كييف- بعد القطاع الصناعي، تحتل الزراعة المرتبة الثانية من حيث الأهمية بالنسبة لاقتصاد أوكرانيا، إذ كانت تدر عليه نحو 10% من الناتج المحلي السنوي، وتحقق للبلاد اكتفاء تعززه صناعات المواد الغذائية المحلية.
ومثلت منتجات القطاع الزراعي نحو 45% من إجمالي الصادرات الأوكرانية مع نهاية 2021، فعادت على البلاد بنحو 22.5 مليار دولار، وأبرزها كانت صادرات الحبوب (القمح والشعير والذرة)، ثم المحاصيل الزيتية (بذور وزيوت دوار الشمس).
أما بالنسبة للعالم، فقد احتلت زراعة الحبوب والمحاصيل الزيتية الأوكرانية المركز السادس من حيث الحجم في 2021، وهو ما تمثل بصادرات بلغت 48.3 مليون طن من الحبوب، بما يشمل القمح والشعير والذرة.
وقاربت حصة البلدان الآسيوية حينها نصف إجمالي الصادرات الزراعية الأوكرانية (48.7%)، وحصة الاتحاد الأوروبي بلغت نحو 29%، في حين حصلت أفريقيا على نسبة تقارب 12.9%، ونسبة 5.8% كانت لصالح رابطة الدول المستقلة، بحسب إحصائيات حكومية.
الحرب تعطل الزراعة
شلت الحرب في بداياتها نشاط القطاع الزراعي بنسبة تجاوزت 70% في أوكرانيا، ثم تراجعت إلى 30% بعد انسحاب الروس من مقاطعات الشمال وبعض مقاطعات الشرق والجنوب.
لكن المشكلة لم تنحصر في احتلال الأراضي ومسألة الأمان، بل في عمليات التصدير التي عُلقت بسبب الحصار الذي فرضته روسيا على موانئ أوكرانيا في بحر آزوف والبحر الأسود، لاسيما وأن الموانئ كانت نافذة 90% من صادرات الحبوب الأوكرانية إلى العالم.
وهكذا تراجع حجم صادرات الحبوب من 70 مليون طن كانت متوقعة في 2022 إلى ما لا يتجاوز 41 مليون طن، ثم إلى نحو 12 مليون طن في 2023 فقط، وبسبب ذلك خسر اقتصاد أوكرانيا نحو 31.5 مليار دولار منذ بداية الحرب، منها 8.72 مليارات دولار في العام الماضي.
دعم حكومي ودولي
كل ذلك انعكس ارتفاعا في أسعار الحبوب، وهدد بأزمة غذاء عالمية، مما دفع كييف وأطرافا دولية عدة لاتخاذ إجراءات تحد من التداعيات.
بعد بداية الحرب في 24 فبراير/شباط 2022، أعلن الاتحاد الأوروبي عن “ممرات التضامن” لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر أراضيه، وفي يوليو/تموز من العام ذاته، تم الاتفاق على “ممر للحبوب” في البحر الأسود بوساطة تركية أممية، ثم أعلنت كييف عن ممر تؤمنه بمفردها في أغسطس/آب 2023.
وخلال العامين الماضيين، شجعت الحكومة المزارعين على العمل، بمنح قروض دون فوائد، وإعفائهم من رسوم التصدير، كما أعفى الأوروبيون المزارعين الأوكرانيين من الرسوم، على أساس اتفاقية الشراكة الاقتصادية بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
صورة ليست وردية
لكن الصورة لم تكن وردية بعد كل هذه الإجراءات، فعلى المستوى المحلي، أحجمت شركات زراعية كثيرة عن العمل في ظروف الحرب لأسباب عديدة، أمنية بالدرجة الأولى، وأخرى تتعلق بزيادة أسعار البذور والوقود وقصف الصوامع، ثم جاءت حادثة تدمير سد كاخوفكا في يونيو/حزيران 2023، فأغرقت مياهه 600 هكتار من الأراضي الزراعية جنوب البلاد.
وبعد ذلك بأسابيع قليلة، تراجعت الصادرات إلى الصفر تقريبا بمجرد أن أعلنت روسيا انسحابها من اتفاقية الحبوب، ولم يفلح بتعويضها الممر الذي أعلنته كييف من جانبها.
خلافات مع الأوروبيين
بيد أن الأسوأ على أوكرانيا كان ذلك الخلاف الذي خلقته مزايا صادرات الحبوب إلى أوروبا، وخرج في 2023 إلى العلن، مسببا كثيرا من الاحتجاجات والجدل.
ظاهر الخلاف إغراق الأسواق الأوروبية بمنتجات الحبوب الأوكرانية الرخيصة نسبيا، مما أضر بالمزارعين الأوروبيين، وخاصة في بولندا، التي تعتبر من أبرز داعمي كييف سياسيا وعسكريا وماليا، وكذلك في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا.
لكن باطن الخلاف أوسع من ذلك، شرحه للجزيرة نت المحلل الاقتصادي الأوكراني إيهور بوراكوفسكي، فقال: “معظم صادراتنا من الحبوب والبذور الزيتية عبر أوروبا كانت مخصصة في الأصل للتصدير إلى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، لكن الأمر انتهى بشرائها في الاتحاد الأوروبي”.
وتابع بوراكوفسكي: “هذا بسبب المشاكل اللوجيستية على الحدود، التي سببت تكدس الشاحنات والقطارات لفترات طويلة، وكذلك بسبب ارتفاع أسعار النقل إلى خارج الاتحاد الأوروبي، وتراجع رغبة المشترين الأصليين بسبب ضغوط روسيا وتقلبات الأسعار”.
كما أشار بوراكوفسكي إلى وجود “ممارسات مشبوهة” داخل بعض دول الاتحاد الأوروبي، “سمحت لبعض الجهات المحلية الفاعلة بالاستفادة من بيع الحبوب الأوكرانية في الأسواق المحلية، من تجار وغيرهم”، على حد قوله.
أوكرانيا تشتكي الأوروبيين
وبغض النظر عن الأسباب ومن يقف خلفها، فرضت حكومات البلدان المتضررة حظرا مؤقتا على الحبوب الأوكرانية في أبريل/نيسان 2023، ثم اضطر الاتحاد الأوروبي إلى اعتماده على المستوى الأوروبي حتى سبتمبر/أيلول 2023.
في حين ردت الحكومة الأوكرانية برفع شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد المجر وبولندا وسلوفاكيا، التي جددت حظر واردات الحبوب من أوكرانيا، رغم رفع قيود الاتحاد الأوروبي.
يشير بوراكوفسكي إلى أنه “قد يبدو الحل بسيطا، بمنع التصدير عبر دول الاتحاد مثلا، لكن الأوروبيين يدركون أن خنق صادرات أوكرانيا سيعود عليهم بتحمل الأعباء كشركاء داعمين”، كما تسميهم كييف.
وقال: “بعد الحرب، أصبحت الزراعة مصدرا رئيسيا للدخل بدل الصناعة، والواقع أثبت أن قطاعها يمكن أن يعمل بفعالية مهما تراجع. من دون الصادرات الزراعية ستكون البلاد عاجزة عن تأمين ثلث ميزانيتها البالغة نحو 94 مليار دولار، ويبلغ العجز فيها نحو 50% أصلا”.
وأضاف: “الأوكرانيون والأوروبيون معا بين نارين، فالتصدير بشكله الحالي يتعبهم، لكن وقفه سيكون أصعب. أعتقد أن الحل يكمن في ضبط طرق وآلية التصدير، الأمر الذي دعت إليه كييف مرارا”، على حد قوله.