بعد نحو 5 أيام على إرساله حوالة مالية إلى عائلته في غزة، اضطر أحمد المصري، الفلسطيني الذي يقيم في مدينة مالمو السويدية، إلى إلغاء الحوالة متحملا تكلفة الإلغاء، نتيجة تعذر عائلته التي نزحت إلى مدرسة بمدينة غزة استلامها، بسبب عدم وجود أفرع عاملة في المدينة لنظام التحويل المالي الذي أرسل الحوالة من خلاله.
ويشرح المصري ظروف عائلته التي تعيش أوضاعا كارثية في مدرسة استقبلت نازحين بعد اضطرارهم إلى مغادرة منازلهم نتيجة إصابتها بالقصف الإسرائيلي في سياق الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويتابع المصري “غادرت عائلتي المنزل بشكل مفاجئ وبدون إنذار، وبذلك لم تستطع حمل كثير في أيديها، إضافة إلى أنها لم تتوقع أن تطول المدة بهذا الشكل” ويوضح “العائلة اضطرت للتفرق أكثر من مرة في عدة مناطق نزوح، ولا يحمل معظمهم مالا يساعدهم في تدبر أمور حياتهم الأساسية من مأكل ومشرب، وحتى ملابس تقيهم برد الشتاء فكان من مسؤوليتي تقديم العون لهم وحتى الآن لم أنجح إلا في حالات قليلة”.
وعمدت إسرائيل منذ بداية الحرب إلى استهداف البنية التحتية للنظام المالي والمصرفي في قطاع غزة، وهو ما تمثل في استهداف أفرع البنوك العاملة في القطاع وتدمير عشرات مكاتب الصرافة وآلات الصرف الآلي. مما حدّ قدرة الغزيين المغتربين بشكل كبير على مساعدة عائلاتهم التي تعيش ظروفا مأساوية في القطاع.
أما الفلسطينية دالية مقداد المقيمة في كندا، فقد أشارت إلى صعوبة كبيرة واجهتها أثناء محاولتها إرسال الأموال من كندا لأخواتها النازحات في القطاع، إذ تشترط وكالات إرسال الأموال إلى غزة بشكل خاص وجود صلة قرابة من الدرجة الأولى بين المرسل والمستلم، وهو ما يكون صعبا في حالتها لتعذر تحرك النساء في ظروف الحرب وسعيهن البقاء إلى جوار أطفالهن، وترسل الحوالات بأسماء الأزواج وهو ما ترفضه وكالات التحويل.
وتقول مقداد “تخاف أختي من ترك أطفالها لمدة طويلة والوقوف في طابور أمام مكتب استلام في منطقة بعيدة جدا عن مكان نزوحها للذهاب لاستلام حوالة باسمها، لأن الاستلام يشترط الحضور الشخصي، قامت أختي بالذهاب مرة، وعانت بشدة لحين استلامها وهي لا تخاطر بالذهاب مرة أخرى”.
وتضيف مقداد “تخبرني أختي بأن أسعار كل شيء في القطاع ارتفع أضعاف ما كان عليه قبل الحرب بسبب ندرتها، من المحاصيل الزراعية إلى الدقيق وحتى الملابس الدافئة للأطفال، والأموال تفقد قيمتها بشكل كبير نتيجة لذلك”.
حلول مؤقتة
يقول أبو جميل، وهو فلسطيني من غزة يدير مكتبا للحوالات المالية في مدينة إسطنبول التركية، أن مكتبه يشهد ارتفاعا كبيرا في أعداد الراغبين بتحويل الأموال إلى قطاع غزة، ويشير أبو جميل إلى أن المغتربين الغزيين يجدون في مكاتب الحوالات المالية ملجأ لإرسال أموال لذويهم في القطاع، بسبب اعتماد هذا النوع من المكاتب على شبكة من الصرافين في القطاع وخارجه، وعدم ارتباطه بنظام مالي عالمي مشدد، وإمكانية التسليم في مناطق عدة بالقطاع.
لكن أبو جميل يوضح أنهم يعانون من عدم قدرتهم على التسليم في مناطق مدينة غزة ومحافظة الشمال، نظرا للتدمير الكامل للمنظومة العاملة هناك.
ويشير أبو جميل “قبل الحرب كان عملنا مرتبطا بتسهيل العمليات التجارية للتجار الغزيين الذين تربطهم علاقات تجارية مع الموردين الأتراك، وكانت الحوالات الشخصية جزءا ثانويا من عملنا، اليوم الجزء الأكبر من عملنا هو حوالات شخصية”، مضيفا “لدينا ضغط كبير حاليا، لكننا لا نستطيع تلبية الجميع، فمناطق الشمال وغزة هي خارج نطاق أعمالنا، إضافة إلى أنه لا يمكننا توفير السيولة اللازمة لكل الطلبات داخل القطاع، هذا إلى جانب المخاطر الكبيرة لعملية الإيصال وحمل الكاش داخل القطاع بسبب القصف المتواصل”.
أما عبدالله سليم، وهو صراف يدير مكتب صرافة صغير في رفح، فقد تحدث إلى الجزيرة نت حول صعوبات تسليم الأموال المحولة من المغتربين لذويهم في القطاع، ويشير سليم إلى صعوبات كبيرة في عمليات التحقق من المستلم وصعوبات أخرى ومخاطر في عمليات حمل الأموال السائلة في القطاع.
ويوضح سليم “في السابق كان الوضع أسهل بالنسبة لنا، أعمل في نطاق حي صغير في رفح، وجميع أعمالي سابقا كانت محصورة عملاء من عائلات مألوفة لدي في نطاق الحي والأحياء الصغيرة المجاورة، يسهل علي التحقق منها بكون الطريقة هذه في التحويل لا تعتمد على نظام مصرفي متكامل، بل مجموعة من المعايير منها ما هو مرتبط بإثبات بالهوية الشخصية، ومنها ما هو مرتبط بالمعرفة الشخصية، ولكن مع نزوح معظم سكان القطاع إلى مناطق الجنوب وبالأخص مدينة رفح، فالعملية ازدادت تعقيدا” ويضيف سليم “الأمر لا يتوقف على هذا فحسب، لكن في ظل هذا القصف المجنون من سيخاطر بحمل أموال سائلة (كاش)؟”.
عبد الناصر عزيز، وهو مواطن من غزة مقيم في العاصمة الأردنية عمان، أوجد لنفسه طريقة أخرى لمساعدة عائلته، ففي حديث له مع الجزيرة نت أوضح أنه تمكن من إرسال أموال لعائلته النازحة من مناطق الشمال لرفح عن طريق تسليمها لصديقه في الضفة الغربية، والذي أودعها بحساب له ببنك فلسطين، ومن ثم أرسلها لشقيقه الذي يملك حسابا في ذات البنك، ليقوم شقيقه بدوره بسحبها من صراف آلي للبنك في مدينة رفح، ويضيف عزيز “الأمر مرهق حقا، لكن ما باليد حيلة، لن تستطيع عائلتي من توفير أبسط الحاجات الأساسية بدون ذلك، لقد خسروا أعمالهم وأموالهم ومنازلهم وكل شيء”.
ويشير عزيز إلى أنه كان محظوظا بذلك “أنا محظوظ، لأنني على الأقل أستطيع إرسال الأموال لأمي، صديقي هنا يساعدني، لكن الأمر ليس بهذه السهولة للجميع، حيث يمتنع الكثير من سكان الضفة فعل ذلك خوفا من تعقبهم من قبل الجيش الإسرائيلي واتهامهم بتمويل الإرهاب في غزة”.
خسائر مليارية
وقدر المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة الخسائر المباشرة التي مني بها قطاع غزة حتى الآن تربو على 12 مليار دولار، وذلك دون الأخذ بالاعتبار الخسائر غير المباشرة لصعوبة حصرها وفق تعبيره.
بيد أن رئيس المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان وخبير الاقتصاد والتمويل الدكتور رامي عبده كان قد توقع، في حديث سابق للجزيرة نت، أن تصل الخسائر الاقتصادية حتى الآن إلى نحو 20 مليار دولار. حيث أوضح عبده أنه هذا الرقم يستند إلى حجم التدمير الذي لحق في البنية التحتية والمنشآت المدنية والاقتصادية في القطاع.
وأشار معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في تقرير أصدره في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى أن إسرائيل عطلت اقتصاد غزة بأكمله “في المستقبل المنظور”.
وذكر التقرير أن إسرائيل دمرت -حتى تاريخ إصدار التقرير- 23% من مباني القطاع بشكل كلي و27% منها بشكل جزئي.
وحاولت الجزيرة نت التواصل مع سلطة النقد الفلسطينية للحصول على إحصائية رسمية لخسائر القطاع المصرفي الفلسطيني في القطاع، لكن استعلامات السلطة أوضحت أنها لم تصدر تقريرا شاملا بعد لتعذر الحصول على معلومات كاملة بسبب ظروف الحرب.