الأندلس وغزة وقضايا الأدب والترجمة بعيون المستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيرث دي تيران

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 22 دقيقة للقراءة

كأنه الأندلس، في وصلها بين عالمين من عوالم التاريخ والجغرافيا، يأخذنا الأكاديمي والمستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا (مدريد، 1967) -أستاذ اللغة والأدب العربي والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة- في رحلة بين الأدب والثقافة والترجمة، مناقشا رواية تاريخ الأندلس المنقسمة بين ضفتي المتوسط، ومحللا خلفيات حرب إسرائيل على غزة ثقافيا.

درس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا اللغة العربية وآدابها (مستمعا) في جامعة القاهرة عام 1993 وجامعة دمشق عام 1994، أنجز رسالة الدكتوراه عام 2000 موضوعها “العلاقات الطائفية في لبنان وسوريا من حقبة التنظيمات العثمانية إلى نهاية القرن العشرين”، فإلى الحوار:

  • ترجمت عدة كتب من الإسبانية للعربية وأيضا من العربية إلى الإسبانية بما في ذلك روايات عربية مهمة لروائيين مثل إبراهيم الكوني وإدوارد الخراط والبرغوثي وبهاء طاهر وغسان كنفاني وغيرهم، وأيضا لك ترجمات شعرية لدرويش وسميح القاسم وغيرهم، كيف عشت تجربة الترجمة بشكل عام من العربية إلى الإسبانية؟ وكيف ترجمت الشعر؟

جميل. أريد أن أقول إني في البداية مختص بالترجمة. أنا أصلا مترجم قبل أن أكون مستعربا بالمعنى الواسع جدا للمفردة، فأول تجربتي باللغة العربية جاءت عن طريق الترجمة، ولا بد أن أقول أيضا أني مترجم محلف وأيضا ترجمت لمدة من الزمن الكثير من النصوص والكتب والوثائق المتعلقة بأمور لا علاقة لها بالأدب مثلا أمور تتعلق بالصناعة أو بالتجارة وحتى بالحقوق والقضاء، وكذلك عملت في الترجمة العلمية والصحفية بحكم انتمائي إلى وكالة الأنباء الإسبانية التي كانت لها شعبة للغة العربية في مدينة غرناطة، وبالتالي تعودت على الترجمة المتنوعة على خلاف بعض الزملاء الذين اختصو بالترجمة الأدبية على سبيل المثال ومن ضمنها الأدب، والرواية أو ترجمة الشعر على سبيل المثال، وبالتالي هذا مما أعطاني رؤية واسعة لعالم الترجمة تحديدا من العربية إلى الإسبانية أو من الإسبانية إلى العربية، لأنني في أيام الترجمة الصحفية كنت أترجم من الإسبانية إلى اللغة العربية، وبالتالي عندي تكوين ذو جهتين.

فيما يتعلق بتجربتي الخاصة بالترجمة الأدبية وهي الترجمة الأكثر أهمية دون أي شك، فإني كما تفضلت ركزت أولا على ترجمة الرواية لسبب رئيسي لأن الرواية الآن تشكل الفن الأدبي بامتياز، والناس في إسبانيا تحديدا -وفي أميركا اللاتينية، لأنه دائما نفكر ليس فقط بالجمهور الإسباني وإنما أيضا بالجمهور الأميركي اللاتيني وتحديدا في بعض الدول البالغة الأهمية مثل المكسيك والأرجنتين وتشيلي وكولومبيا وبيرو وغيرهم- فبالتالي نعرف جيدا أن الرواية هي اللاتينية.

  • الأدب اللاتيني نال حصة كبيرة من الاهتمام العربي والعالمي..

صحيح هناك تشابه كبير بين القارئ اللاتيني الناطق بالإسبانية والقارئ العربي، حتى بالنسبة لإسبانيا. إسبانيا دولة أوروبية، وفي كثير من الأمور تندرج ضمن المنظومة الثقافية الأوروبية، ولكن هناك أيضا إحساسا بأن هناك تقاربا شديدا بين الواقع العربي، تحديدا الواقع العربي في المغرب العربي في شمال أفريقيا والواقع الإسباني، وبالتالي الرواية تساعدنا في تقريب العالمين الناطق بالإسبانية والناطق بالعربية.

