية؟ تلك اللاجئة الفلسطينية، التي أُخرجت منها لجنوب لبنان بعد مجزرة الطنطورة سنة 1948، لتنتقل لبيروت بعدها، وتعيش فيها حتى سنة 1982، ثم تشهد بعد ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا. قبل أن تمكث قليلا وتعبر من بعدها الصحراء، ثم تطير إلى الإسكندرية، لترد في ذاكرتها، حكاية عابرة، من بين الآلاف من الحكايات الصغيرة، التي تمر عليها كل يوم، ولكنها تتساقط فيما بعد، في الزحام.
مشهد مكثف
تبدأ هذه الأحداث بذلك المشهد المعبر، وقت أن استقبلت رقية، مكالمة هاتفية من صديقتها “وصال”، بعد سنوات من الغربة وانفصالهما القسري، قالت رقية: “وصال؟”، ثم انفجرت بما اختزنته من الدموع على مدى السنوات التي أعقبت النكبة، لم تنطق “رقية” حرفا واحدا، بعد كلمة “وصال”.
من هنا، يمكن القول إن الرواية جاءت مكثّفة وغنية، حتى إن القارئ يجد نفسه منغمسا في قراءة تاريخ شعب كامل، من خلال معاناة عائلة، لأن رواية “الطنطورية” لم تأت في سياق مشابه لغيرها من الروايات، قدر ما حملت بين فصولها خطا سرديا واضحا من خلال الطريقة المعتمدة فيه وما تضمنه في مضامينه، بعد أن نجحت المؤلفة في الجمع بين ما هو حقيقي، من أحداث تاريخية موثقة، على مدى السنوات التي تمتد منذ بداية النكبة، حتى الآن، وبين ما هو خيالي متمثّلا في شخصيات، منها رقية وعائلتها، وما جرى لهم من أحداث.
في هذا الجانب، جمعت الكاتبة تفاصيل الحياة لهذه الشخصيات، التي تضمها عائلة واحدة، لتتمكن من خلالها، من سرد آلام أبناء شعب فلسطين الصامد، متعمدة خلال سردها لتلك الأحداث، أن تسلط الضوء على تفاصيل الاجتياح الذي نفذته إسرائيل للبنان، وما ترافق معه من مجازر وحشية، إلى الدرجة التي يمكن معها اعتبار رواية “الطنطورية”، مرجعا مهما من بين المراجع التي انشغلت بتوثيق جوانب من الأحداث المؤلمة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، على مدى نصف قرن وما يزال، وقد اعتمدت المؤلفة في ذلك، على محورين رئيسيين، يدوران من ثنائية “الموت والحياة ” إلى ثنائية “اليأس والأمل”، وعبر تصاعد للخط الدرامي للأحداث التي ظلت ترويها بطلة تلك الرواية “رقية”، انطلاقا من عمر الـ13، حتّى بلوغها الـ77، ومن خلال ذلك، ظل السرد يجنح حينا نحو الخيال، لكنه في الغالب ظل يميل بدرجة أكبر في اتجاه الواقعية.
لقبت “رقية” بالطنطورية، لكونها من قرية الطنطورة، التي تقع في جنوب حيفا على الساحل الفلسطيني، والتي عايشت عدة مجازر وحروب وانتكاسات بين عامي (1974 – 2000)، وهي في حد ذاتها، تاريخ يضم في جنباته، أحداث النكبة وتجربة اللجوء الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في نفس الوقت، كما أن “رقية” عايشت اللجوء مرتين، إحداهما حين اضطرت للهرب مع عائلتها من الطنطورة إلى صيدا في لبنان، والثانية من صيدا إلى الإمارات، في حين سكنت في 7 بيوت، ليكون الأول والأخير منها في صيدا، قريبا من بلادها التي لم تتمكن من العودة إليها.
تجربة محسوسة
لم يخطر في أذهان أهل قرية الطنطورة الوادعة، أن شرا مستطيرا سوف يصيبهم. وحتى بعد المجازر البشعة التي عايشوها، ظل لديهم يقين بأن النصر سيكون في النهاية للعرب، وحين وصل إلى قريتهم بعض أهالي “قيسارية” في أعقاب سقوطها، لم يقوموا بمعاملتهم كلاجئين، بل فتحوا أبواب بيوتهم لهم وعاملوهم كضيوف، وكان نصيب عائلة “رقية” أُمّا وولديها.
ومن خلال أحداث الرواية، نكتشف أن أول خلاف عائلي حاد نشأ بين والد رقية “أبو الصادق” وعمها “أبو الأمين” كان يوم قرر أبو الأمين أن يرحل إلى صيدا عن طريق البحر، لينقذ النساء والأطفال على الأقل. قال أبو الأمين، إن اليهود احتلوا حيفا في يومين، فكيف بالطنطورة؟ وردّ عليه أخوه الأكبر أبو الصادق: “حيفا نصفها يهود، وكانوا متمترسين في الكرمل، هم على الجبل ونحن في السهل. وضعنا يختلف. سيحمي الشباب زمام البلد، والحراسة موزعة من الشمال والجنوب والشرق. والقرى التي في الجبل عرب لا يهود. أهل عين غزال وجَبَع وإجزم صدّوا الهجوم ولسنا أقل منهم… الله يسهل عليك، ارحل انت وزوجتك وابنك. ولكن أنا حر في أهل بيتي”.
