يدخل الحراك في سوريا هذه الأيام عامه الـ14، وعلى الرغم من أن مستويات المواجهات في جميع أنحاء سوريا أصبحت منخفضة مقارنة بما كان عليه الوضع قبل سنوات قليلة فإن الأزمة التي تمر بها البلاد تبدو بعيدة عن خط النهاية.
وتغرق البلاد في كساد اقتصادي أشد من أي وقت مضى في ظل:
- انخفاض قيمة العملة السورية إلى مستويات غير مسبوقة.
- ارتفاع مستويات التضخم.
- استمرار تشديد العقوبات على النظام.
- تداعيات الحرب الأوكرانية الروسية.
- حرب إسرائيل على غزة.
- تداعيات الزلزال الذي ضرب شمال سوريا في فبراير/شباط 2023.
- انسداد أفق الحلول السياسية.
وكان مجلس الشعب التابع للنظام السوري قد أقر في ديسمبر/كانون الأول 2023 مشروع قانون الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2024 الذي حدد اعتمادات الموازنة بمبلغ إجمالي قدره 35.5 تريليون ليرة سورية (نحو 3.1 مليارات دولار) موزعة على 26.5 تريليون ليرة للإنفاق الجاري، و9 تريليونات ليرة للإنفاق الاستثماري، في حين بلغ إجمالي العجز 9.404 تريليونات ليرة.
وبالقياس على سعر صرف الدولار الرسمي البالغ 11 ألفا و557 ليرة سورية للدولار الواحد عند الإعلان عن الموازنة فقد تراجعت موازنة الدولة السورية من 5.52 مليارات دولار في سنة 2023 إلى 3.1 مليارات دولار في سنة 2024، ويمثل هذا انخفاضا بنسبة 45% في عام واحد.
وعلى الرغم من موجة الانفتاح والتطبيع وعودة النظام إلى الجامعة العربية فإن كرة التدهور الاقتصادي في سوريا مستمرة في التدحرج، ويستمر معها فشل النظام السوري في توفير التمويل اللازم لقطاعات الخدمات، مما يدفع الأطر المحلية إلى الاعتماد بشكل متزايد على نفسها لتلبية احتياجات الخدمات الأساسية، في مقابل تفشي الاستقالات والتغيب عن العمل بين موظفي القطاع العام، وهو ما يقوض أداء الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.
أوضاع صعبة
تشير أحدث التقديرات الأممية إلى أن عدد السكان في سوريا يبلغ نحو 23.46 مليون نسمة، منهم نحو 7.25 ملايين نسمة تقريبا يعيشون حالة نزوح داخلي، ونحو مليونين من هؤلاء النازحين يعيشون في مخيمات.
وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن نسبة واسعة جدا من البنية التحتية الأساسية لسوريا لا تزال مدمرة، وأن نحو 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، كما لا يزال ملايين السوريين يعيشون حالة النزوح داخليا (قرابة 31% من إجمالي السكان)، ويعانون من نقص وفقدان الوثائق المدنية، فضلا عن نقص وفقدان أو تلف وثائق الإسكان والأراضي والممتلكات.
وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن ما يقارب 7.5 ملايين طفل سوري يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية، وإن أكثر من 650 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية المزمن.
وبينما ارتفع الحد الأدنى لتكلفة المعيشة في سوريا إلى مستويات قياسية بسبب التضخم وغياب مقومات الإنتاج فإن الحد الأدنى للأجور في سوريا -الذي أصبح مؤخر 280 ألف ليرة (17-19 دولارا حسب سعر الصرف)- لا يغطي أكثر من 2% من الحد الأدنى هذه التكلفة في أحسن الأحوال، والحقيقة أن هذه الهوة الواسعة بين مستوى الدخل ومتطلبات الحياة المعيشية هي جوهر المشكلة في المشهد الاقتصادي السوري برمته.
وفقدت العملة السورية 83% من قيمتها في السنوات الثلاث الأخيرة و53% خلال العام الماضي، وما زال تدهورها مستمرا خلال الربع الأول من هذا العام.