  • والأدب اللاتيني ينشر عادة في إسبانيا بوجود ناشرين مثل الوكيلة الأدبية الراحلة كارمن بالثيس

صحيح هي كانت صديقة لي وصديقة لعدد كبير من الكتاب اللاتينيين مثل غابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا.. والاثنان حصلا على جائزة نوبل.

صحيح هي كانت ناشطة جدا وهي التي فتحت الأبواب لهؤلاء الكتاب. هؤلاء الكتاب لم يكونوا مشهورين قبل المجيء إلى إسبانيا في كثير من المرات وهم أصبحوا مشاهير هنا في إسبانيا، وهذا ساعدهم في التواصل مع العالم العربي، لأن سرعان ما ترجمت رواياتهم وقصصهم للغة العربية.

وحققت هذه الترجمات شهرة هائلة لدرجة أننا لا نبالغ إذا قلنا إن الرواية العربية الحديثة وتحديدا فن الأقصوصة والقصة مدينة إلى حد كبير لعطاء الكتاب الأميركان اللاتينيين وهذا بفضل الترجمة. الترجمة دائما نقول إنها تفتح الأبواب ولكنها أيضا تكوّن الثقافة وتساعد تطويرها.

  • كيف وجد قراء الإسبانية الأدب العربي المترجم للإسبانية؟

للأسف الشديد. هناك شيء يحيلنا إلى حد كبير إلى أن الروايات والأسماء التي نظنها سوف تنجح في كثير من المرات تبقى مجهولة للقراء الإسبان.

وبالعموم يمكن أن نقول للأسف أيضا أن الرواية العربية المترجمة باللغة الإسبانية لم تحقق حتى الآن النجاح المطلوب. هناك استثناءات، الاستثناء الأول دائما يتمثل في شخصية نجيب محفوظ، هذا الكاتب المصري الذي تُرجم تقريبا كامل أعماله ما عدا بعض الروايات القليلة وبعض المجموعات القصصية وبعض الكتب المتعلقة بمقالاته الصحفية، ولكن أعمال نجيب محفوظ مترجمة بالكامل، وأحيانا نجد ترجمتين مختلفتين للرواية نفسها، وهذا يدل على أن كتابا مثل نجيب محفوظ لهم شعبية وترويج.

وكذلك إلى حد ما محمود درويش في الوقت المعاصر في الشعر، وأيضا قليل يمكن أن نقول عن أدونيس، نتحدث عن مؤلفين لهم ترجمات غزيرة باللغة الإسبانية. ماعدا هؤلاء ربما نجد مؤلفين حققوا نجاحا من خلال رواية أو ديوان شعر واحد لا أكثر، ولكن الأغلبية للأسف لم تنل الشهرة التي تستحقها.

  • في المقابل، كيف يقرأ العرب -كما رأيت أنت- الأدب الإسباني؟

أعتقد أن العرب معجبون أكثر شيء بالأدب الأميركي اللاتيني، لأنني كما قلت سابقا القراء العرب يجدون في هذا الأدب أوجها كثيرة للتشابه، والتواصل مع الأدب الأميركي اللاتيني تواصل سهل إلى حد كبير، وأعتقد أن اللغة التي يستخدمها كتاب أميركا اللاتينية الكبار لغة قريبة جدا إلى المنطق والوعي العربيين. وبالتالي هناك تواصل مستمر. ربما الكتاب الإسبان -وطبعا هناك استثناءات- ولكن ربما الكتاب الإسبان يجدون صعوبة أكثر للتواصل والاتصال المباشر بالقراء العرب.

الأندلس بين شاطئين

  • نذهب إلى موضوع آخر في موضوع التاريخ كيف ترى التاريخ الأندلسي -هذه الحقبة المهمة في العالمين العربي والأوروبي والإسباني بشكل خاص- كيف ترى انقسام التاريخ الأندلسي بين روايتين: رواية الشمال ورواية الجنوب؟

جميل، أنا دائما أحاول أن أضع نفسي في منزلة بين المنزلتين، أقصد أن هناك تيارين رئيسيين، فيما يتعلق بتفسير التاريخ الأندلسي.