عندما اعتبر البعض أن الكاتبة أرادت أن تكتب تاريخا موازيا للتاريخ الرسمي، وتقدم الأحداث والوقائع الفلسطينية دون تزييف في “الطنطورية”، ردت رضوى عاشور بالقول، إن ما قامت بكتابته ليس سوى رواية، أي عمل فني يعتمد الحكي وينقل إلى القارئ تجربة قد تغني عقله ووجدانه، واصفة إياها في الوقت نفسه، بأنها حفرية من نوع ما، تستخرج بعض المطمور من الذاكرة، لتنشره في الناس وتذكّرهم أو تُعلمهم به، على طريقة الفن، الذى يحوّل الفكرة والواقعة إلى تجربة نعايشها. مؤكدة في الوقت نفسه، أنه من المبالغة، الحديث عن تاريخ مواز، وأنها تتبعت خيطا من هذا التاريخ، وهو خيط دال من آلاف أو مئات الآلاف من الخيوط في النسيج التاريخي، وأنها اجتهدت في نقله، عبر حكاية وشخصيات ولغة وإيقاعات، تجعل من هذا النسيج، تجربة مرئية ومحسوسة في الوقت ذاته، يعيها القراء وينفعلون بها.
ومع التقدم في قراءة فصول الرواية، يجد المرء نفسه وقد توقف أمام أحد الأسئلة التي لا تكف عن الإلحاح عليه: كيف يمكن لرواية واحدة أن تضمّ كل ما ضمّته “الطنطورية”؟ وكيف تتخيل الكاتبة امرأة لم تكمل تعليمها، ومع ذلك تحمل وطنا وتركض به، ثم تحرسه بالذكرى وأيضا بالمذكرات التي راحت تنشغل بكتابتها، بعدما ألحَّ عليها ابنها لكتابتها؟
لكن المؤلفة كان لديها ما ترد به، حين راحت تبرر ما يمكن وصفه بتماهيها مع أحداث الرواية، قائلة: “إن رقية “لم تكتب رواية “الطنطورية”، بل كتبتُ أنا رواية شخصيتها الرئيسية، امرأة مُتخيَّلة تحاول أن تحكي حكايتها بالتدوين حينا، والحكي والاسترجاع حينا، والـتأمل حينا والتداعي في بعض الأحيان”.
وحكايتها مزج بين المُتخيَّل والوقائع التاريخية المعلومة: رقية وأمها وأبوها وأخوتها وزوجها وأبناؤها شخصيات مُتخيّلة، ولكن المجزرة والطرد القسري واللجوء إلى لبنان والمخيم وغزو لبنان وقائع موثقة. هنا يتداخل التاريخ الشخصي لشخصيات بعينها أنشأها الخيال بالتاريخ المشترك للفلسطينيين، “في محاولة لتكوين صورة تجسد العام في الخاص فيصبح دالا عليه”.
وهي هنا تؤكد أنه في إطار هذا المسعى، كانت أحيانا تجعل شخصية متخيلة كرقية أو فرد من أفراد عائلة، يتشارك في المشهد، مع شخصية واقعية فعلية كالقائد اللبناني معروف سعد، الذي استشهد عام 1958، أو المؤرخة اللبنانية الدكتورة بيان نويهض أو الدكتور أنيس صايغ مؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني. وهي لعبة فنية قد لا ينتبه لها قارئ ما أو ينتبه فيلتقط معاني مُضافة.
هنا تؤكد رضوى عاشور: “أضفّر المتخيل بالوقائعي، ولكن الخيال في هذه الرواية، كما في روايات أخرى لي ولغيري من الكتّاب، يسعى لتحقيق معادلة لا تخلو من مفارقة: يجمح الخيال ويجنح، ويبقى متجذرا في الواقع ودالا عليه”.
كتابة من الخارج
ورغم أن للمؤلفة تصريحا سابقا، قالت فيه إنها ضد “الكتابة من الخارج” وهو الأمر الذي قد لا يجد القارئ أي صدى له، الأمر الذي قد يظنه البعض تورطا من الكاتبة في أحداث تلك الرواية، فإنها هنا تؤكد على حقيقة أن الكتابة هي معرفة في النهاية. من دون أن تعني تلك المعرفة المعلومات، بل الخبرات الإنسانية والتجارب والإحاطة بالموضوع والعمق المعرفي إجمالا، ولا ينفي هذا أن تعزِّز هذه المعرفة أحيانا وقائع قائمة على معلومات. يتم التعرّف عليها مباشرة بالمعايشة، أو بما يمكن تسميته بالخبرة أو القراءة المستفيضة.
