دخلت الدّراما التلفزيونية بيوتَ المصريين منذ العام 1962، أي عقب إنشاء “مبنى التلفزيون ” بعامين، وكان روّاد هذا الفن ثلاثة؛ هم: يوسف مرزوق، وحمادة عبدالوهاب، ونور الدّمرداش، وجاء من بعدهم جيل التفوق والانتشار في المحيط العربي ورموزه: محمد فاضل، وإسماعيل عبدالحافظ، ويحيى العلمي.
ومن حيث الشكل، بدأ المسلسل بسبع حلقاتٍ، تتناول موضوعًا واقعيًا، وكانت “السُباعيّة”، مناسبة للظروف الإنتاجية والفنية، فالأجهزة المستخدمة في التّصوير بدائية، والميزانية المخصصة محدودة لا تكفي غير تكاليف إنتاج الحلقات السبع.
وكانت جهة الإنتاج هي “التلفزيون ” نفسه، وفيما بعد ظهر “اتحاد الإذاعة والتلفزيون “، وتحوَّل قطاع “إنتاج الفيديو” إلى قطاع ضخم القدرات والإمكانات، ولكن في سبعينيات القرن الماضي، جرت الاستعانة بالمخرجين والممثلين المصريين في أستوديوهات: “عجمان ” و”الكويت ” و”الرياض ” و”سوسة ” في تونس، وعمّان في الأردن.
هيمنة الدراما المصرية
ومع توسُّع الدول العربية في إنشاء “التلفزيونات ” ازدهرت تجارة المسلسلات المصرية، وأثرى الفنانون والفنيون المصريون العاملون في “إنتاج الفيديو”، وأصبحت فقرة “المسلسل المصري ” ثابتةً في خرائط برامج التلفزيونات العربية الحكومية، وهذا هو ما قصدته بالماضي المليح، الذي كانت فيه “الهيمنة الدرامية” المصرية تخفي عَوَار الانحسار السياسي، بل العزلة السياسية التي فرضتها ظروف إقدام الرئيس المصري “السادات” على توقيع اتفاقية الصلح المنفرد مع إسرائيل، وهي اتفاقية تصدَّت لها أنظمة “جبهة الصمود والتصدّي “.
ورغم إقدام دول جبهة الصمود والتصدي، على مقاطعة “نجيب محفوظ”، ومنع عرض أفلامه؛ لتأييده “كامب ديفيد”، إلا أن المسلسلات التي أنتجتها الشركات العربية معتمدةً على خبرات مصرية، ظلت تعرض على القنوات الحكومية في الدول المنتجة، خاصة دول الخليج العربي.
وفي ثمانينيات القرن الماضي زاد الإنتاج الدرامي المصري، وكانت باكورة قطاع الإنتاج حلقات مسلسل “ضمير أَبْلَة حِكْمت “، وقامت بدور البطولة فيه الفنانة “فاتن حمامة ” وكتب القصة والسيناريو “أسامة أنور عكاشة ” وأخرجته إنعام محمد علي، وكانت قضيته هي: “أوضاع التربية والتعليم “، والتحوُّل من نظام “رأسمالية الدولة “أو “الاشتراكية العربية ” إلى “الانفتاح الاقتصادي “، وأثر هذا التحوُّل على العلاقة بين “التربية ” والعملية التعليمية في المدارس الخاضعة لوزارة التّعليم.
ثم اهتدى “صفوت الشريف ” وزير الإعلام المصري، ومعه مساعده “ممدوح الليثي” رئيس قطاع الإنتاج في “اتحاد الإذاعة والتلفزيون”، إلى كَنز المخابرات، فكان “صالح مرسي “، هو الذي فتَّش عن هذا الكنز، وجعله في صورة مسلسل مشهور هو: “رأفت الهجَّان “.
وهنا يمكن القول؛ إن المسلسل التلفزيوني أصبح البديل الفعلي للعمل العسكري أو السياسي، فالمغامرة التي أقدم عليها جهاز المخابرات العامة المصري في حقبة “الحروب العربية الإسرائيلية “، حوَّلها فريق الممثلين بقيادة المخرج “يحيى العلمي ” إلى أداة لإلهاب الشعور الوطني، بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي أُطلق عليها: “انتفاضة الحجارة” وكان ـ رأفت الهجَّان ـ أداة من أدوات وزارة الإعلام المصرية لطمأنة “الشعب المصري ” على أنّ “النظام الحاكم ” مازال يرى في إسرائيل العدوَّ الوحيد، وأن “جهاز المخابرات المصري ” يحرس مقدّرات الوطن.
تخصص وإبداع
وفيما بعد خرج الكاتب “محمد حسنين هيكل ” في حلقات أذاعتها قناة الجزيرة بعنوان: “مع هيكل ـ تجربة حياة “، ونفى وجود عملية “رأفت الهجَّان “، وتحدث عن عملية “عصفور”، وهي عبارة عن نجاح حققه جهاز المخابرات المصري تمثل في زرع أجهزة تنَصّت في السفارة والجامعة الأميركيتين بالقاهرة، وكانت العملية ناجحةً في نقل ما يفكّر فيه الأميركيون إلى أسماع الرئيس عبدالناصر.