التيار الأول وهو الذي يمكن أن نسميه الإسباني القومي المتطرف يحاول دائما التنكر لإنجازات الحضارة الأندلسية. وهو دائما يحاول أن يقول لنا إن هذه الحضارة الأندلسية بالمرتبة الأولى لم تكن حضارة، وثانيا هي كانت تجربة أو ظاهرة عدوانية أو غزوا وهي ظاهرة معادية للطبيعة الإسبانية. هم يؤمنون بأن الشخصية الإسبانية كانت مشكلة تقريبا قبل مجيء العرب والمسلمين إلى الجزيرة الإيبيرية في القرن السابع، وبالتالي يحاولون دائما إنكار أي شيء إيجابي في هذا التراث الأندلسي.

إذا انتقلنا إلى الجهة الأخرى، فطبعا هم يقولون العكس تماما، يقولون إن الحضارة الأندلسية كانت أفضل حضارة على وجه الأرض، وإنها كانت مثالية، وكانت تعيش مظاهر التنوع والتعايش السلمي بين كل الأديان، كانت هذه الظواهر بينة وواضحة والتطور كان مستمرا، وإن الحضارة الأندلسية هي التي شكلت الشخصية الإسبانية، وإنه ما جاء بعد الحضارة الأندلسية جاء مناقضا للشخصية الأندلسية المؤسسة للشخصية الإسبانية. هذه الجهة مبالغة، وهذه الجهة مبالغة أيضا. الجهة الرومانسية أو الرومانتيكية التي ترى في الأندلس الخير وليست قادرة على إيجاد نقاط الضعف، فهذه الجهة لا تساعدنا، ولكن الجهة الأخرى الأكثر تطرفا والعدائية والناكرة للتاريخ أيضا هي جهة لا يمكن أن نعتد بها.

وأنا كذلك أقول الحضارة الأندلسية لها إيجابيات وسلبيات، هي تاريخ مديد ويعبر عن مراحل مثل كل المراحل في تاريخ البشر فيها مراحل تطور وتراجع، وهناك مراحل مليئة بالتناقضات.

ولكني أتفق مع الذين يقولون إن هذه الحضارة كانت مؤسسة ورئيسية جدا لتشكيل الهوية الإسبانية، لأننا رأينا في الأندلس في بعض الفترات في الفترات الأكثر تسامحا والأكثر انفتاحا. رأينا مظاهر عمرانية وثقافية وحضارية لم نرها في بلدان أوروبية أخرى، وخير دليل على ذلك أنه حتى زمن وصول الملوك النصارى الذين طردوا اليهود ثم طردوا المسلمين، رأينا في مناطق الأندلس تنوعا دينيا وطائفيا وعرقيا لم نره في بلدان أخرى، وما قدمه الأندلسيون في فترة معينة وهي القرن العاشر الميلادي وربما القرن التاسع الميلادي كان عنصرا مهما جدا لتشكيل الهوية الأوروبية الحديثة، هذا بدون أدنى شك.

ولكن هناك أيضا سلبيات وهي المتعلقة بفترات التحارب والتناحر والاقتتال فيما بين المسلمين أنفسهم، وكل هذه التقلبات أثرت تأثيرا كبيرا في في استمرارية المفهوم الأندلسي، ولكن الأندلس بالنسبة لنا لا بد أن يرمز إلى ظاهرة حضارية قوية ومهمة جدا في قلب أوروبا، وهي ظاهرة لا بد أن ننظر لها نظرة محايدة إيجابية بعيدا عن السياسة والأيديولوجيا. للأسف الشديد هناك من يحاول دائما أن يقحم الأيديولوجيا عندما يتعلق الأمر بالأندلس، وهذا موقف خاطئ.

  • أنت لديك اهتمام أيضا بالمخطوطات، وكان هناك نقاش حضرناه سويا حول مخطوطات الحرف العربي أو الحرف الأعجمي وبعضها وصل إلى أفريقيا كما تعرف

أنا صراحة تجربتي محدودة لأنني لست خبيرا في مسألة المخطوطات ولا يمكن أن أتحدث بإسهاب عنها، ولكن بحكم تجربتي المحدودة هذه فيمكن أن نقول إن هذه المخطوطات ما زالت كنزا لم نكتشفه بالقدر الكافي وهي موزعة بين البلدان بينها المغرب وتونس بالمناسبة ربما تملك وتختزن أكبر قدر من المخطوطات غير المعروفة وأيضا في تمبكتو وفي إسبانيا ودول شمال أفريقيا وأوروبا وأيضا كما تفضلت في بلدان مثل مالي، وهي لا بد أن تقدم لنا معلومات قيمة جدا عن هذه الفترة. هذه الفترة المضطربة المجهولة إلى حد ما، وهي الفترة الممتدة بين بداية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر وتكون الهوية الموريسكية وكيف كان الموريسكيون ينظرون لمسائل ثقافية وحياتية واجتماعية كثيرة.

  • بالحديث عن هذه الفترة المضطربة، كيف تعرض الرواية الرسمية الإسبانية في المناهج التعليمية والإعلام السائد، كيف يعرض تاريخ هذه الحقبة الحقبة الأندلسية بشكل عام والحقبة الموريسكية بشكل خاص؟

هناك شيء مؤسف في مناهج التعليم. في التعليم الثانوي وفي المدارس وفي المعاهد الحصص المخصصة للحقبة الأندلسية حصص قليلة جدا لا تتعدى في كثير من الأحيان الساعة الواحدة، وإذا راجعت كتب التاريخ المدرسية سوف تجد الفصل المخصص لتاريخ الأندلس لا يتعدى صفحتين أو 3 صفحات، وهذا يدل على أن الاهتمام بالأندلس قليل إلى درجة تثير الدهشة والتساؤل، لماذا نتعامل مع هذه الحقبة بمثل هذا التجاهل؟

علما بأن الحقبة الأندلسية أطول حقبة تاريخية في تاريخ إسبانيا (من حيث الامتداد الزمني) -ولم تبلغها المرحلة الرومانية، ولا المرحلة الإغريقية قبلها، ولا المرحلة القوطية الجرمانية بعدها، ولا حتى المرحلة الحديثة المعاصرة من القرن الخامس عشر حتى اليوم- يمكن أن تقارن المرحلة الأندلسية تحديدا في الجنوب، نحن نتحدث عن 8 قرون، وبالتالي هذا التجاهل لهذه المرحلة المهمة للغاية يدل على شيء من الإهمال وربما التوجيه السياسي أو الأيديولوجي. ربما هذا لا بد أن نبحث فيه، ولكن ربما هناك محاولة لعدم الاهتمام عمدا بهذه الفترة.

  • ربما في السنوات الأخيرة، أصبح هناك زيادة في الاهتمام بهذه الحقبة؟

هذا صحيح هناك منظمات ومؤسسات بالمناسبة لها دور كبير جدا في نشر الثقافة العربية في إسبانيا في الوقت الحاضر وكذلك في التنقيب عن الكنوز -إن صح التعبير- العربية والإسهام الأندلسي في تكوين المجتمع الإسباني.

ومؤسسة “فونسي” (مؤسسة الثقافة الإسلامية) يعود لها الفضل في المشاركة في حملة خاصة للمطالبة بالإقرار الرسمي بالأصول العربية لاسم مدينة مدريد. وهي كلمة مشتقة من “مجرى” وأضيف لها أحرف لاتينية تضاف من أجل تحديد اسم المدينة. مدريد تأسست في القرن التاسع للميلاد على يد أحد الأمراء الأمويين الذي هو محمد، وكانت هذه المدينة أسسها العرب. والمهم في كل هذه هذه الحكاية أن هذه المدينة هي الوحيدة في أوروبا التي تحمل اسما عربيا. وهذه المنظمة وغيرها نشطت كثيرا في هذا المجال في محاولة إظهار الأصول العربية لمدينة مدريد، وإظهار أيضا إسهام العرب في تطوير الفنون الزراعية الإسبانية خصوصا على مستوى الري والفلاحة. وكذلك الفنون المعمارية.

وبالتالي بدأنا نتحدث عن شكل معماري أندلسي يسمونه “المدجن” وتحديدا في مدريد. لأن المفارقة في إسبانيا أن الجميع يعتقد أن الأندلس شيء يخص الأندلسيين (جنوب إسبانيا حاليا) ويظنون أن الأندلس حضارة أو ظاهرة وقعت في الجنوب فقط في غرناطة وإشبيلية وقرطبة ومالقة، ولكن الآن بدأنا نتحدث عن الحضارة الأندلسية الموجودة في الوسط، كانت موجودة في شرق إسبانيا، في فالنسيا، أليكانتي ومدن أخرى كانت موجودة في كتالونيا وكانت الموجودة حتى في منطقة قشتالة، وبالتالي لا بد أن نعود إلى هذه المقاربة التاريخية للأسف الشديد فيما يتعلق بالعرب أنفسهم لا يساعدوننا كثيرا في تطوير هذه الرؤية الجديدة للأندلس.

لماذا؟

تحدث ولا حرج. المشكلة مع الدول العربية، أعتقد أنه ليس هناك تنسيق فيما بينها. ليس هناك محاولة لتوحيد الرأي والموقف. كل دولة عربية تغني على ليلاها ودائما تحاول أن تنجز مشاريع خاصة بها. ليس هناك سياسة ثقافية عربية موجهة حتى يبدو وكأنهم لا يهتمون بالمعالم التاريخية الأندلسية في إسبانيا.

أنا أضرب لك مثالا قبل فترة ذهبت إلى مدينة كاسريس، هي مدينة عربية أصلا هي موجودة في غرب إسبانيا قريبة من الحدود مع البرتغال، إذا ذهبت إلى هذه المدينة سوف تظن أن هذه المدينة كانت يهودية، لماذا؟ لأن دولة إسرائيل تمول المشاريع التي تحاول أن ترمم الآثار اليهودية القديمة. وإذا ذهبت إلى هناك سوف تجد لافتات وملصقات تذكرك بأن الحاخام فلان كان يعيش هنا أو العلامة اليهودي البارز فلان كان يعيش هنا. أو أنه هنا في هذا الموقع كان المعبد اليهودي موجودا، ولكن لا نجد الملصقات واللافتات العربية التي تقول هنا كان المسجد موجودا، وهنا كانت مدرسة عربية أو إسلامية، هنا كان السوق.

وبالتالي هذا نعاني منه ليس فقط على مستوى الأمور الأندلسية أيضا على مستوى اللغة، حتى الآن نحن نطالب بإنشاء معهد للغة العربية عالميا، معهد مثل معهد ثربانتس باللغة الإسبانية أو المعهد الفرنسي أو بريتيش كاونسيل باللغة الإنجليزية، وغوتة في ألمانيا ليس لدينا مركز ثقافي عربي شامل يشمل كل الأنشطة باللغة العربية، فما بالك بهذه الظواهر وهذا مؤسف جدا، وأنا دائما أتساءل لماذا الدول العربية الأكثر ارتباطا بالثقافة الأندلسية وهي اليوم المغرب أو تونس والجزائر، لماذا لا تتفق على الإسهام في هذه المبادرات وتقديم الطروحات والأفكار الإيجابية؟

حرب غزة

  • بالحديث عن إسرائيل، لماذا تؤيد بعض الدول الأوروبية إسرائيل ثقافيا؟ وأيضا تدعم حربها على غزة رغم تعارضها مع القيم الأوروبية الحديثة؟

القضية الأساسية تعود بنا إلى الهوية. الكثير من الغربيين وتحديدا النخب السياسية تؤمن بأن إسرائيل جزء من الغرب، وأن إسرائيل تمثل الغرب في الشرق الأوسط، وأن الإسرائيليين مثلنا، حتى نعبر عن الوضع بعبارة مبسطة، ولما كان الإسرائيليون مثلنا فلا بد أن نؤيدهم، بالمقابل الفلسطيني دائما يمثل الآخر أو الغير أو المجهول الذي يعارضنا، وهذه المقولة منتشرة جدا لدى الأوساط اليمينية وتحديدا اليمينية المتطرفة الأوروبية التي ترى أن إسرائيل لا بد أن تبقى ولا بد أن تكون متفوقة على كل الجوار لأن إسرائيل تمثل الغرب.

أنا أتساءل يا ترى ما هذه القيم الغربية؟ فهم يقولون الديمقراطية والمساواة والقيم الأخلاقية والحداثة، ودائما نصطدم بهذه العبارة الخطيرة: الحداثة. ما هي الحداثة بمفهومهم؟ الحداثة بالنسبة لهم هي القيم الغربية. السؤال الكبير الذي نطرحه على هؤلاء أولا كيف من الممكن أن نناقض نفسنا بمثل هذه الطريقة البشعة؟ لأن إسرائيل الآن تمارس سياسة قمعية وقاهرة لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية ولا أخلاق لما تقوم به إسرائيل. إسرائيل دولة محتلة ومغتصبة. ولكنهم لا يريدون أن ينظروا لهذا الوجه من الحقيقة المرة بالنسبة لهم.

وبالتالي يجبروننا على التوقف عند حدود المسألة كيفما يرونها وهم يقولون لا ولكن إسرائيل عندها ديمقراطية وإسرائيل عندها سياسات منفتحة جدا فيما يتعلق بحقوق المثليين وفيما يتعلق بالأقليات وفيما يتعلق بالتناوب في السلطة، على خلاف ما يحدث في الدول العربية المجاورة التي هي متخلفة اقتصاديا بينما إسرائيل دولة متطورة تكنولوجيا. انظروا إلى إسرائيل كيف طورت نفسها وانظروا إلى الدول العربية المجاورة، وانظروا إلى العلمانية في إسرائيل، وانظروا إلى التدين المفرط في كثير من الدول العربية التي ما زالت تؤمن بهذه المقولات القديمة المعارضة للحداثة، ولكننا نحاول أن نقول لهم هذا الكلام ربما يكون صحيحا أو لا، ولكن أين نحن من القيم الأخلاقية؟ وأين نحن من مفهوم جديد لما هي الحداثة البعيدة عن معنى الاحتلال والاستغلال؟ إسرائيل دولة مستعمرة، دولة محتلة، دولة تسفر (تهجر) أصحاب الأرض، حتى إن كان هؤلاء الأصحاب غير حداثويين بالمعنى الذي يريدونه ولكنهم لهم حقوقهم.

الحداثة هي أن نحترم هذه الحقوق. الحداثة هي أن أفعل عكس ما فعلنا لمدة قرون. أوروبا دائما كانت دولة تمارس الاحتلال وتمارس الاستعمار وتمارس التمييز، نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا بدعوة أوروبية حتى دولة إسرائيل فكرة أوروبية. نظام التمييز في دول كثيرة في أميركا اللاتينية، في شمال أفريقيا في آسيا بدعة أوروبية، وبالتالي هذه البدع لا تمثل الحداثة.

الحداثة لا علاقة لها بالاحتلال، ولا علاقة لها بالاحتقار، ولا علاقة لها بالتسفير، ولا علاقة لها بالقول بأن هناك شعبا متطورا يحق له أن يقمع شعب ليس متطورا. لا علاقة لنا بهذه الحداثة. إذا هذه حداثتكم حداثة أكل عليها الدهر وشرب. لا علاقة لنا بهذه الحداثة. حداثتنا تملي علينا أن نؤمن بالمساواة، أن نؤمن بالقيم الأخلاقية، أن نؤمن بحقوق كل الشعوب. وليس هناك شعب فوق شعب آخر هذه. هذا تناقض. ولكن هذا التناقض يتأسس على أسس ومبادئ مصلحية لأنه في النهاية كل شيء يتعلق بالمفهوم الرأسمالي النيوليبرالي للقضايا الإنسانية الأساسية.

