تمثل عودة المخرج الياباني “هاياو ميازاكي” واحدة من أجمل مفاجآت عام 2023 السينمائية، وذلك بعرض أحدث أفلامه “الصبي ومالك الحزين” (The Boy and the Heron)، والذي عمل عليه برفقة فريق من 60 رساما لمدة سبع سنوات، وحظي بعرض سينمائي واسع حول العالم، سواء على الشاشات العادية أو الآيماكس.
ومؤخرا فاز الفيلم بجائزة غولدن غلوب لأفضل فيلم رسوم متحركة، وهي المرة الأولى التي يفوز فيها عمل بلغة غير الإنجليزية ومرسوم باليد. ومن المتوقع منافسة الفيلم بقوة على الأوسكار هذا العام خاصة مع ضعف الأفلام الأميركية التي عُرضت خلال 2023.
عودة جديدة لطفولة المخرج
اقتطف ميازاكي نثرات من حياته الشخصية وطفولته وجعلها محور أفلامه على مدار مسيرته، فقد عاش حياة ثرية بالأحداث الجسام التي تستحق النبش في تفاصيلها، وإخراج هذه التحف الفنية التي تعلق بها الجمهور منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى اليوم.
وُلد المخرج خلال الحرب العالمية الثانية، ومر بمراهقته في “يابان” ما بعد الحرب والتفجير النووي لكل من هيروشيما وناغازاكي، وتوفيت والدته وهو لم يتخط مرحلة الطفولة بعد، وتركته وحيدا مع والده المنشغل بعمله في إحدى المصانع الحربية.
“الصبي ومالك الحزين” عودة جديدة لهذه الطفولة، فهو يبدأ بالفتى “ماهيتو” الذي توفيت والدته خلال تفجير أحد المستشفيات، ويعمل والده مهندسا في مصنع حربي، وتزوج مرة أخرى من أخت زوجته السابقة. وينتقل الصبي للريف خوفا على حياته ليعيش في منزل عائلة الأم مع خالته الحامل في مولود جديد وباقي أفراد العائلة والخدم.
تموج داخل “ماهيتو” دوامة من المشاعر المتضاربة؛ الكثير من الحزن والغضب على وفاة أمه، والحنين لهذه الأم ولشكل الأسرة التي اعتاد عليها، والذنب تجاه الخالة التي تحاول التواصل معه بشتى الطرق، ولكنه يغلق الأبواب في وجهها بأسلوب مهذب وصارم، بينما أصوات الحرب تهدر في الخارج.
وتأتي القشة التي تهدد محاولات “ماهيتو” في التماسك -ولو الظاهري فقط- على يد طائر مالك الحزين العملاق الذي يسكن الغابات خلف منزل الأسرة، ويخالف المنطق ويتحدث معه مؤكدا ضرورة بحثه عن والدته الميتة التي لا تزال حية، الأمر الذي يُدخل الصبي في نوبات غضب شديدة تجعله يحاول قتل الطائر.
وفي إحدى الأيام تختفي الخالة قرب البرج الذي بناه أحد أسلافه منذ زمن بعيد وتحيط به الأساطير المخيفة، ويضطر الصبي للحاق بها وإعادتها للمنزل، ولكنه بدلا من ذلك يدلف إلى عالم سحري مواز لعالمه الحقيقي، وفيه يخوض مغامرة لم يتخيل أنها ممكنة، لا تنعش فقط روحه وخياله ولكن تجعله يتواصل مع أسلافه وأمه وخالته بصورة جديدة.
لا يفوت المشاهد المحب لأفلام “ميازاكي” نقاط التشابه بين “الصبي ومالك الحزين” وأفلامه السابقة، فنجد فقدان الأم أو القلق على صحتها يتقاطع مع فيلم “جاري توتورو” (My Neighbor Totoro) والعالم الموازي الذي يحمل قوانينه الخاصة ويحمي خلاله الطفل أفراد عائلته من “المخطوفة” (Spirited Away).
