بغداد – في تطور جديد للأحداث، طفت مسألة سن التقاعد بوصفها واحدة من أبرز القضايا التي أثارت جدلاً واسعا، حيث يسعى مجلس النواب العراقي في دورته الانتخابية الحالية إلى إعادة النظر في قرار تخفيض سن التقاعد إلى 60 عاما، وطرح مقترح بإعادة سن التقاعد إلى 63 عاما كما كان عليه سابقا.
يأتي هذا المقترح في ظل تصاعد الأصوات المعارضة لقرار التخفيض، الذي ترى فيه تهديدا لاستقرار المؤسسات الحكومية وفقدانا للخبرات التي اكتسبها الموظفون على مدى سنوات طويلة من الخدمة خاصة في القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم.
فبعد أن شهد العراق في أكتوبر/تشرين الأول 2019 حراكا شعبيا واسعا حمل آمال الشباب في تغيير الواقع وتوفير فرص عمل لهم، جاء حينها قرار تخفيض سن التقاعد إلى 60 عاما في إطار سلسلة الإصلاحات التي طالب بها الشارع، إلا أن هذا القرار لم يلبث أن أثار جدلاً واسعا.
سد الفجوة بين الخبرات والشباب
عضو اللجنة المالية بالبرلمان مصطفى الكرعاوي أكد أن التعديلات المقترحة على قانون التقاعد لن تستهدف عددا محددا من الموظفين، بل ستشمل جميع من بلغ سن الستين، موضحا أن هناك اقتراحا برفع سن التقاعد إلى 63 عاما، وهو أمر سيؤثر على شريحة واسعة من الموظفين.
وأشار الكرعاوي، في حديث للجزيرة نت، إلى أن القوى العاملة العراقية تعاني من شح في الخبرات، خاصة بعد توقف التعيينات الحكومية خلال السنوات الأخيرة، مشيرا إلى أن العديد من الموظفين الذين وصلوا لسن التقاعد هم من الكفاءات التي اكتسبت خبرة واسعة خلال فترة عملها الطويلة، وبالتالي فإن التقاعد المبكر لهذه الفئة سيزيد من الفجوة بين الخبرات المتراكمة والشباب الذين يفتقرون إلى الخبرة العملية.
وبيّن أن هذا التعديل سيكون ذا فائدة لصندوق التقاعد، إذ إن تأجيل تقاعد العاملين سيعود بالنفع على الصندوق بالنظر إلى مساهماتهم.
من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، يرى الكرعاوي أن العراق بحاجة ماسة إلى الخبرات التي يمتلكها الموظفون الأكبر سنا، إذ يمكنهم نقل خبراتهم إلى الجيل الجديد من الموظفين. كما أن بقاءهم في الخدمة سيسهم في استقرار المؤسسات الحكومية.
أما بالنسبة للشباب، فيرى الكرعاوي أن الحل الأمثل لتوفير فرص عمل لهم يكمن في تنشيط القطاع الخاص، وليس الاعتماد على التعيينات الحكومية المستمرة، حتى يتم تخفيف الضغط على الموازنة العامة للدولة.
حق الموظف وطموحات الشباب
الخبير المالي والمصرفي مصطفى حنتوش استبعد إمكانية تطبيق قرار زيادة سن التقاعد من 60 إلى 63 عاما، كما هو معمول به في العديد من الدول.
وأرجع حنتوش، في حديثه للجزيرة نت، هذا الاستبعاد إلى عدة عوامل متداخلة، مشيرا إلى أن استمرار الموظف القادر على العمل في وظيفته حق مشروع، إلا أن هذا الحق يصطدم بشكل مباشر بطموحات الشباب العراقيين الذين يسعون للحصول على فرص عمل، فالعراق يشهد سنويا ما يقرب من 500 ألف شاب يبحث عن عمل ما بين الخريجين وباقي الشرائح، مما يزيد من حدة البطالة بين الشباب.
