غزة- في سوق الصحابة الأكبر وسط مدينة غزة، ينادي بائع الخضار بصوت يطغى على ضوضاء المتزاحمين هنا “كيلو البندورة بـ20″، ليقاطعه رجل ستيني متعجبا “كانت بالأمس بـ8 شواكل”.
التفت المارة الذين يحملون التساؤل ذاته ليسمعوا تبرير البائع “هذا امبارح، نحن أولاد اليوم”، لينفضّ الرجل وهو يقول “ما هذا السوق؟ كل يوم هو في شأن”.
إلى الأمام قليلا، تُفاصل الحاجة سنية بائع البيض وتطلب منه توضيحا لسبب ارتفاع سعره لـ3 أضعاف خلال يوم واحد، فيعطيها ردا بدا لها معقدا “بالأمس كان البيض مصريا، أما اليوم فهو بيض بلدي”.
اقتربت منها الجزيرة نت لتسمع تعقيبها على تعليق التاجر، فقالت “نجد صنفا اليوم ونعود اليوم التالي فلا نجده، نشتريه رخيصا اليوم ونرجع مرة أخرى نجد سعره مضاعفا”.
تغير يومي
تغيرٌ يومي ومطرد في أسعار البضائع في أسواق غزة يعزوه التجار إلى الاحتلال الذي لا يسمح بدخول شاحنات المساعدات، فتشحّ المنتجات ويرتفع سعرها والعكس بالعكس، كما فسّر التاجر (م.ن) للجزيرة نت.
أما بخصوص تذبذب السلع، فقال التاجر إن إحدى الشركات تنفرد بالتحكم بالأصناف التي تدخل فتمنع ما تشاء وتسمح بما تشاء تبعا لمصالحها. وصار وجود اللحوم في كل غزة مقرونا بموافقتها على إدخالها، وانقطاع الفواكه يأتي بعد منع تلك الشركة دخولها إلى القطاع، بحسب المصدر ذاته.
وأضاف أن الحكومة في غزة لم تجنِ الضرائب منذ بداية الحرب، وحاولت ضبط الأسعار من خلال عمل نقاط بيع للرقابة على التجار، لكن الوضع الأمني والتصعيد والاستهداف المستمر لأجهزة الحكومة ألغى هذا النظام.
وعلى الرغم من دخول أصناف من الخضار وبعض الفواكه واللحوم والأطعمة إلى السوق مؤخرا، فإن أسعارها ليست في متناول معظم الغزيين.
وقطعت أم محمود شارع السوق كاملا وهي تسأل الباعة عن أسعار الخضار والسلع غير أنها لم تشترِ منها شيئا. وسألتها الجزيرة نت “كيف وجدتِ الأسعار يا حجة؟”. لتجيب “والله يا بنتي آتي كل يوم أسأل عن الأسعار علّ وعسى أصير قادرة على شرائها، فزوجي مريض ولا دخل لنا، الله وحده يعلم كيف أدبّر الشيكل، وأرخص نوع خضار بـ15 شيكلا”.
“ماذا تفعلين وأنتِ تتجولين وتعودين للبيت بأيدٍ خاوية؟” سألناها، لترد وهي في طريق عودتها للمنزل “العين بتاكل يا بنتي ولما تشبع العين البطن بيشبع، شو بدنا نعمل يعني”.
لجوء اضطراري
أمام محل اللحوم شاهدنا البائع يفصل بين الطازجة منها والمجمدة، حيث يقترب سعر كيلوغرام اللحم الطازج من 100 دولار، أما المجمّد فيصل سعر الكيلوغرام منه إلى 20 دولارا.
ويحمل أبو خليل كيسا من اللحم ويعلق مبتسما “وأخيرا صرنا نلاقي شيئا نشتريه”، ثم يتابع “عمري ما اشتريت لحما مجمدا، بس لجأت له اليوم مضطرا، يعني ريحة البر ولا عدمه، لنا أشهر لم نذق اللحم”.
وحدّ دخول الشاحنات الإغاثية وانخفاض سعر الدقيق وفتح عدد من المخابز وبيع اللحوم والدواجن من تفاقم المجاعة التي استشرت في الأشهر الأخيرة، وأحدث انفراجة يسيرة في مدينة غزة.
وجاءت الانفراجة بعد ضغط أممي على إسرائيل التي قتلت عمدا أفرادا من المطبخ المركزي العالمي، في محاولة منها لإفشال استكمال بناء الميناء البحري لتفرض سيطرتها على منافذ قطاع غزة وتعطي صكوك السماح أو المنع لما يأكله الفلسطيني المحاصر في القطاع، كما يقول مراقبون.
وفهم الفلسطينيون المناورة رغم إظهار بعض المشاهد المصورة من غزة لانفراجة حلت بأسواقها، وخاصة على صفحات نشطاء ومؤثرين.
وقالت الناشطة على منصات التواصل الاجتماعي هالة شحادة للجزيرة نت، إن الفرحة التي ظهرت بمنشوراتهم كان منبعها نجاتهم من المجاعة وانتصارهم على الموت. وأضافت أنهم دفعوا ثمن لقمة العيش نصف عام من الجوع وأرواح شباب كثر خسروهم وهم يحصّلونها، وفق تعبيرها.
لكنها في الوقت ذاته لفتت إلى أن الذي نشروه “ليس معناه أنهم يعيشون في العصر الوردي ولا أن المجاعة انتهت أو أن الحرب توقفت، “نحن نعيش اليوم ولا نعرف ما هو شكل حياتنا غدا”.
قلق منطقي
وتتفق معها الناشطة الصحفية آية أبو طاقية التي ترى أن ما يتوفر اليوم بالسوق قليل ومحدود جدا وما يزال مكلفا جدا. وتقول للجزيرة نت إنهم سيفرحون فعلا حين يعود سعر كيلوغرام الطماطم إلى شيكل واحد (الدولار يساوي 3.7 شيكلات) مثلما كان قبل الحرب، وليس حين ينخفض سعره إلى 20 شيكلا، كما اليوم.
وتضيف، وهي زوجة شهيد وأم لعدة أطفال، “بكيت كثيرا وشعرت بالعجز أمام أطفالي في كل مرة كنت أخرج فيها للسوق أبحث عن أي طعام فلا أجده”. وتؤكد أنهم ما زالوا يعيشون القلق في صباح كل يوم حتى صار الواحد منهم يريد تخزين كل شيء، حتى لا يتكرر معه شعور المجاعة.
وبرأي مختصين، فإن هذا القلق منطقي وغير مبالغ فيه ألبتة، حيث قال الباحث الاقتصادي محمد أبو جياب للجزيرة نت إن يومين فقط من عدم دخول الشاحنات سيعيدان المجاعة بالزخم ذاته الذي كانت عليه، فلا مخازن ولا إدارة. وما يُضخ في السوق يُستهلك يوميا.
وأشار أبو جياب إلى أن الأزمة الإنسانية في غزة لا تزال متفاقمة في ظل انعدام الماء والدواء ومنع إدخال المحروقات وغاز الطهي، عدا عن ما أسماه حرب السيولة التي خلقها الاحتلال من خلال تدميره المصارف والبنوك ونهب ما فيها.
وأكد أن الموظف لا يستطيع تلقي راتبه منذ 7 أشهر، والتحويلات المالية أضحت اليوم صعبة ومقيدة بسبب انهيار المنظومة البنكية والمصارف وتعطل الدورة المالية للقطاع الإنتاجي.
وهذه مشكلة يراها المواطنون في غزة شبحا يطاردهم، حيث يقول المواطن سعدي محمد “من لا يمتلك نقودا لا يمكنه أن يعيش، ومن كان معه فنقوده نفدت من الغلاء وحرب الاستنزاف التي نعيشها”.
وأوضح للجزيرة نت، أن الاحتلال يحاول أن يفرض عليهم واقعا جديدا ويتوقع منهم القبول أو الرضا به، ولكن مطالبهم التي يحاول الاحتلال تقزيمها أكبر من خفض الأسعار أو توفير سلع إضافية بالسوق، وهي أن يعودوا أحرارا ويعيشوا بكرامة.
وشدد على أنه لا يمكن أن يرضوا بأن تتحكم إسرائيل بلقمتهم وبحياتهم، وأنه ليس هذا هو شكل الحياة التي صمد بها في شمال القطاع وفقد نصف عائلته من أجلها، بحسب تعبيره.