هذه الصلات مع الأفلام السابقة لا تعني أن عالم المخرج محدود بحياته وهواجسه الشخصية، بل إنه قادر على إعادة قراءة نفسه كفرد ضمن مجتمع أكبر يتشارك معه نفسه الهموم والمخاوف، واستطاع تحويلها إلى فن ثري للغاية يصل إلى الجميع حول العالم رغم اختلاف اللغة والثقافة.
الاختيار بين ألم الحياة وعذوبة الخيال
شهدت بداية حياة الجيل الذي ينتمي إليه “هاياو ميازاكي” الهزة الأكبر التي حدثت في اليابان، فنشأ على الخوف على الأقرباء والأحباء، واختار المخرج الهرب من هذا القبح إلى الخيال، فأنشأ عوالم سينمائية موازية وجعل أبطاله الصغار يخوضون رحلات نجاتهم فيها. فالطفلتان في “جاري توتورو” تجدان الدعم من كائن خيالي عملاق، و”ماهيتو” في “الصبي ومالك الحزين” يقابل والدته مرة أخرى في طفولتها في هذا العالم، ويحاول التصالح مع فكرة فقدانها، واستعادة خالته الحامل التي كاد يفقدها.
ولكن نهاية الفيلم تطرح سؤالا مختلفا، فعلى عكس الأبطال الآخرين الذين كان مصير كل منهم في النهاية العودة للعالم الاعتيادي؛ أُعطي ماهيتو حرية الاختيار بين العالمين، عالمه الحقيقي حيث الحرب والخوف والألم، والبقاء وحكم العالم الخيالي، وفيه يمكنه وضع قواعده الخاصة والبقاء مع والدته.
يبدو الأمر كما لو أن المخرج يعطي المشاهدين كذلك نفس الخيارين؛ الأول الحياة بكل ألمها، أو الهرب للخيال بما يحمله ذلك من راحة بالتأكيد. ولكنه يترك الأقواس مفتوحة لتحديد نوع هذا الخيال، هل هو عالم الأدب والكتب الذي غاص فيه جد “ماهيتو” وجعله يبني هذا البرج ثم اختفى فيه، أم الرسم والأفلام كما فعل “ميازاكي” نفسه الذي صنع عوالم سينمائية مختلفة تماما، وبمد الخط على استقامته سنجد خيارا ثالثا وهو العالم الافتراضي ومواقع التواصل التي تتيح للبشر القدرة على بناء حياة خيالية لأنفسهم والبعد عن الواقع.
أعطى “ميازاكي” الخيار لـ”ماهيتو”، وكذلك لكل مشاهد، والخطاب الأخير للبطل يوضح وجهة نظر المخرج الذي اختار ألم الحياة على عذوبة الخيال، فهذا الألم يحمل في باطنه جماله الخاص، فعذاب الفراق يأتي بسبب عذوبة المحبة، ولا يستطيع الصبي التخلي عن كلاهما والهرب من الحياة.
ويظهر إبداع المخرج في طريقة رسم كل من العالمين، فبينما يبدأ الفيلم بمشهد تفجير المستشفى الذي ماتت فيه أم البطل بما يحمله ذلك من عنف وقسوة، نجد صورة العالم الخيالي شديدة العذوبة خاصة في رسم كائنات “الوار ورا” البيضاء الطائرة، وغرفة الولادة حيث تقيم خالته.
قد يكون فيلم “الصبي ومالك الحزين” آخر أعمال “هاياو ميزاكي”، وربما لهذا السبب جعل خيارات البطل واضحة ومحددة وليست مفتوحة مثل أفلامه الأخرى، كما لو أنه يعطي الأجيال الحالية والقادمة نصيحة من عجوز ثمانيني جرب العيش خلال حرب شديدة البشاعة. ورغم كونه صانع خيال محترف فإنه يختار الواقع في النهاية.