وأشار إلى أن قرار خفض سن التقاعد إلى 60 عاما في السابق كان يهدف لتوفير فرص عمل جديدة للشباب بحيث تم توفير ما يقارب 200 ألف وظيفة، ولكن التجربة أثبتت عدم كفاءة هذا الإجراء في حل مشكلة البطالة بشكل جذري، مشيرا إلى أن العراق ما زال يعاني من عجز كبير في توفير فرص عمل، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الصناعة والزراعة والسياحة.
وأكد جنتوش أن حل مشكلة البطالة لا يقتصر على رفع سن التقاعد، بل يتطلب جهودا متكاملة لتنشيط الاقتصاد وتوفير بيئة جاذبة للاستثمار، مشددا على أن العراق يمتلك إمكانات كبيرة لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، ولكن هذه الإمكانات تحتاج إلى استثمار حقيقي من خلال مكافحة الفساد وتطوير البنية التحتية ودعم القطاع الخاص.
ورأى أن زيادة سن التقاعد قد تؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة، خاصة وأن هناك التزاما أخلاقيا وقانونيا من الدولة بتوفير فرص عمل للشباب، مضيفا أن الموظف المتقاعد يحصل على راتب تقاعدي يضمن له عيشا كريما، في حين أن العاطل عن العمل لا يجد أي مصدر دخل.
واقترح حنتوش حلولاً مرنة لبعض الحالات الخاصة مثل الموظفين الذين لم يكملوا 15 عامًا من الخدمة من خلال تمديد مدة خدمتهم، أو منح الوزير الصلاحية لتمديد خدمة الموظفين الذين لا غنى عنهم لمدة عامين إضافيين، مشيرا إلى أنه “يحال سنويا ما بين 50 و60 ألف موظف على التقاعد، وإذا تم تعديل سن التقاعد فإنه ما بين 100 و150 ألف موظف سيستمرون في وظائفهم”.
تحقيق التوازن
أكد الناشط المجتمعي علي الحبيب أن مسألة رفع سن التقاعد تتطلب دراسة متأنية للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وذلك لضمان تحقيق التوازن بين احتياجات الأجيال المختلفة.
وقال، في حديث للجزيرة نت، إن رفع سن التقاعد قد يؤدي إلى زيادة الضغط على فرص العمل المتاحة للشباب، مما يحد من اندماجهم في سوق العمل، ومن جهة أخرى، قد يسهم في زيادة الضغط على الموارد المالية للدولة، خاصة في ظل ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتحسن الأوضاع الصحية التي قد تدفع الموظفين للبقاء في الخدمة لفترات أطول.
وأضاف الحبيب أن هناك بعض الاستثناءات التي قد تستدعي إبقاء بعض الموظفين في وظائفهم، مثل الأطباء والمهندسين ذوي الخبرة العالية والأكاديميين، نظرا لأهمية دورهم في دفع عجلة التنمية، مستدركا بالقول “ومع ذلك، يجب أن يكون ذلك ضمن إطار محدد ووفق آليات واضحة بحيث لا يتم على حساب حقوق الشباب في الحصول على فرص عمل”.
ولفت إلى ضرورة وجود توازن بين السياسات التوظيفية وسن التقاعد من خلال اعتماد برامج تدريبية للشباب لتمكينهم من شغل الوظائف الشاغرة، وتحفيز الموظفين على الخروج إلى التقاعد المبكر عبر تقديم حوافز مالية ومعنوية.
واقترح الحبيب اعتماد آلية لتبادل الخبرات بين الموظفين المتقاعدين والشباب من أجل ضمان استمرارية المعرفة ونقلها إلى الأجيال القادمة.
وشدد الحبيب على أهمية التركيز على رفع سن التقاعد في التخصصات التي تعاني من نقص في الكفاءات، مثل التخصصات النادرة أو التي تتطلب خبرة عالية، بدلاً من تطبيق هذه السياسة بشكل عام على جميع الموظفين.
وحذر من أن “حرمان الشباب من فرص العمل نتيجة رفع سن التقاعد بشكل عشوائي أمرٌ غير مقبول، ويجب تجنبه قدر الإمكان”.