وهي هنا تشير إلى ثلاثيتها الشهيرة التي كتبتها عن “غرناطة” قائلة: أنا لم أعش في القرن الـ16، ولكنني أعرف تجربة الهزيمة والقهر، ومحاولة الإفلات بالمواجهة والمقاومة، وهذه العناصر هي لُبّ الرواية وموضوعها، فغرناطة هي مجاز، ولكنني لكي أكتب غرناطة في رواية لا تخرج عن إطار الواقعية، كان عليّ التعرف عليها وعلى أهلها وحكايتهم وشكل إنتاجهم لحياتهم اليومية وعاداتهم ومطبخهم. باختصار كان عليّ أن أتعرّف على المكان وأهله. هذا وفره لي البحث، أما الخيال فمسؤول عن المشاهد والحبكة والشخصيات واللغة بطبيعة الحال التي تحمل هذه الأمور كلها”.
تضيف المؤلفة قائلة إنه بالنسبة للموضوع الفلسطيني، فإنها عايشت العديد من الفلسطينيين وبعضهم من الأهل بما أن زوجها (الشاعر مريد البرغوثي) فلسطيني. وبالتالي كان بإمكانها نقل مساحة من التجربة. أما الطنطورة -وهي من القرى التي احتلت عام 1948 وبالتالي تقع بعيدا عن تجربة زوجها وهو من أبناء الضفة الغربية التي احتلت عام 1967)- فقد كان عليها أن تتعرّف على جغرافيتها وواقع أهلها وما ألم بهم عند الهجوم على قريتهم، ومصائرهم بعد الترحيل. فأحيانا يقتضي عمل ما من الكاتب أن يقرأ ويبحث ويستكمل الناقص من معارفه، وهذا ما قامت المؤلفة به.
قبل الاقتلاع
لا تنسى “رقية” الليلة الأخيرة قبل الاقتلاع. حكى لها أبوها عن أجمل ذكرياته، ولأول مرة كانت تنظر في عينيه، وتكتشف كم كان وسيما. أما في صباح اليوم التالي فكانت الكارثة، إذ اقتادوا الأولاد مع أمهاتهم كالأغنام، ولم تعلم أين أخذوا الرجال. كانوا عدة مئات من النساء والأطفال والشيوخ، تم حشرهم في شاحنتين. وفجأة صرخت “رقية” وجذبت ذراع أمها، مشيرة بيدها إلى كومة من الجثث. هكذا تبتدئ الحكاية.
هجرة إلى الفريديس القريبة، ثم إلى الخليل، وتمر أشهر اللجوء الأولى الصعبة من الوطن إلى الوطن، حتى تقرر أم الصادق اللحاق بعائلة أبي الأمين في صيدا، التي وصلوا إليها في مطلع العام التالي. أم الصادق، تلك المرأة التي نظرت إلى أكوام القتلى، لم تر زوجها وولديها، ولم تصدق شهادة الشباب الذين دفنوهم، وعاشت بقية عمرها تقول للناس إن زوجها معتقل لدى الإسرائيليين، وإن ولديها الصادق وحسن تمكنا من الهروب إلى مصر.
أما رقية ابنتها، فكانت مثالا حيا للفتاة الفلسطينية، ابنة القرية والهجرة القسرية والأيام الصعبة. زوّجها عمها “أبو الأمين” من ابنه الأكبر “أمين”، وكان طبيبا، وعاشت عمرها معه، حتى استشهد في مجزرة صبرا وشاتيلا. كان زوجا شبه مثالي، وأبا حنونا على أولاده الثلاثة “الصادق وحسن وعبد الرحمن، والصغرى مريم”.
الصادق أصبح في أبو ظبي من رجال الأعمال، وحسن أصبح كاتبا وأستاذا وذهب ليعيش في باريس. وأما عبد الرحمن فتحول عن دراسة الهندسة قبل عام من تخرجه ليدرس الحقوق ويدافع عن شعبه. ومريم كبرت وقررت أن تدرس الطب. و”ثمة بطل مستقل بشخصيته في الرواية وهو “مفتاح الدار”. فكل امرأة في المخيم كانت تحتفظ بمفتاح الدار الحديدي حول رقبتها، أو في مكان أمين جدا.
أعطت أم الأمين، رقية بعد وفاة أمها مفتاح الدار، وتعجبت رقية حين علمت أن أمها كانت تضعه حول رقبتها من دون انقطاع. وهكذا.. فعلت مثلها.
وتروي رقية ماذا فعل أهل مخيم عين الحلوة في اليوم الأول لحرب يونيو/حزيران 1967 فتقول: “أخرجوا مفاتيح دورهم واستعدوا بهوياتهم وأوراق الطابو التي تثبت ملكيتهم للأراضي والبيوت.
مشهد أخير
في النهاية، تذهب رقية مع رفيقاتها وجاراتها في رحلة إلى الحدود الفاصلة ما بين لبنان وفلسطين، لم يمنعها السياج من الحديث مع فتاة وشيخ من الطنطورة، ليفاجئها ابنها حسن وعائلته ورقية الصغيرة التي أنجبتها زوجته قبل 4 أشهر؛ رقية الكبيرة التي شاخت، تحمل حفيدتها بعد تمريرها من بين الأسلاك، ثم تخلع من على جيدها الحبل الذي تُعلق فيه مفتاح الدار التي تهدمت، وتضعه حول رقبة الرضيعة.