ربما جاء نشر كتاب “وكنا نضحك أحيانا” للشاعر والكاتب النمساوي إريش فريد (1921-1988)، الصادر حديثا عن دار صفصافة، ردا على جبهتين تعملان بلا توقف.
الجبهة الأولى، والتي تتمثل بإسرائيل وصقورها التي تحمل الأفكار الصهيونيّة، التي تشن حرب إبادة مستمرة على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023. بينما تتمثل الجبهة الثانية بالآلة الإعلامية التي ضخّت كتبا كثيرة في ألمانيا وغيرها، خلال وقت قياسي، وتصوّر “إسرائيل ضحية للعنف الفلسطيني الإسلامي المتشدّد”.
“معاداة السامية”
وإذا تركنا جانبا أعمال الجبهة الأولى، التي لا تنفك تزداد وحشية، وتزداد تقمصا لدور الضحية المتحولة إلى جلاد مستمر، فإن الجبهة الثانية تعمل، كما عملت سابقا، إعلاميا في أوروبا وأميركا لتكوين وجهة نظر أحادية الجانب في المسألة الإسرائيلية الفلسطينية.
تلك الجبهة التي تنسى احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينيّة، والحصار الاقتصادي المستمر على قطاع غزة منذ اتفاقية أوسلو، ومنع أهلها من العمل ومنع توفر أبسط الأمور الحياتيّة، وتصوّر إسرائيل “المسالمة” ضحيّة ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكأن لا شيء حدث قبل ذلك التاريخ.
فخلال أيام قليلة أصدرت بعض دور النشر الألمانية، على سبيل المثال، العديد من الكتب الفكرية التي تذهب إلى مخاطبة العقل الأوروبي، وتصوّر المسألة على أنها “دفاع عن النفس” ضد “معاداة السامية” رافعة شعار “لا مكان مجددا لمعاداة السامية واليهود”، ذلك الشعار الذي مسح حقوق المدنيين الفلسطينيين، وبات من الممكن رؤيته حتى على لوحة الإعلانات في المدارس وروضات الأطفال.
ومن تلك الكتب كتاب “ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول”، الصادر عن دار إيديتسيون تيامات في 29 يناير/كانون الثاني 2024، وهو عبارة عن كتاب مقالات لأكثر من 30 مقالة وحوار تم نشرها في الصحف والمواقع الألمانية للعديد من الكتّاب والفنانين المعروفين بتأثيرهم على الرأي العام.
وكذلك كتاب “ما هي معاداة السامية؟، مصطلحات وتعريفات معاداة اليهود”، الصادر عن دار فالشتاين في نهاية يناير/كانون الثاني 2024.
سيرتان
لذلك بدت ترجمة سمير جريس لكتاب السيرة “وكنا نضحك أحيانا” لكاتب شهير من أصول يهودية، ومغضوب عليه من إسرائيل، مناسبة لإفشال أعمال الجبهة الثانية، وكذلك لمدّ القرّاء بمعارف ومعلومات قد لا يعثر عليها ضمن كتاب واحد.
إريش فريد، الذي وُلد في فيينا النمساوية ومات في بادن الألمانية، يُعتبر واحدا من الممثلين الرئيسيين للأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية كشاعر ومترجم وكاتب مقالات. وفي ألمانيا لا يغيب ذكره بسبب قصائده العاطفيّة، وكذلك بسبب ترجماته لشكسبير، إذ يعدها النقاد من أفضل الترجمات. إضافة لترجماته الأخرى لـ”غراهام جرين و”ت. س. إليوت” و”ديلان توماس” و”سلفيا بلاث” و”جون سونغ”.
الشاعر إريش فريد أصرّ دوما أن يُسمي الأشياء بمسمياتها بدون أن يخشى شيئا، ولم يلتزم يوما بالخطاب الرسمي في قضية من القضايا. وواجه اتهامات عنيفة وهجوما شديدا، لكنه ظل على مبادئه، صلبا لا يُهادن
ولكن إريش فريد ليس صاحب قصائد عاطفية فحسب، وهذا ما وضحه المترجم المصري جريس في مقدمة الكتاب في أكثر من 35 صفحة، ضمن الكتاب الذي يحتوي ذكريات فريد في 200 صفحة، بل هو من الشعراء السياسيين الشهيرين في أوروبا والعالم. وهو شاعر “أصرّ دوما أن يُسمي الأشياء بمسمياتها بدون أن يخشى شيئا، ولم يلتزم يوما بالخطاب الرسمي في قضية من القضايا. وواجه اتهامات عنيفة وهجوما شديدا، لكنه ظل على مبادئه، صلبا لا يُهادن”. وفق تعبير سمير جريس.
ظل إريش فريد يُلاحق إسرائيل بقصائد تُذكّرها بعارها الأخلاقي، وخاصة من خلال قصيدته الأشهر “اسمعي يا إسرائيل”، وهو ما عرّضه لهجوم كبير من أبناء جلدته، وجعلهم يُداومون على طمس تلك القصائد السياسية، حتى يتذكر القراء صاحب “قصائد تحذيرية” (1964) و”فيتنام.. و” (1966) و”حرية فتح الفم” (1972) بأنه صاحب قصائد عاطفية شهيرة فقط
وذهب جريس، في تلك السيرة السياسية لفريد، إلى تقديم معلومات سخية من مواقف فريد وقصائده، وخاصة تلك التي كتبها بعد حرب 1967، أو نكسة يونيو/حزيران، وهي الحرب الإسرائيلية الثالثة. حيث ظل يُلاحق إسرائيل بقصائد تُذكّرها بعارها الأخلاقي، وخاصة من خلال قصيدته الأشهر “اسمعي يا إسرائيل”، وهو ما عرّضه لهجوم كبير من أبناء جلدته، وجعلهم يُداومون على طمس تلك القصائد السياسية، حتى يتذكر القراء صاحب “قصائد تحذيرية” (1964) و”فيتنام.. و” (1966) و”حرية فتح الفم” (1972) بأنه صاحب قصائد عاطفية شهيرة فقط.
لا يقدم جريس فقط قصيدته الأشهر تلك، بل قصائد أخرى تتحدث عن الظلم في العالم، وعن المجازر الإسرائيلية في فلسطين ومصر، وعن تقنياته في استخدام المفردات في قصائده، وكذلك عن الأدباء الألمان اليهود الذين لم يتحلوا بشجاعة إريش فريد في نقد السلطات والجرائم وتكميم الأفواه.
في قصيدته الشهيرة “اسمعي يا إسرائيل، يكتب إريش فريد عن اليهود كضحايا للنازية، وبأنه واحد منهم، وبأن أقاربه ماتوا كذلك خنقا أو في غرف الغاز. ثم يقول: “أصبحتم مزارعين مهرة/ رويتم الصحراء/ لكنكم أزحتم/ الفقراءَ الذين سكنوا هنا قبلكم. (..) أنا لم أُرد/ أن تغرقوا في البحر/ ولم أُرد أيضا أن يموت غيركم/ بسببكم في الصحراء عطشا. حينما كنتم مُضطهَدين/ كنتُ واحدا منكم/ كيف أظلّ كذلك/ عندما تضطهدون الآخرين؟”
وفي قصيدته الشهيرة “اسمعي يا إسرائيل، يكتب فريد عن اليهود كضحايا للنازية، وبأنه واحد منهم، وبأن أقاربه ماتوا كذلك خنقا أو في غرف الغاز. ثم يقول: “أصبحتم مزارعين مهرة/ رويتم الصحراء/ لكنكم أزحتم/ الفقراءَ الذين سكنوا هنا قبلكم. (..) أنا لم أُرد/ أن تغرقوا في البحر/ ولم أُرد أيضا أن يموت غيركم/ بسببكم في الصحراء عطشا. حينما كنتم مُضطهَدين/ كنتُ واحدا منكم/ كيف أظلّ كذلك/ عندما تضطهدون الآخرين؟”.
السيرة الأخرى
هذه السيرة التي كتبها جريس لا توجد، بكل تفاصيلها، في السيرة التي كتبها إريش فريد في هذا الكتاب. ولا يذكر فريد حتى تلك القصائد التي سمّمت حياة إسرائيل وحياته، ولا المقالات التي أوصلته متهما إلى قاعات المحاكم؛ بل يكتب سيرة عائلة ضمن سيرة جماعة لاقوا الويلات من النازية.
يفتتح فريد مذكراته في “وكنا نضحك أحيانا” من حكايات جدته. من حياة جده وجدته، أي يكتب عمّا قبل سيرته، أو ما هو أصل سيرته فيما بعد. ثم عن الطفل فريد ضمن عائلة يهودية غير متزمتة، وعن مربيته وأمه ووالده الذي مات أثناء التحقيق معه من البوليس السري النازي. عن الطفل فريد الذي شهد “يوم الجمعة الدامي، وهو في السادسة من عمره، عندما أطلقت الشرطة النمساوية النار على متظاهرين تظاهروا ضد قرار محكمة برّأت مجموعة من اليمينين الذين قتلوا شخصين. رأى الطفل فريد ذلك وترسّخ المشهد الذي أشرف عليه رئيس شرطة فيينا آنذاك.
في العام التالي كان على فريد أن يُلقي قصيدة في احتفالات المدرسة بأعياد الميلاد. وصعد خشبة المسرح، وقال للجمهور إنه يعتذر عن قراءة القصيدة “لوجود رئيس الشرطة “في القاعة، ذاك الذي أعطى أوامره بقتل المتظاهرين!! فغادر رئيس الشرطة غاضبا. عندها قال فريد للجمهور “الآن يمكنني أن أتلو قصيدتي”.
كان الأساس الصلب لتكوين إريش فريد السياسي: مشاهدة الناس الأبرياء وهم يُطلق عليهم النار ويُقتلون، والوقوف بشجاعة في وجه رئيس الشرطة الذي أعطى أوامر القتل؛ ولكنه كذلك كان أساسا لتكوين فريد الأدبي، فصار كاتب قصائد وممثلا في مسرحيات جوالة
هذا كان الأساس الصلب لتكوين إريش فريد السياسي: مشاهدة الناس الأبرياء وهم يُطلق عليهم النار ويُقتلون، والوقوف بشجاعة في وجه رئيس الشرطة الذي أعطى أوامر القتل؛ ولكنه كذلك كان أساسا لتكوين فريد الأدبي، فصار كاتب قصائد وممثلا في مسرحيات جوالة.
رحلة من النازية إلى لندن
أكثر أجزاء كتاب السيرة هذا يذهب إلى حكايات عن أصدقاء الطفولة الذين صاروا أعضاء في منظمات هتلر الطلابية، وعن ضم النمسا من قبل ألمانيا، وصعود النازية المرعب، وعن الهوان والظلم الذي لاقاه اليهود، وخاصة الفقراء واليساريين، على يد المتطوعين، قبل اجتياح أجهزة المخابرات النازية للنمسا. تلك الحكايات امتدت حتى عام 1938، وهو عام وصول فريد إلى لندن وحيدا، ناجيا من المصير الذي لاقته عائلته، والعائلات اليهودية الباقية في فيينا.
وفي لندن سيعثر القارئ على حياة العوز وحياة ما قبل وما بعد الحرب، وعلى فريد الذي استعمل عشرات الوسائل لإنقاذ أطفال ومرضى من اليهود الألمان، وتحريرهم من المحرقة الرهيبة.
أعمال إريش فريد تعتبر “صرخة احتجاج صادقة، ودعوة للخروج من نفق العصبية المظلم إلى الآفاق السياسية الرحبة؛ دعوة إلى محاربة الظلم أينما كان، وأيا مَن كان يرتكبه”. ومن هذه المبادئ “نبعت مناصرته المطلقة للقضية الفلسطينية”؛ على حد تعبير المترجم سمير جريس
الكتاب هو عن حكايات جيران فريد وعائلته التي تكونت على مهل، وعن مرضه الخلقي الذي صنع ذكريات له منذ طفولته وحتى مماته، وعن فريد الطفل والشاب والمنفي والرجل والعجوز الذي ينتظر الموت، ذلك العجوز الذي صار شاعرا شعبيا بسبب قصائده العاطفية الشهيرة، وجعلت الجوائز تذهب إليه تواليا منذ عام 1972، مع جائزة التقدير النمساوية في الأدب، وصولا إلى جائزة جيورج بوشنر في عام 1987، قبل رحيله بعام واحد.
من يقرأ كتاب المذكرات هذا سيجد كأنه تذكير متجدد لما عاناه اليهود في أجزاء كثيرة من العالم، وسيبدو كأنه مكتوب للقارئ الغربي، لكي لا تجد معاداة السامية ولو مليمترا واحدا في أوربا من جديد؛ لذلك تبدو مقدمة المترجم مهمة جدا، وسببا في فهم مناسبة نشر هذا الكتاب الآن، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة.
ومن هنا يذهب جريس إلى أن أعمال إريش فريد تعتبر “صرخة احتجاج صادقة، ودعوة للخروج من نفق العصبية المظلم إلى الآفاق السياسية الرحبة؛ دعوة إلى محاربة الظلم أينما كان، وأيا مَن كان يرتكبه”. ومن هذه المبادئ “نبعت مناصرته المطلقة للقضية الفلسطينية”؛ على حد تعبير المترجم سمير جريس.