لندن- عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردن براون سنة 2009 إطلاق مشروع “إتمام مجد السكك الحديد في بريطانيا”، لم يكن يتوقع أن ميزانية هذا المشروع سوف تتضاعف أكثر من 5 مرات، وستمر أكثر من 15 سنة دون أن يرى النور.
وتحول مشروع القطار السريع “إتش إس 2″، الذي كانت المملكة المتحدة تراهن عليه ليصبح فخر السكك الحديد البريطانية، إلى ثقب أسود يستنزف ميزانية الدولة، مع ارتفاع صاروخي في تكاليفه التي لم تعد خزينة المملكة قادرة على تحملها.
لذلك، أصبح المشروع ملفا حارقا تتقاذفه الحكومات المتعاقبة، إلى أن وصل إلى رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، فأعلن إلغاء جزء من هذا المشروع، الذي يعتبر أكبر وأغلى مشروع للسكك الحديد في تاريخ بريطانيا وأوروبا حاليا.
ما مشروع “إتش إس 2″؟
هو مشروع قطار فائق السرعة تم الإعلان عنه سنة 2009، والهدف منه بناء شبكة من السكك الحديد تربط العاصمة لندن بشمال البلاد، من خلال المرور بكبرى المدن البريطانية من بيرمنغهام وصولا إلى مانشستر في الشمال، وبعدها إلى بقية مناطق الشمال البريطاني، في مدة زمنية أقل.
وكان من المتوقع أن يتم تشييد 330 ميلا من السكك الحديد الخاصة بالقطارات الفائقة السرعة، التي ستكون الأسرع في العالم، وعند الانتهاء من هذه الشبكة سيكون هناك أكثر من 18 قطارا تنطلق على رأس كل ساعة من لندن وإليها، وبسرعة تصل إلى 224 ميلا في الساعة، وهو رقم كبير مقارنة مع بقية الدول الأوروبية التي تنطلق فيها 6 قطارات كحد أقصى في الساعة الواحدة.
كم ستوفر الحكومة من الإلغاء؟
قرر سوناك إلغاء الجزء الذي يربط بين بيرمنغهام ومانشستر، بسبب ارتفاع تكاليفه، رغم أن الحكومة أنفقت بالفعل على هذا الجزء أكثر من 2.3 مليار دولار.
وأكد سوناك أن حكومته سوف توفر بعد الإلغاء 36 مليار جنيه إسترليني، يمكن استثمارها في مشاريع النقل والبنية التحتية في مدن الشمال خلال الفترة ما بين 2029 و2040، موضحا أن قرار الإلغاء هو قرار براغماتي حتى لا تغرق ميزانية الدولة في مزيد من المصاريف.
لكن هذا القرار أثار حفيظة أسماء كبيرة داخل حزب المحافظين، من بينهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون، الذي قال إن قرار الإلغاء يبعث برسائل سلبية حول فقدان بريطانيا مكانتها عالميا، وبأنها لم تعد قادرة على بناء مشاريع طويلة المدى، وهو الأمر الذي وافقه عليه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون.
كم تبلغ كلفة هذا المشروع؟
عندما تم بدأ العمل الفعلي على هذا المشروع سنة 2012 بعد 3 سنوات من الدراسات، كانت الميزانية الأولية تقدر بحوالي 32.7 مليار جنيه إسترليني، قبل أن يستمر هذا الرقم في الارتفاع، إلى أن وصل نحو 100 مليار جنيه إسترليني، وهناك تقديرات تقول إنه في حال لم يتم التخلي عن الجزء الشمالي للمشروع، فإن الكلفة النهائية قد تصل إلى 170 مليار جنيه إسترليني.
والآن بعد التخلص من الجزء الشمالي، فإن صحيفة “غارديان” قدرت كلفة المشروع بنحو 100 مليار جنيه إسترليني، من دون الحديث عن كلفة شراء القطارات فائقة السرعة.
لماذا ارتفعت تكلفة المشروع بهذا الشكل؟
ارتفاع تكلفة المشاريع العملاقة عادة بريطانية قديمة، وأيضا بسبب البيروقراطية وتعقيد قوانين الملكية الخاصة في المملكة المتحدة، وخير مثال على ذلك مشروع ربط مدينة مانشستر بمدينة يورك، بالسكة الحديد على مسافة 76 ميلا، إذ كان من المتوقع أن يكلف في البداية 289 مليون جنيه إسترليني، قبل أن تصبح كلفته 10 مليارات جنيه إسترليني، ولم يكتمل بعد.
وحسب مؤسسة “بريطانيا متجددة”، فإنه حتى لو تم الانتهاء من المشروع بتكلفته الأولى دون زيادة، فإنه سيكون أغلى بـ3 مرات من مشروع السكك الحديد في فرنسا، التي تربط مدينة بوردو بمدينة تور.
ومن بين الأسباب الأخرى ما أوردته صحيفة “تلغراف” البريطانية، التي قالت إن هذا المشروع “مطلي بالذهب”، مؤكدة حرص القائمين عليه على اختيار أغلى التقنيات في البناء والتشييد، وكذلك النزاعات حول الملكية الخاصة، خصوصا أن محطات القطار ستكون في أغلى المناطق في المدن البريطانية، والكلفة الباهظة لإجراءات الحفاظ على البيئة.
هل الأزمة الاقتصادية هي السبب في تقليص المشروع؟
من بين الأسباب التي جعلت المشروع غير قابل للتحقيق في شكله الحالي الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بريطانيا، والتي جعلت نسبة التضخم في أسعار مواد البناء تصل إلى 26%، إضافة إلى ارتفاع تكاليف اليد العاملة بسبب مغادرة مئات الآلاف من العاملين للبلاد بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، أما العامل الثالث فهو الحرب الأوكرانية التي تسببت في ارتفاع أسعار الحديد بنسبة 30%.
ويجب عدم إغفال العامل السياسي، إذ عانى المشروع من عامين من التأخير بسبب حالة انعدام الاستقرار السياسي التي عرفتها بريطانيا على مدار العامين الماضيين، والتي تسببت -حسب عدد من القائمين على المشروع- في إقرار عديد من الخطط ثم التراجع عنها.
على سبيل المثال، فإن محطة “يوستن” في لندن -التي تعتبر في قلب هذا المشروع- كان من المتوقع إعادة تهيئتها بنحو 2.6 مليار جنيه إسترليني، قبل أن يرتفع الرقم إلى 4.8 مليارات جنيه إسترليني، بسبب التخبط في القرارات.