والسمات العامة للدراما المصرية في حقبة “الماضي المليح” يمكن تلخيصها في اعتمادها على متخصصين مبدعين مدرَّبين تدريبًا رفيع المستوى، ومعاهد التدريب هي معاهد أكاديمية الفنون التابعة لوزارة الثقافة: “معهد الفنون المسرحية، معهد السينما، معهد التذوُّق الفنّي “، وأستوديوهات التلفزيون نفسها كانت بها “كوادر” مؤهلة لعمل مسلسل جيد من الوجهة الفنية.
وكان المسلسل المصري في تلك الحقبة، يعتمد على الأدباء، في كتابة “السيناريو”، والدليل نجده في مسيرة “أسامة أنور عكاشة”، فهو في الأصل قاصّ وروائي، وكانت بداية ظهوره في سوق الإنتاج الدرامي مع قصة للكاتب “سليمان فياض”، كتب “سيناريو” عنها، وأذيعت وحققت نسبة مشاهدة عالية، الأمر الذي جعل مخرجي التلفزيون المصري يعتمدون عليه.
وفيما بعد أصبح مسلسل “ليالي الحِلميّة ” بأجزائه المتعددة، علامةَ من علامات الدّراما التلفزيونية، ومع تنوُّع موضوعات الدراما المصرية، زاد الاعتماد على الأدباء، فعلى سبيل المثال كان مسلسل: “على هامش السيرة “، ومسلسل: “محمد رسول الله ” من تأليف الدكتور طه حسين، وعبد الحميد جودة السحّار، وكان مسلسل “الزَّيني بركات “، وهو تاريخي عن حقبة الدولة المملوكية من تأليف جمال الغيطاني.
ضحالة وانهيار
وفي زمن “الماضي المليح ” قام “محسن زايد” السيناريست الموهوب بتحويل ثلاثية نجيب محفوظ إلى حلقات درامية تلفزيونية، واتسعت دائرة الإفادة من روايات الأدباء حتى شملت بهاء طاهر، وعبد الوهاب الأسواني، ويحيى حقي، وإبراهيم عبد المجيد، وأحمد الشيخ.
وجرت في النهر مياه كثيرة، فدخلت الدراما المصرية حقبة “الحاضر القبيح”، فسقطت في قبضة “الاحتكار”، والاحتكار هنا شمل كل شيء، بداية من الممثلين الذين أصبحوا وجوهًا دوَّارة، تتكرر في كل المسلسلات.
وهي “ِشلّة ” ترضى عنها الجهات المتحكمة في مصائر العباد والبلاد، وتربطها صلات القربى والمصاهرة على طريقة العبارة التي وردت في أغنية للفنانة شادية في مسرحية “ريا وسكينة ” التي تقول: “وناسبنا الحكومة وبقينا قرايب”، فكُل نسيب للحكومة في مرحلة الحاضر الدرامي القبيح، أصبح نجمًا، وكل فنانة مرغوبة من جانب المنتج أصبحت نجمة بالإكراه، وأصبحت “سرقة الأفكار” سمة من سمات الدراما المصرية، بداية من العام 2014.
وأصبح اجترار الأعمال السينمائية القديمة التي جرى إنتاجها في الستينيات والسبعينيات، والجَوْر عليها سمةً من سمات “عصابة الإنتاج ” التي احتكرت السوق، وسيطرت على القنوات وفرضت نفسها بالقوة، فأصبح المشاهد المصري كاليتيم على مائدة اللئيم، لا يشبع ولا يتمتع ولا يفهم شيئًا.
لأن المسلسل أصبح مجرد وعاء إعلاني، تذاع الإعلانات فيه بنسبة تفوق المشاهد التمثيلية، والذين لا يملكون وسيلة ترفيه غير التلفزيون في مصر هم غالبية الشعب في القُرى والمدن الصغيرة، وتحوَّل “شهر رمضان ” إلى شهر كابوسيّ، ضاغط على الأعصاب والقلوب في ظل ظروف اقتصادية قاسية تعصف بالطبقات الشعبية، وتفرض عليها الإقامة الجبرية داخل البيوت.
وفي حقبة “الحاضر القبيح” انهارت عناصر الدراما المصرية، وانكشفت ضحالتها في مواجهة الدراما السورية، التي نجحت في تقديم موضوعات مصرية أو سبق للدراما المصرية تقديمها وتفوَّقت تفوقًا ملاحظًا، مثل مسلسل: “علي الزّيبق ” الذي قدمته الدّراما المصرية منذ عشرات السنوات، لكن النسخة السورية تفوقت بما أتيح لها من ممثلين موهوبين وإمكانات إنتاجية عالية، وكذلك “الظَّاهر بيبرس” الذي أبدع فيه طاقم الفنانين السوريين، خاصةً الفنان “عابد فهد” الذي قدّم شخصية “بيبرس”.
ومازالت الدراما المصرية تواصل انهيارها وتعيش حقبة الحاضر القبيح، وسوف تظل هكذا حتى يأذن الله بمولد فَجر جديد وعصر جديد، لا احتكارَ فيه ولا جماعات مصالح فاسدة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.