  • هناك أصوات تضامن أوروبية مهمة، خصوصا في إسبانيا وبلدان منها أيرلندا مثلا، ما السياق التاريخي أو الثقافي الذي يجعل هذه الأصوات أوضح من غيرها؟

أعتقد أن المجتمعات المتوسطية تفهم القضية الفلسطينية بطريقة أخرى، أقصد إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص ومالطا، هذه الدول ومجتمعاتها لها مفهوم مختلف للعالم العربي وللقضية الفلسطينية، الرأي العام الإسباني معروف عنه تضامنه التاريخي مع القضية الفلسطينية.

المعضلة الآن أن هذا التيار اليميني المتطرف الذي يكتسح أوروبا بكاملها وأصبح سائدا في دول أوروبية، أدخل تيارات كثيرة في تحركات المجتمعات المدنية والرأي العام في هذه الدول، وأدخلت هذه التيارات الفكرية اليمينية المتطرفة في بلدان مثل إيطاليا مفهوم الخوف والتوجس وشاركت مشاركة تعيسة في تكوين هذا التهديد الكبير، وهو الإٍسلام.

الإسلام هو العدو الرئيسي بالنسبة لهم، ما المقصود بالإسلام؟ يبدوا الأمر غامضا لأنهم ينظرون للإسلام بطريقة عدائية وإشكالية ويعتقدون أن الإسلام يمثل تهديدا مصيريا، من حيث وجود عدد متزايد من المهاجرين المسلمين في أوروبا، ولأن الإسلام بمفهومهم هو الخطر وهو إنقلاب للشعار “الإسلام هو الحل” وأنا لا أفهمه أيضا.

هذا المنظور عن الإسلام الذي يمثل الخطر بالنسبة لهم له جذور تاريخية في حقبة الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا منذ القرن السادس عشر وحتى الـ20 سوف نرى أن حركات المقاومة والتصدي للاستعمار الأوروبي كانت بالأساس إسلامية وكانت تنبت وتطور في بلدان إسلامية، والهزائم الكبرى التي تعرضت لها القوات الإمبريالية الكبرى وتحديدا البريطانية والفرنسية وقعت أساسا في بيئة إسلامية عربية أو أفريقية أو فارسية أو تركية أو كما تريد أن تسميها.

ويعني ذلك أن الإسلام يشكل قوة مصادمة ومقاومة للاستعمار والتوسع الإمبريالي الأوروبي، وهذا الإحساس التاريخي له إسهام كبير في تشكيل هذه العقلية المعارضة لكل ما يمت بصلة إلى الإسلام، وطبعا الفلسطينيون في منظور هؤلاء يمثلون هذا العنصر الإسلامي المعادي وهم أيضا يمثلون “اللاحداثة” وفق هذا المنظور.

لكن المجتمعات المتوسطية لها مفهوم آخر وتلتقي مع مجتمعات أوروبية أخرى مثل المجتمع الأيرلندي، فالأيرلنديون عاشوا تجربة الاستعمار البريطاني وبالتالي يمكن لهم أن يتضامنوا مع الفلسطينيين لأنهم يدركون جيدا أساليب الاستعمار التقليدية، إسرائيل دولة استعمارية بالمعنى الكلاسيكي، وهي دولة ضد الحداثة لأنها تكرر نفس علامات ما رأيناه منذ الاستعمار الإسباني البرتغالي في أميركا اللاتينية وحتى الاستعمار البريطاني الفرنسي في الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص في فلسطين، وبالتالي هذه المجتمعات تعرف هذه الحقائق.

حتى إيطاليا -التي تحكمها اليوم تيارات يمينية متطرفة- الرأي العام فيها واع جدا بما يجري في فلسطين ولكن النخب السياسية الأوروبية مع إسرائيل، لأسباب كثيرة أولها المنطق الحضاري الخاطئ وهذا التفكير المريض بما هي الحداثة، ولأن أوروبا أصبحت سياسيا وثقافيا تابعة للولايات المتحدة، وثالثا لأن هناك مصالح اقتصادية وتجارية ومالية تربط مصير إسرائيل بمصير أوروبا بتنسيق من الولايات المتحدة، كل هذه الأمور مجتمعة وغيرها تشارك في تكوين مثل هذا الموقف.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *