غزة- حينما تلقّى الشاب محمود الشيخ علي رسالة من مؤسسة خدمات الإغاثة الكاثوليكية تُعلمه بحصوله على مساعدة مالية، تبلغ قيمتها 750 شيكلا (208 دولارات)، شعر بالسعادة الغامرة، نظرا للظروف الصعبة التي يعانيها جراء الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لكنه، منذ نحو شهر، بات غير قادر على الحصول على المبلغ بسبب شحّ السيولة في قطاع غزة.
ويقول الشيخ علي للجزيرة نت إنه يزور، بشكل شبه يومي، المكاتب التي تعمل في مجال الوساطة في دفع الأموال، لكنها تعتذر له نظرا لعدم امتلاكها السيولة النقدية.
ولا يمتلك الشيخ علي حسابا بنكيا، ويعتمد في تلقي المساعدات المالية على سلسلة مكاتب ومحلات معتمدة من البنوك والمؤسسات الإغاثية، تدفع الأموال للمواطنين من خلال “كود” خاص ترسله المؤسسة المانحة للمستفيد.
وتسبب إغلاق البنوك منذ بداية الحرب في زيادة اعتماد المواطنين على المكاتب المعتمدة لصرف الأموال.
وتعمل بعض الصرافات الآلية التابعة لبعض البنوك بشكل جزئي، في منطقتي المحافظة الوسطى ومدينة رفح (جنوب)، لكنها تعاني الازدحام الشديد، بالإضافة إلى وضع حد أقصى للصرف، وهو ما يجعل عملية سحب المال منها بالغة الصعوبة.
ويقول الشيخ علي إن بعض المتاجر تحاول استغلال معاناة المواطنين، وتوافق على دفع المبالغ مقابل عمولة عالية، تبلغ نحو 10%، وهو ما يرفضه بشدة.
وتحصل المتاجر المعتمدة على عمولة كانت لا تتجاوز 2% من قيمة المبلغ، لكن بعض المتاجر استغلت شح السيولة، وحاجة المواطنين والتجار لها، ورفعت نسبة العمولة.
ويضيف الشيخ علي “إذا استمر هذا الوضع، لن تجد الناس ما تأكله”.
مشكلة خطيرة
ويؤكد عمر الرياطي -صاحب معرض “هلا فون” والذي يعمل وسيطا لدفع الأموال للمواطنين- ما ذكره الشيخ علي.
وبينما يشير إلى عدة لافتات علّقها على أبواب متجره كُتب عليها “لا توجد سيولة”، قال للجزيرة نت “يأتيني يوميا نحو 1500 شخص يسألون عن توفّر السيولة، ويتوسلون لنا أن نصرف لهم أي مبلغ من مستحقاتهم، حتى لو كان 100 شيكل أو حتى 50”.
وقال الرياطي إن المتاجر كانت قبل الأزمة الحالية تحصل على السيولة النقدية من البنوك، والتي باتت ترفض حاليا منحهم إياها بدعوى “عدم توفرها”.
وقال إن بنك فلسطين “أبلغهم أن لديه سيولة في فروعه في غزة والشمال، وأنه يحتاج إلى تنسيق وموافقة إسرائيلية كي يحضرها، لكن هناك معلومات أن السيولة سُرقت، لذلك يجب أن يدخل الشيكل من خارج القطاع”.
وكانت صحيفة معاريف الإسرائيلية قد قالت، يوم 11 فبراير/شباط الجاري، إن قوة إسرائيلية استولت قبل أسبوع (من تاريخ نشر الخبر) على 200 مليون شيكل (54.3 مليون دولار) بعد اقتحامها بنك فلسطين في مدينة غزة.
ونقلت عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قوله إن “القوات الإسرائيلية عملت قبل أسبوع في بنك فلسطين في غزة لمنع وصول الأموال إلى حركة حماس”، وإن هذه الخطوة “كانت بناء على قرار المستوى السياسي، والاحتفاظ بالأموال والجهة التي ستحول لها خاضعان لقراره”.
وأوضح الرياطي أنه شخصيا -بوصفه تاجرا متخصصا في الهواتف المحمولة- يعاني هذه الأزمة، مضيفا “لا أملك سيولة؛ اليوم جاءني تاجر جملة ولم أستطع أن أشتري منه لعدم امتلاكي للسيولة، لأنه اشترط أن يستلم ماله نقدا، ورفض أن أحوّله عبر البنك”.
ويحذر الرياطي من أن استمرار مشكلة شح السيولة خطيرة للغاية، وستتسبب في زيادة معاناة المواطنين وتهديد أمنهم الغذائي والشخصي.
وناشد المسؤولين والمجتمع الدولي التحرك للتخفيف من حدة الأزمة، قبل أن تتفاقم.
ولم يتسن للجزيرة نت الحصول على تعقيب حول الأزمة، من سلطة النقد الفلسطينية (القائمة مقام البنك المركزي) أو من البنوك الفلسطينية.
مأساة للفئات المسحوقة
وفي السياق ذاته، يحذر حسن مطر -مالك متجر الشام للاتصالات، والعامل في مجال الوساطة المالية- من تداعيات استمرار شح السيولة، خاصة على الفئات الضعيفة والمهمشة.
ويقول مطر للجزيرة نت إنه كان قبل الأزمة يصرف مستحقات المستفيدين من المساعدات المالية التي تدفعها المؤسسات الإغاثية، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، وخدمات الإغاثة الكاثوليكية، ومؤسسة المساعدات النرويجية، والمستفيدين من وزارة التنمية الاجتماعية، وجمعيات الأيتام، والمستفيدين من نظام العمل المؤقت واليومي.
ويضيف “الآن، نحن غير قادرين على الدفع لهم، لأننا نحتاج سيولة نقدية، والبنوك لم تعد تمنحنا إياها”.
ويضيف “هذه فئات مطحونة وهشة، يأتوني ويتوسلون كي نمنحهم أي مبلغ، يقول أحدهم: أعطيني ولو 20 شيكلا، أريد شراء دواء لابنتي، طعام لأسرتي، أنا مسافر وأحتاج مبلغ نقدي.. إنها مأساة”.
التداعيات
أما رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية محمد أبو جياب، من غزة، فيرجع الأزمة إلى تعطل الدورة الاقتصادية وتوقف عمل النظام المصرفي والتجاري.
ويضيف أبو جياب للجزيرة نت “بالإضافة إلى تأثير الحرب، هناك مسحوبات كبيرة من المواطنين والتجار من البنوك، وعدم قدرة للنظام المصرفي على فتح فروعه في قطاع غزة، وبالتالي، فإن الدورة المالية غير مكتملة، هناك سحب كبيرة بدون إيداع كافي”.
ويكمل “القطاع التجاري معطل لا يعمل، والدورة الاقتصادية تتم بين المواطنين أنفسهم، دون وصول هذه الأموال إلى القطاع المصرفي، كما في الوضع الطبيعي”.
كما أوضح أن الارتفاع الكبير للأسعار يؤدي إلى “تآكل سريع في السيولة النقدية وتآكل قيمة هذا المال”.
كما ذكر أن توقف إدخال الأموال من خارج القطاع، منذ بداية الأزمة يفاقم من حدة نقص السيولة، مضيفا “لم تصل أي سيولة من الخارج مطلقا، والأموال الحالية هي التي كانت متوفرة لدى المنظومة المصرفية قبل الحرب، والتي تعمل بالحد الأدنى”.
وحذّر من أن الأزمة قد تتفاقم وتتحول إلى اختفاء السيولة بشكل كامل، وليس فقط شحها، إذا استمر الوضع على ما هو عليه لعدة أسابيع.
وحول تأثير الأزمة، أوضح أبو جياب أنها تتسبب في زيادة معاناة المواطنين، وتفاقم مأساتهم، مشيرا إلى أن الكثير من العائلات غير قادرة على شراء الطعام والشراب، وتصلها حوالات مالية “إغاثية” من أبنائها وأقاربها في الخارج، لكنها عاجزة عن تسلمها بسبب نقص السيولة.
ويبدي أبو جياب تشاؤمه في إمكانية حل الأزمة أو التخفيف من حدتها، بدون التوصل لوقف إطلاق النار وانتهاء الحرب.
ويختم حديثه قائلا “سُبل الحل معروفة، لكن المشكلة إنها تصطدم بالسياسة الإسرائيلية والحرب، ودون وقف إطلاق النار لن تكون هناك معالجة حقيقية لأزمة السيولة”.