ولمواجهة هذا الواقع المعيشي الصعب يلجأ معظم السوريين إلى الاعتماد على مصادر إضافية للدخل، من أهمها الحوالات المالية من المغتربين خارج سوريا، وتغيير العادات الغذائية عبر تقليص الإنفاق على الغذاء إلى الحدود الدنيا، لدرجة أنه بات من الشائع لدى شريحة واسعة من الشعب السوري الاكتفاء بوجبة طعام واحدة في اليوم.
تدهور الزراعة
وفق إحصاءات الأمم المتحدة يوجد في سوريا اليوم أكثر من 12 مليون شخص (نحو 50% من السكان) يفتقرون إلى الأمن الغذائي و2.9 مليون آخرين معرضون لخطر الانزلاق إلى الجوع.
ويعد قطاع الزراعة من أهم القطاعات وأكثرها تضررا في سوريا وأحد العوامل التي تلعب دورا مهما في الأمن الغذائي، إذ تشكل مساحة الأراضي الزراعية نحو 32% من المساحة الإجمالية، ويعمل في هذا القطاع أكثر من 20% من السوريين.
وتضافرت عوامل الجفاف وندرة المياه إلى جانب ارتفاع تكلفة الوقود وارتفاع الأسعار في التأثير على قطاع الزراعة الذي بات يعاني من انخفاض كبير في مستويات الإنتاج وتراجع الدعم، وارتفاع أسعار الخبز والمازوت المدعومين.
وبسبب الانخفاض الكبير في إنتاج المحاصيل الغذائية والإنتاج الحيواني تشكو الأسواق المحلية من عدم توفر المواد الغذائية بالإضافة إلى ارتفاع أسعارها، وذلك بعد الخسائر الفادحة التي مني بها المزارعون والعاملون في قطاع الزراعة والمواشي، وكلها عوامل ساهمت في تفاقم انعدام الأمن الغذائي.
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، فإن قيمة الخسائر الناتجة عن تضرر القطاع الزراعي وصلت إلى 16 مليار دولار.
تقليص الدعم والمساعدات
وفي الوقت الذي تصرح فيه الأمم المتحدة بأن ما يزيد على 16 مليون شخص في سوريا (70% من السكان) بحاجة إلى مساعدة إنسانية فإن هؤلاء المحتاجين للدعم يعانون من انقطاع أو تقليص الإعانات والمساعدات، سواء منها التي كانت تصل عبر الأمم المتحدة أو الدعم الحكومي الذي يتم تخصيصه عادة في ميزانية النظام لدعم ذوي الدخل المحدود أو معدومي الدخل.
ومن أجل خفض عجز الموازنة العامة للدولة وتوجيه الدعم نحو الشرائح والفئات الأكثر احتياجا -وفق تبريرات النظام- بدأ النظام منذ 2020 في استبعاد أعداد كبيرة من العوائل السورية من الدعم الاجتماعي، ورفع الدعم تدريجيا عن العديد من السلع والمواد الرئيسية، مثل الخبز وبعض أصناف المحروقات.
ومع أن موازنة 2024 تخصص 6.2 تريليونات ليرة للدعم الاجتماعي (536 مليون دولار)، من بينها تريليونا ليرة (173 مليون دولار) لدعم المشتقات النفطية، و75 مليار ليرة (6.5 ملايين دولار) لدعم المناطق المتضررة من الزلزال، و75 مليار ليرة أخرى (6.5 ملايين دولار) مخصصة لصندوق دعم الإنتاج الزراعي.
لكن هذه الأرقام تبدو كبيرة فقط لأنها يتم إيرادها بالعملة المحلية، وهي في حقيقتها أقل بكثير من حجم الدعم الاجتماعي الذي يجب توفيره، كما أنها أقل بكثير من حجم الدعم المقرر في الميزانيات السابقة، والذي كان بحدود 5.5 مليارات دولار في عام 2012 وانخفض عاما بعد عام حتى وصل إلى نحو نصف مليار فقط في الميزانية المقررة لعام 2024.
