بعد مرور 15 عاما على رحيله، تبدو رحلة المؤلف والأكاديمي المصري عبد الوهاب المسيري الفكرية أكثر راهنية بالنظر للتحولات التي يمر بها العالم العربي اليوم. ويعدّ المسيري من أبرز المتخصصين في تاريخ الحركة الصهيونية والقضية الفلسطينية ودراسات الأدب والحداثة والفلسفة المعاصرة، فضلا عن نشاطه السياسي.
أغنى المفكر الراحل المكتبة العربية بعشرات المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، وتنوعت بين الموسوعات والدراسات والمقالات، ولعل أبرزها “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد” التي استغرقت ربع قرن في إعدادها، وتصنف من أهم الموسوعات العربية في القرن العشرين.
كتب المسيري أكثر من 30 مقالا نشرت في الجزيرة نت، وكان آخرها مقال أرسله لينشر بالتزامن مع رحيله، واستضافه برنامج بلا حدود قبل شهرين من وفاته، وبرنامج زيارة خاصة في حلقتين تم بثهما بعد أيام من وفاته في مستشفى فلسطين بالقاهرة بداية يوليو/تموز 2008، وقال المسيري في ذلك الحوار إنه رغم تطبيع حكومات عربية مع إسرائيل “تظل الجماهير بفطرتها السليمة معادية للصهيونية”.
المأساة والملهاة
وفي مقاله “الدولة الصهيونية بين المأساة والملهاة” الذي نشر للمرة الأولى بعد وفاته، كتب المسيري قائلا “على عكس ما يتصور الكثيرون، فإن هاجس نهاية الدولة اليهودية يعشش في الوجدان الإسرائيلي، وهم محقون في ذلك، إذ يجب ألا ننسى أن كل الجيوب الاستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية – الجيب الاستيطاني الفرنسي في الجزائر- دولة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا) قد لاقت نفس المصير، أي الاختفاء”.
واستعرض المسيري في مقاله بعض النكات التي يطلقها الإسرائيليون وتعبر عن حقيقة رؤيتهم للواقع واستجابتهم له، “وهي رؤية مختلفة عن التصريحات الصهيونية وعن الصورة التي يقدّمها الإعلام العربي وبعض الدراسات الأكاديمية التي تكتفي بدراسة التوراة والتلمود والتصريحات الصهيونية، بدلا من دراسة الواقع الاستيطاني الصهيوني بكل تناقضاته وإنجازاته وإخفاقاته”.
ويقول المسيري إن النكتة بكل حسناتها ومساوئها تعبر عما يسمى المسكوت عنه، وهي الأمور التي لا يمكن التصريح بها لأسباب عديدة. قد تكون هذه الأسباب ذاتية، بمعنى أنه لا يمكن للمرء أن يواجهها بصراحة، وقد تكون أسبابا موضوعية، بمعنى أن المرء يخشى أن يصرّح برأيه علانية.
ويستعرض المسيري بعض النكات التي جمعها من الصحف الإسرائيلية، ويتحدث عن الإسرائيليين قائلا “لقد أخبرهم الغرب أنه سيوطنهم في صهيون، فلسطين، أرض السمن والعسل (كما تخبرهم الرواية التوراتية)، وهي أرض يسكنها العماليق والكنعانيون الذين يمكن إبادتهم ببساطة (كما تخبرهم الرواية التوراتية أيضا، وكما تخبرهم الرواية التاريخية لما حدث في تجارب استيطانية أخرى مثل الولايات المتحدة وأستراليا)”.
ويتابع مستدركا “ولكنهم بدلا من ذلك وجدوا أن فلسطين عامرة بسكانها الذين يتكاثرون كما وكيفا، ويقاومونهم بكل عنف. وأن الغرب في واقع الأمر كان يود التخلص منهم من خلال توطينهم في منطقة ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة له، حتى يمكنهم حماية مصالحه، وأنهم دخلوا في طريق مسدود، فصراعهم مع الفلسطينيين والعرب مستمر لم يتوقف منذ بداية الاستيطان عام 1882 حتى العام 2007، ولا توجد نهاية للصراع في الأفق. وقد ولَّد هذا عندهم إحساسا سوداويا بالورطة التاريخية وشعورا بفقدان الاتجاه”.
التاريخ والحلول
وفي مقاله “الرؤية الصهيونية للتاريخ”، يشرح المسيري فلسفة “الحلولية”، بأن يحل الإله في كل مخلوقاته أو في أحدها ويتماهى معها ليصبحا جوهرا واحدا، ويتابع “الرؤية اليهودية للتاريخ -في تصوري- رؤية حلولية، بمعنى أن بعض الحاخامات كانوا يتصورون أن الإله قد حل في الشعب اليهودي فأصبح شعبا مختارا، كل أفعاله -خيّرة كانت أم شريرة- أفعال مقدسة، وتاريخه أصبح تاريخا مقدسا”.
ويعتبر أن الصهاينة ورثوا هذه الرؤية الحلولية التي تتبدى في “الخلط بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدس، فالتاريخ الذي ورد في القرآن -أو القصص التي وردت فيه- ليس تاريخا زمنيا، وإنما هو تاريخ يهدف إلى هداية الناس”.
ومن هنا، فإن قصص الأنبياء -كما يبيّن الدكتور علي عبد الواحد وافي- ليست كاملة، وإنما تم اختيار أحداث معينة ذات دلالة، حتى يتضح الدرس الأخلاقي وحتى تظهر الموعظة.
ومن هنا، لا يمكن الحديث عن تاريخ إسلامي، وإنما تواريخ المسلمين. والتاريخ الزمني هو مجال الفوضى، ومجال النهوض والسقوط، أما التاريخ المقدَّس فهو تاريخ مثالي، يُكافَأ فيه المصيب، ويُجازَى المخطئ. ومهمة التاريخ المقدس هي تزويد الإنسان بمعايير يحاكم بها التاريخ الزمني.
وعلى العكس من هذا، يرى بعض الصهاينة أن الإله قد حل في التاريخ ومن ثَمَّ يختلط التاريخ البشري الزمني -مجالُ الهداية والضلال- بالتاريخ المقدَّس الذي تتجلى من خلاله إرادةُ الله، في كل كبيرة منه وصغيرة، بحسب ما كتبه المفكر الراحل.
ولذا نجد أن الصهاينة يذهبون إلى أن القَصص الذي ورد في العهد القديم (تاريخ الملوك والأسباط) هو تاريخ مقدس وزمني في ذات الوقت. ولذا نجد أن القصص التوراتي يرد كاملا بكل وقائعه، فوقائع تاريخ الملوك العبرانيين -على سبيل المثال- ترد كاملة منذ اعتلاء الملك العرش حتى وفاته.
فالهدف ليس الموعظة ولا تزويد المؤمن بالمعايير الأخلاقية، وإنما الهدف هو رصد كل الوقائع، فهي موضع الحلول، وهي مهمة في حد ذاتها، كما أنها تتجاوز الخير والشر، ولذا لا يمكن الحكم عليها بأية معايير أخلاقية، بحسب تعبير المسيري.
العالم العربي
وفي مقاله “الشرق الأوسط الجديد في التصور الأميركي الصهيوني”، يقول المسيري إنه “يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن 19 تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه”.
ويتابع “وهذا التصور للشرق الأوسط ينطلق من تصور أن التاريخ متوقف تماما بهذه المنطقة، وأن الشعب العربي سيظل مجرد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعا أعمى للولايات المتحدة”.
ويكمل “ففي إطار التقسيم تصبح الدولة الصهيونية الاستيطانية، المغروسة غرسا في الجسد العربي، دولة طبيعية بل قائدة. فالتقسيم هو في واقع الأمر عملية تطبيع للدولة الصهيونية التي تعاني من شذوذها البنيوي، باعتبارها جسدا غريبا غرس غرسا بالمنطقة العربية”.
ويعتبر المسيري أن هذه النظرة تستبطن رؤية تعتبر الشرق العربي مجرد مساحة أو منطقة بلا تاريخ ولا تراث مشترك، تقطنها جماعات دينية وعرقية لا يربطها رابط وليست لها ذاكرة تاريخية ولا إحساس بالكرامة، فالعربي مخلوق مادي اقتصادي تحركه الدوافع المادية الاقتصادية، بحسب هذه الرؤية.