صناع بهجة رمضان في مصر يكافحون من أجل البقاء

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

الإسكندرية – تزدهر بعض المهن الموسمية في مصر خلال شهر رمضان المبارك وتضفي أجواء احتفالية ترسم البسمة والسعادة بكل الشوارع والميادين على وجوه المواطنين ولدى الباعة المتخصصين بها حيث تعكس هذه الحرف التقليدية التراث الشعبي الذي تميز به المجتمع المصري وتناقلته الأجيال منذ عقود طويلة.

لكن في الفترة الأخيرة وعلى الرغم من محاولات الحفاظ على هذه الحرف التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأجواء الشهر الكريم وتشكل مصدر رزق وفرصة لتحسين دخل كثير من البسطاء خصوصا في هذه الفترة من العام، فرضت التحولات الاقتصادية والتكنولوجية واقعًا جديدًا جعل استمرارها محل تساؤل.

وتواجه هذه المهن ومنها صناعة الفوانيس وبيعها، وأماكن بيع الكنافة والقطايف وغيرها من الحلويات المتوارثة، إضافة إلى العصائر الرمضانية مرورًا بفرق الإنشاد الديني، وخيام السحور، تحديات كبيرة في ظل التطورات التكنولوجية، والتغيرات الاقتصادية، وتبدل أنماط الاستهلاك، مما يضع العاملين فيها أمام معادلة صعبة بين الحفاظ على التراث ومواكبة العصر.

الفوانيس

داخل ورشة صغيرة في أحد أزقة منطقة المنشية بالإسكندرية شمالي مصر، يجلس عم عبد الرحمن، كما يُنادى، وهو حرفي ستيني، وسط أكوام من الفوانيس المعدنية والزجاج الملون، منهمكًا في تثبيت قطع الزخارف النحاسية على أحد الفوانيس الكبيرة التي تنعكس منها أضواء المصابيح الخافتة على وجهه، فتمنحه ملامح تحمل مزيجًا من الإرهاق والحب لما يصنعه.

يقول للجزيرة نت وهو يمرر يده على مصباح نحاسي مزخرف “لطالما كان فانوس رمضان رمزًا رئيسيًا يعبر عن روح الشهر الفضيل في البيوت ومختلف الأسواق والشوارع، وكل عام نستعد قبل بداية شهر رمضان بتجهيز كميات كبيرة من الزجاج والمعدن وغيرها من الخامات اللازمة للتصنيع، لكن مع الظروف الاقتصادية وارتفاع الأسعار تراجعت الحرفية المحلية بشكل ملحوظ، وأصبحت المنافسة شرسة بعد أن لجأ معظم الزبائن إلى شراء كميات أقل مقارنة مع الأعوام السابقة”.

يؤكد الرجل بفخر أن هذه الحرفة ستبقى رغم كل التغيرات، معتبرًا أن الفانوس المصري سيظل حاضرًا في كل بيت، لأنه ليس مجرد زينة، بل ذكرى ودفء وقطعة من تراث رمضان.

وعلى الرغم من التحديات التي تواجه صانعي الفوانيس التقليدية بسبب انتشار الفوانيس المستوردة التي تعمل بالبطاريات وتردد الأغاني المسجلة، لا يزال ثمة زبائن يصرون على اقتناء الفانوس المصري.

وتقول سلمى حسنين وهي أم لتوأم عمرهما 6 سنوات “فانوس زمان له طعم مختلف، رائحة المعدن، وزجاجه الملون، وصوت الشمعة وهي تحترق في الداخل.. هذا هو رمضان الحقيقي”.

الكنافة

وفي زقاق ضيق بأحد أحياء الإسكندرية القديمة، تعرض الكنافة الطازجة والقطايف الساخنة للزبائن، لتملأ الأجواء بنكهة رمضان المميزة، وخلف واجهة زجاجية صغيرة يقف حسن الكنفاني يرتدي جلبابه الأبيض الملطخ ببقع الدقيق، وبيدٍ خبيرة يسكب عجينا على صينية دوارة، وبطريقة تجذب المارة تتشكل تحت أنامله الكنافة الذهبية بخيوط دقيقة متشابكة.

يتابع حسن حركة اللهب أسفل صينية الكنافة، ويقول “هذه الصنعة ورثتها عن أبي وجدي، ولا شيء يضاهي طعم الكنافة الطازجة المصنوعة باليد.. الآلة تسرّع العمل، لكنها لا تمنحه الروح”.

يضحك العم حسن ثم يرفع يده ليقلب عجينة جديدة، قائلا إن “السوق يشهد تغيرات وتراجعًا مستمرا في الحركة الشرائية نتيجة لتقلبات الأسعار”، مؤكدا أن هذه المهنة ستبقى ما دام رمضان “يعود كل عام حاملًا معه شوق الناس لهذه الحلويات الذهبية”.

صناع البهجة في رمضان

القطائف

في الخارج، يتزاحم المشترون أمام المحل، بعضهم جاء ليأخذ نصيبه من المنتجات الساخنة، وآخرون يراقبون المشهد بابتسامات تعيدهم إلى ذكريات الطفولة، بينما يجلس في الزاوية المقابلة أحد صانعي القطايف، تنساب العجينة السائلة من مغرفته النحاسية على الصاج الساخن، فتتشكل حبات القطايف واحدة تلو الأخرى، تأخذ لونها الذهبي المميز، ثم تُرفع بسرعة لتُرصّ بجوار بعضها قبل تقديمها للجمهور طازجة.

ويقول علاء أبو سمرة، أحد الزبائن، وهو يحمل كميات من الكنافة والقطايف خارجة لتوها من على النار “رغم هيمنة المصانع الكبرى التي تنتج تلك المنتجات جاهزة بآلات ضخمة، لا يزال للحلواني التقليدي زبائنه الذين يأتون بحثًا عن الطعم الأصيل؛ فالكنافة المصنوعة باليد لها سحر خاص، فيها طعم رمضان الحقيقي، ومهما تطورت الدنيا سنظل نعود إلى هنا كل عام”.

خيام السحور

ولطالما كانت خيام السحور والسهرات الرمضانية تقليدًا يجذب الكثيرين، حيث يستمتعون بالإنشاد الديني والفنون التراثية، إلا أن انتشار المقاهي الحديثة ومنصات البث الرقمي أثر بشكل ملحوظ على هذا الجانب من رمضان.

ويقول المنشد حسن عبد الرحيم “كنا نحيي سهرات رمضانية في المقاهي والخيام، ولكن الآن أصبح الإقبال ضعيفًا، والكثير يفضل مشاهدة العروض عبر الإنترنت بدلاً من الحضور المباشر”.

ويضيف “مع تراجع الطلب على العروض الحية، يحاول الفنانون الشعبيون التكيف مع العصر الرقمي من خلال بث حفلاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أملًا في الوصول إلى جمهور أوسع”.

صناع البهجة في رمضان

ضغوط اقتصادية

ويقول رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية الدكتور رشاد عبده للجزيرة نت “المهن الرمضانية جزء من اقتصاد موسمي غير رسمي، يتأثر مباشرة بحركة الأسواق وقرارات المستهلكين.. تزايد الضغوط الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين أسهما في تغير العادات الاستهلاكية للمصريين، وأصبح المستهلك يبحث عن بدائل أرخص، مما أدى إلى تراجع الطلب على المنتجات المصنوعة يدويا، مثل الفوانيس الحرفية والحلويات التقليدية، لمصلحة البدائل الصناعية والمستوردة”.

ويضيف عبده أنه على الرغم من تمسك كثير من الحرفيين بمهنتهم الرمضانية، فإن التحديات الاقتصادية والتكنولوجية تلقي بظلالها على مستقبل هذه الصناعات التقليدية وتجعل استمرارها أكثر صعوبة، موضحًا أن أغلب أصحاب المهن الموسمية يعانون من تراجع الطلب على منتجاتهم بسبب الغلاء وارتفاع أسعار المواد الخام وزيادة الاعتماد على المنتجات المستوردة، مما يقلل هامش ربحهم.

ويرى الخبير الاقتصادي محمد فوزي أن شهر رمضان يشهد حراكًا اقتصاديا ينعش حركة البيع والشراء في الأسواق وهو ما يعد فرصة تجارية لا تعوض لكثير من الناس، خاصة البسطاء للحصول على دخل مناسب يساعدهم على تحسين أوضاعهم المعيشية ومواجهة الأعباء الاقتصادية، ورغم ذلك فإن حصيلة العائد لا تكفي الأعباء المعيشية واحتياجاتهم وكثير من أصحاب المهن الموسمية يبحثون عن فرص أخرى باقي العام لتحسين دخل الأسرة.

وتابع في حديثة للجزيرة نت “لا شك أن التضخم وارتفاع أسعار المواد الخام أثرا بشدة على الحرفيين، وفرضا تحديًا جديدًا على هذه المهن، فبينما كان بائع الفوانيس أو صانع الكنافة يعتمد سابقًا على البيع المعتاد في الأسواق والحصول على ربح مضمون بإمكانات بسيطة، أصبح اليوم ينافس تجارًا كبارًا يعرضون منتجاتهم بأسعار اقتصادية تساعدهم عليها كِبر حجم تجارتهم، مما أدى إلى انكماش سوق المنتجات الحرفية”.

فرصة

لكن رغم التحديات، يرى فوزي أن ثمة فرصًا لإنعاش هذه المهن من خلال التحول الرقمي والتسويق الإلكتروني، وعلى الحرفيين مواكبة العصر عبر استغلال منصات التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية، فمن خلال التسويق الجيد يمكنهم الوصول إلى شرائح أوسع من المستهلكين، كالمغتربين الذين يبحثون عن أجواء رمضان التقليدية.

في المقابل، يؤكد الناقد الفني حازم أحمد أن الإعلام لم يكن بمعزل يومًا عن تشكيل ملامح شهر مضان، إذ لعبت المسلسلات الرمضانية والإعلانات التجارية دورًا محوريًّا في إعادة صياغة طقوس الشهر الكريم، سواء من حيث العادات الغذائية أو حتى المنتجات الرمضانية التقليدية.

وأوضح في حديثة للجزيرة نت “على مدار العقود الماضية لم تكن تلك الوسائل مجرد محتوى ترفيهي، بل ساهمت بشكل مباشر في التوجيه والترويج لأنماط استهلاكية جديدة سواء في ما يتعلق بالمأكولات أو حتى بالعادات الرمضانية مما يؤثر على اختيارات الجمهور، ويجعل المنتجات المحلية التي كانت رمزًا أساسيًّا للشهر في منافسة غير متكافئة مع ما تروّج له هذه الأعمال”.

ويؤكد أن الإعلام سواء التقليدي أو الرقمي يمكن أن يؤدي دورًا أكثر توازنًا في دعم المهن التراثية والتقليدية والحفاظ على حضورها في المشهد الرمضاني من خلال إنتاج مواد إعلامية تسلط الضوء على قيمتها الثقافية والاقتصادية، لافتا إلى وجود البرامج التلفزيونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي التي بدأت تهتم بتسليط الضوء على الحرف التقليدية، لكن هذا الاهتمام لا يزال محدودًا مقارنة بالمحتوى الترفيهي الحديث.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *