سوق الحميدية في دمشق يعكس أزمة السوريين

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

دمشق – رغم الازدحام الظاهري للمارة والمتسوقين في سوق الحميدية الأثري في دمشق القديمة، فإن ذلك لا يعدو أن يكون “طريق عبور ونزهة مجانية تحت سقف السوق في قيظ الظهيرة” كما يقول باسم (37 عاما) صاحب مكتبة في سوق الحميدية للجزيرة نت.

ويلاحظ العابرون أمام حوانيت السوق العريق أصحابَ المحال والتجار والعاملين وهم يجلسون على كراسيهم الخشبية والبلاستيكية بدون عمل، كمن يشاهد فيلما طويلا منذ ساعات الصباح الباكر وحتى المساء، في حين تبدو معظم الأسواق الفرعية لسوق الحميدية خالية سوى من العاملين بها وبعض المارة.

وتواجه معظم التجارات والصناعات والحرف التقليدية العريقة في سوق الحميدية وأفرعه تحديات غير مسبوقة للاستمرار تحت وطأة التضخم والظروف الاقتصادية التي اضطرت بعض أصحاب تلك الأعمال إلى إغلاق محالهم أو وضعها برسم التسليم أو الاستثمار.

جمود حركة البيع والشراء

“الحركة شبه معدومة والتجار يكشّون الذباب”؛ بهذه العبارة يجيب الحاج هاني (62 عاما) -صاحب محل لبيع الأقمشة في الحميدية- عن سؤال حول حركة البيع والشراء في السوق مؤخرا.

ويضيف -في حديث للجزيرة نت- “لم يعد بإمكان السوريين شراء متر قماش من الدانتيل أو الجوخ بسعر يتراوح بين 250 و400 ألف ليرة (من 20 إلى 30 دولارا) وهو ما يفوق الرواتب الشهرية لبعضهم، اللهم المضطر منهم بسبب مناسبة خاصة، فيضع ما فوقه وتحته ليتم الواجب”.

ويشهد سوق الحميدية مؤخرا جمودا في حركة البيع والشراء مع انهيار القوة الشرائية لرواتب السوريين الذي لا يتجاوز متوسطها 250 ألف ليرة (19 دولارا)، وارتفاع أسعار البضائع في السوق بشكل كبير خلال الأشهر القليلة الماضية متأثرة بموجات التضخم المتعاقبة.

وتجاوز سعر أوقية بعض البهارات والتوابل 100 ألف ليرة (7.6 دولارات)، في حين سجل سعر القبقاب الخشبي (حذاء تقليدي) جيد النوعية 45 ألف ليرة (3.5 دولارات)، وقفزت أسعار الملبوسات والأقمشة بنسب تتراوح من 50 إلى 150% مقارنة مع أسعارها في بداية العام الجاري.

وأدى هذا الجمود إلى إقفال بعض المحال التجارية أبوابها وتوقفها عن العمل بانتظار تقرير مصير هذه المحال العريقة والتي يعود تاريخ بناء واستثمار بعضها إلى أوائل القرن الـ19، وبحسب التجار فإن الكثيرين منهم يفكرون جديا بوقف تجارتهم وأعمالهم في السوق والانتقال للاستثمار في أماكن أكثر استقرارا.

وتعاني شريحة التجار في سوق الحميدية وغيرها من أسواق دمشق من ارتفاع الرسوم الضريبية، وصعوبة استيراد البضائع، وغلاء سعر البضائع المصنّعة محليا بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، وارتفاع سعر الكهرباء التجارية بنحو 150% منذ سبتمبر/أيلول الفائت، يضاف كل ذلك إلى إحجام المتسوقين عن شراء البضائع لغلاء سعرها مقارنة برواتبهم.

ويشير الحاج هاني إلى أن “الحكومة لا تراعي الظروف الاستثنائية التي تمر بها التجارة والصناعة في سوريا، وتحمّل التجار والصناعيين أكثر مما يمكنهم أن يتحملوا، فهناك مسألة التأخر في المنصّة (آلية حكومية لتنظيم استيراد البضائع من الخارج) والذي ينعكس على التاجر سلبا، وهناك مسألة ضريبة المالية التي أصبحت غير مقبولة، كما أن بضائعنا تحولت لدى السوريين إلى كماليات بسبب الأزمة المعيشية”.

ويواجه التجار معوقات وتحديات لتوفير العملات الأجنبية وتحديد مصدرها للجهات المعنية، كما ويواجهون مشكلات مع منصة تمويل المستوردات الخاصة بالمصرف المركزي السوري بسبب البطء في آلية عملها.

وكان اقتصاديون سوريون قد وجهوا انتقادات لآلية عمل المنصة؛ حيث أدت إلى تراجع كبير في كمية البضائع المعروضة في الأسواق للبيع، وتراجع في توفر المواد الأولية لجميع الصناعات، وعدم كفايتها لكل المصانع، وهذا يتسبب بارتفاع أسعار المواد الأولية وبالتالي أسعار السلع.