ويزيد من حجم المعاناة إعلان برنامج الغذاء العالمي مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023 انتهاء برنامج مساعداته الغذائية العامة بجميع أنحاء سوريا اعتبارا من يناير/كانون الثاني 2024 بسبب نقص التمويل.
وستكون تداعيات التقليص في المساعدات مأساوية في شمال غربي سوريا بالدرجة الأساس، حيث تنتشر آلاف مخيمات النازحين، وتشكل النساء والأطفال ما يقارب 80% من المستفيدين في هذه المخيمات.
إستراتيجية متخبطة
يقدم النظام السوري مبررات مختلفة للانهيار الاقتصادي والفشل في إدارة الدولة، في حين تحمّله المعارضة المسؤولية الكاملة عن الأزمة.
لقد فشل النظام في السيطرة على التضخم وفي ضبط سعر الصرف وفي تقليص الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء إلى أرقام معقولة، ولم يتمكن من تحسين الوضع المعيشي أو تقليل الفارق بين تكلفة المعيشة ومستويات الدخل.
وعمد النظام السوري خلال السنوات الماضية إلى اتخاذ العديد من القرارات المحيرة في الجانب الاقتصادي، مثل تقليص الدعم الاجتماعي ورفع أسعار السلع المدعومة في نفس الوقت، أو رفع الرواتب بنسبة كبيرة وصلت إلى 100% أحيانا وإتباع ذلك برفع سعر المحروقات بنسبة أكبر قد تصل إلى 300%.
وفي الوقت الذي كان فيه النظام يتخبط في اتخاذ القرارات التي لم تكتف بالفشل في وقف التدهور الاقتصادي بل ساهمت في زيادة المعاناة لكنه لم يتوقف عن تقديم مبررات الانهيار الاقتصادي والفشل في إدارة الدولة ملقيا باللائمة على:
- عوامل خارجية، مثل ظروف الحرب، أو العقوبات الدولية التي جمدت أصوله وعرقلت حركة التجارة ومنعت الاستثمار الأجنبي، أو التدخلات الخارجية -كما يسميها النظام السوري- التي تعمل على دعم الأطراف المناوئة له، مما يمنعه أو يضعف من قدرته على إنجاز الحلول.
- عوامل داخلية، مثل الفساد الذي يعترف النظام السوري بوجوده، لكنه يؤكد على محاربته، وسوء الإدارة التي يقر بها أحيانا ويؤكد مواجهتها بالإصلاحات الهيكلية ورفع الكفاءة.
ولتجاوز الأزمة يطالب النظام السوري باستمرار برفع العقوبات الدولية المفروضة عليه، ويدعو إلى التعاون الدولي لمواجهة الأزمة الاقتصادية من خلال تقديم المساعدات المالية والفنية ودعم عملية إعادة الإعمار.
لا حل في الأفق
كان عام 2023 بالنسبة للسوريين الأسوأ على الإطلاق من حيث الأوضاع الاقتصادية، خصوصا بعد كارثة الزلزال في 6 فبراير/شباط 2023 الذي ضرب جنوب ووسط تركيا وشمال وغرب سوريا، حيث قُتل ما لا يقل عن 8476 شخصا وأصيب أكثر من 14 ألفا و500 آخرين في سوريا، وكانت له آثار سلبية على ما يقارب 11 مليون شخص، بحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوشا).
ومع اختفاء الطبقة المتوسطة وارتفاع معدلات البطالة بشكل مطرد وسيادة اقتصاد الحرب فإن مظاهر الفساد وتجارة الممنوعات تصبح أكثر رواجا من أي وقت آخر.
كل المعطيات على الأرض تشير إلى أن الأزمة الاقتصادية في سوريا ستستمر لفترة طويلة، فمن المستبعد وجود مخرج اقتصادي لها في عام 2024 من دون حل سياسي يفتح المجال لعودة رؤوس الأموال والبدء بإعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد، وبما أن النظام يصر على عدم إظهار أي مرونة سياسية للتوصل إلى حل سياسي يفضي إلى الاستقرار السياسي ورفع العقوبات فإن الأمور ستبقى متجهة نحو الأسوأ.