القاهرة – لا يزال شبح أزمة تكرار انقطاع الكهرباء في مصر لساعات طويلة مثلما حدث الصيف الماضي يلوح في الأفق، بسبب نقص الغاز الطبيعي الناجم عن تقادم الحقول وارتفاع درجات الحرارة فوق 40 درجة مئوية وزيادة الاستهلاك اليومي وتراجع الاكتشافات التعويضية الجديدة.
وغذت أزمة انقطاع التيار الكهربائي المتكرر على مستوى البلاد شعور الغضب لدى الشارع المصري، وتراجع الثقة في قدرة مصر على التحول إلى مركز إقليمي لتداول وتجارة الغاز دون الاعتماد على زيادة الواردات من الحقول الإسرائيلية لتفادي تكرار أزمتي نقص الغاز وتوقف التصدير.
واضطرت الحكومة المصرية بعد سنوات من الغاز الوفير وتحقيق الاكتفاء الذاتي عام 2018 وعودتها إلى خريطة التصدير العالمية مجددا بعد عقد صفقات لاستيراد الغاز من إسرائيل وصفت بـ”التاريخية”، إلى تبني سياسة ترشيد الاستهلاك، والعودة إلى استخدام المازوت في محطات الكهرباء مطلع العام الماضي.
لكن أزمة نقص العملة الأجنبية الحادة العام الماضي لعبت دورا كبيرا في نقص المازوت المستورد واللازم لتشغيل محطات الكهرباء وتعويض نقص الغاز الذي تم توجيه جزء منه للتصدير بغرض توفير العملة الصعبة، وظلت الأزمة على حالها.
كلمة السر
كانت بداية التعاون بين الدولتين هي بدء استقبال الغاز الطبيعي من إسرائيل في يناير/كانون الثاني 2020 بموجب واحدة من كبرى الصفقات التي وقعها البلدان لاستيراد 85 مليار متر مكعب من الغاز على مدى 15 عاما بنحو 19.5 مليار دولار، بحسب وزير الطاقة الإسرائيلي حينها يوفال شتاينتز.
وهو الاتفاق الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “يوم عيد” لأنه سيدر مليارات الدولارات للخزينة الإسرائيلية.
وبمرور الوقت زادت شهية مصر للغاز الإسرائيلي الذي تقوم بتسييل كميات كبيرة منه بمحطتي إدكو ودمياط، الأكبر من نوعهما في المنطقة، على ساحل البحر المتوسط ومن ثم تصديره للخارج.
تراجع بعد زيادة
تراجعت صادرات مصر من الغاز الطبيعي بشكل كبير من نحو 8.4 مليارات دولار في عام 2022 إلى 2.5 مليار دولار في عام 2023، الذي شهد الربع الأخير منه اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتراجع واردات البلاد من الغاز الإسرائيلي إلى صفر قبل أن تعاود الصعود مجددا إلى مستويات ما قبل الحرب مؤخرا.
وبالتزامن، ومع تراجع الإنتاج المحلي إلى مستوى 5.4 و5.5 مليارات قدم مكعبة يوميا، أصبحت الكمية توجه بالكامل للاستهلاك المحلي من الغاز، وبالتحديد محطات الكهرباء التي تستحوذ على نحو 60% من استهلاك السوق، وفقا لوزارة البترول المصرية.
وعاد حجم الغاز الطبيعي المستخرج من الحقول والآبار إلى مستويات ما قبل إنتاج حقل “ظهر العملاق” في البحر المتوسط، وتراجع بنسبة 26% خلال العامين الماضيين وسط توقعات باستمرار الانخفاض في الحقل بنحو 14% إضافية خلال العام الجاري.
هبط إنتاج حقل ظهر، الأكبر في البلاد والذي يشكل نحو 40% من إنتاج مصر من الغاز، إلى نحو 2.1 مليار قدم مكعب يوميا وسط توقعات بهبوط الإنتاج إلى 1.6 قدم مكعب مقابل نحو 2.74 مليار قدم مكعب يوميا عام 2021.
أسباب كامنة وطارئة
وتكمن 3 أسباب وراء تراجع صادرات مصر من الغاز وظهور أزمة انقطاع الكهرباء، وفق خبراء ومختصصين في مجال الطاقة تحدثوا إلى الجزيرة نت وهي:
- تراجع الإنتاج من الحقول بسبب مشاكل فنية في حقل ظهر العملاق.
- زيادة الاستهلاك المحلي نتيجة الارتفاع الكبير في درجات الحرارة.
- عزوف الشركات الأجنبية عن اكتشاف حقول جديدة بعد تراكم مستحقات غير مسددة بمليارات الدولارات.
وتبدو ملامح خطة مصر لتجاوز تلك العقبات، بحسب هؤلاء الخبراء في 3 مسارات كذلك، وهي:
- زيادة وارداتها من الغاز الإسرائيلي واستيراد الغاز المسال.
- بدء سداد مستحقات الشركات الأجنبية وزيادة الاستثمارات في قطاع البترول والغاز بغرض زيادة الاستكشافات وطرح المزيد من المزايدات العالمية.
- زيادة مساهمة الطاقة الجديدة والمتجددة في توليد الكهرباء.
وعزا أستاذ هندسة الطاقة والبترول رمضان أبو العلا التراجع في إنتاج مصر من الغاز الطبيعي “إلى عاملين، هما أمور فنية ناجمة عن الضغط على الحقول بغرض تعظيم الإنتاج، وزيادة الاستهلاك”، مشيرا إلى أن “أي احتياطي إستراتيجي عندما يتم استهلاكه بسبب زيادة معدلات الإنتاج يقل عمره الافتراضي”.
ومن أجل تجاوز هذا التراجع، أوضح في تصريحات للجزيرة نت أن الحكومة المصرية تعمل على جذب استثمارات أجنبية جديدة في مجال التنقيب عن الغاز وتطوير الحقول القائمة لزيادة الاحتياطي الإستراتيجي وكذلك زيادة الإنتاج اليومي.
وأوضح أبو العلا أن واردات مصر من الغاز الطبيعي من إسرائيل زادت في الآونة الأخيرة بغرض استخدامها في السوق المحلي من جهة، وتصديرها إلى الخارج عبر تسييلها في محطتي الإسالة إدكو ودمياط من جهة أخرى.
وردا على التقارير التي تتحدث عن خطط الحكومة المصرية لاستيراد شحنات إضافية من الغاز الطبيعي إلى جانب الواردات من إسرائيل، أكد أنها مسألة تجارية بحتة تخضع لعمليات حسابية ومواجهة أي نقص في إنتاج الغاز.
الطلب يعرقل الطموح
توقع خبير اقتصادات النفط والطاقة نهاد إسماعيل أن تحتاج مصر إلى مزيد من الوقت من أجل زيادة الإنتاج خاصة أن ثمة اتفاقيات واستثمارات كثيرة في مجال التنقيب عن الغاز مع الشركاء الأجانب لتلبية الطلب المحلي المتزايد والبقاء على خريطة التصدير، لكنها تأثرت بأزمة النقد الأجنبي والمستحقات المتأخرة لدى شركات البترول.
وأضاف، في حديثه للجزيرة نت، أن مصر سوف تزيد وارداتها من الغاز الطبيعي من إسرائيل من أجل تغطية الطلب المحلي المتزايد، وفي إطار مساعيها للتحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز في المنطقة.
وأشار الخبير إلى أن إيرادات مصر من صادرات الغاز الطبيعي حفزتها على زيادة البحث والتنقيب وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وطرح المزايدات العالمية حتى أصبحت في المركز 14 عالميا في إنتاج الغاز والخامس إقليميا والثاني أفريقيا عام 2020.
مديونيات كبيرة
قفزت مديونية الشركاء الأجانب في قطاع البترول نحو 6.5 مليارات دولار بعد أقل من 3 سنوات من تراجعها إلى 845 مليون دولار فقط في حزيران/يونيو 2021.
مع تحسن السيولة الدولارية في البلاد مؤخرا، بدأت الحكومة المصرية سداد مستحقات الشركاء الأجانب بإجمالي نحو 20% من المتأخرات.
كما تستهدف 7.5 مليارات دولار استثمارات أجنبية في صناعة الغاز والبترول العام المالي المقبل، وزيادة مساهمة الطاقات الجديدة والمتجددة إلى 42% بحلول عام 2035.
وبالفعل عاد إنتاج مصر من الغاز إلى الارتفاع خلال يناير/كانون الثاني الماضي بشكل طفيف مع تحقيق بعض الاكتشافات العام الماضي.
وزاد على أساس شهري إلى 4.651 مليارات متر مكعب (5.4 مليارات قدم مكعب يوميا)، ولكنه يظل أقل من متوسط الإنتاج في الشهر المقابل من عام 2023، والذي بلغ 5.47 مليارات متر مكعب (6.3 مليارات قدم مكعب يوميا)، بحسب إحصاءات مبادرة بيانات المنظمات المشتركة “جودي”.
يبلغ متوسط الاستهلاك المحلي اليومي من الغاز الطبيعي نحو 5.9 مليارات قدم مكعب يوميا تشمل 57% لقطاع الكهرباء و25% لقطاع الصناعة و10% لقطاع البترول ومشتقات الغاز و6% لقطاع المنازل و2% لوقود السيارات، وفقا لوزارة البترول المصرية.
ووفق موقع “ميدل إيست إيكونوكيك سرفي” المتخصص في شؤون الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تستعد القاهرة لمواجهة نقص الغاز الطبيعي مع استمرار انخفاض الإنتاج واقتراب الاستهلاك من الذروة باستيراد الغاز المسال مرة أخرى هذا الصيف لتجنب أزمة انقطاع التيار الكهربائي.
ويشير التقرير إلى أن مصر تقترب من الانزلاق إلى عجز في الغاز، على الرغم من ارتفاع وارداتها من إسرائيل إلى نحو مليار قدم مكعب.