وكانت الحكومة قد رفعت أسعار المحروقات بنسبة تصل إلى 200% تقريبا، في أغسطس/آب الماضي، تزامنا مع انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار الذي يصل سعر صرفه إلى نحو 13 ألف ليرة مقارنة مع 7 آلاف ليرة للدولار في مطلع العام، ما أدى إلى اندلاع موجة غلاء طالت معظم المواد الغذائية والاستهلاكية.

لقطة تبين غلاء سعر صابون الغار_ دمشق_ عدسة المراسل_ خاص الجزيرة

مهن مهددة بالانقراض

وإلى جانب السوق الرئيسي، يشتهر سوق الحميدية بأسواقه الفرعية المتخصصة كسوق العصرونية وسوق البزورية وخان الجمرك، وجميعها عبارة عن تجمعات تجارية متخصصة في بيع نوع محدّد من البضائع كالتوابل والعطور والأقمشة والحاجات المنزلية منذ عقود طويلة.

ويواجه التجار والحرفيون في هذه الأسواق واحدة من أصعب محنهم منذ بدء أعمالهم قبل عقود؛ فغلاء المواد الأولية، ومعوّقات الاستيراد والتصدير، وجمود حركة البيع والشراء؛ كلها عوامل جعلت من الاستمرار في العمل تحدّ كبير لا يمكن التنبؤ كيف سيتم حسمه.

ويقول سومر (44 عاما)، وهو صاحب محل لبيع التحف الشرقية المصنّعة يدويا، للجزيرة نت “إن أوجه التحدي كثيرة، فغياب الحركة السياحية منذ سنوات شلت السوق وجعلتنا نغيّر في كل تفاصيل صناعتنا ما جعلها أقل جودة لصالح أن تكون أرخص ثمنا ومناسبة للزبون المحلي”.

ويشير سومر إلى معوقات أخرى تتمثل في غلاء ثمن المواد الأولية نتيجة غلاء أجور النقل والعمال، وارتفاع تكلفة صناعة التحف الشرقية التي تحتاج إلى الآلات الكهربائية بسبب غلاء سعر المحروقات التي تعتمد عليها المولّدات الكهربائية في ظل انقطاع التيار، وتحول المشغولات اليدوية إلى سلعة كمالية بالنسبة إلى معظم السوريين مع تفاقم أزمة المعيشية.

وتدفع هذه الظروف الصعبة الحرفيين في مختلف الأسواق إما إلى تغيير مهنهم وهو ما يهدد باندثارها، أو إلى إجراء تعديلات جذرية على تلك الحرف والمهن لتتلاءم مع متطلبات السوق، وهو ما يفقدها عنصرا أساسيا من العناصر المكونة لقيمتها الثقافية والتراثية.

وإلى جانب صناعة الحرف والمشغولات اليدوية، تعاني تجارات الأقمشة والألبسة الجاهزة والتوابل من صعوبات بالغة للبقاء على قيد الحياة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة ما يدفع ببعض التجار إلى إغلاق محالهم العريقة.

ويشكو التجار في سوق الحميدية وأسواقه الفرعية من الرسوم الضريبية المرتفعة، والتكليف المالي السنوي التي تفرضه وزارة المالية والذي يتجاوز في بعض الأحيان مبلغ مليوني ليرة سورية (153 دولارا) لبعض المحال، إلى جانب الارتفاع الكبير لأسعار الكهرباء.

ويعتبر مؤرخون سوق الحميدية واحدا من أعرق أسواق الشرق؛ فقد تم بناء القسم الغربي منه في عام 1780 على عهد السلطان العثماني عبد الحميد الأول وتحت إشراف والي دمشق محمد باشا، وأطلق عليه آنذاك اسم “السوق الجديدة”، بينما بني قسمه الشرقي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918).

لقطة عامة لسوق مدحت باشا المتفرع عن سوق الحميدية_ دمشق_ عدسة المراسل_ خاص للجزيرة_

ويبلغ طول سوق الحميدية الرئيسي نحو 600 متر، ويتفرّع عنه عددا من الممرّات التي تضم خانات وأسواق فرعية مثل سوق “اتفضلي يا ست” المتخصص ببيع الأقمشة ولوازم الأعراس، وسوق التوابل (البزورية) الذي يقصد للعثور على التوابل والأعشاب النادرة، وسوق الصاغة المتخصص ببيع الذهب، وسوق السروجية المتخصص ببيع سروج الخيل، وسوق القيشاني والمناخلية والعصرونية وغيرها من الأسواق التاريخية العريقة.

وطالت سوق الحميدية العديد من الحرائق كان آخرها حريق عام 1920 الذي التهمت نيرانه عددا من المحال التجارية الأثرية، وكادت أن تصل إلى الجامع الأموي بعد اشتعالها مدة 3 أيام متواصلة، ما اضطر الدولة إلى هدم الكثير من البيوت لوقف امتداد النيران.

وبدءا من تسعينيات القرن الماضي تم إطلاق عدد من المبادرات التي تهدف إلى ترميم السوق والحفاظ على تراثه المعماري عبر ترميم الواجهات المتضررة والعناصر الزخرفية بالتعاون مع اليونيسكو ومنظمات دولية أخرى، وكانت آخر عمليات الترميم عام 2004 حيث أعيد تأهيل السوق تحت إشراف حرفيين وخبراء ترميم.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *