في خضم عام جديد يشهد المناخ الاقتصادي العالمي عددا من التطورات التي قد تؤثر في المجريات في قطاعات مختلفة، ويبدي محللون ماليون تفاؤلا حذرا بشأن آفاق سوق الأوراق المالية في 2024، مع توقعات بأن تحقق الأسواق في العام الجديد نموا اقتصاديا معتدلا، وسلوكا أكثر مرونة للأسواق، في ظل التحولات الإستراتيجية نحو الاستدامة والتقدم التقني.
وتوقعت وكالة بلومبيرغ أن تشهد أسواق الأسهم عاما آخر مثيرا، مستندا إلى زخم الأداء القوي في العام المنصرم. ووفقا للوكالة فقد حقق مؤشر ستاندرد آند بورز 500 (S&P 500) مستويات مرتفعة، بعد أن ارتفع بنسبة 26.29٪ عائدا إجماليا في العام الماضي، مع إمكانية تحقيق مستويات قياسية جديدة في 2024. وأشار إلى أن المستثمرين، مدعومون بالتوقعات المتفائلة، يراقبون بعناية العوامل الاقتصادية الكبرى التي دعمت ارتفاع سوق الأسهم في العام السابق.
الأسهم الأميركية تبتعد عن الضغط
على الرغم من القلق المستمر بشأن التضخم وأسعار الفائدة ومستويات الديون المرتفعة وعدم الاستقرار السياسي في واشنطن، بقيت توقعات المستثمرون متفائلة بشأن استمرار الاتجاهات الإيجابية، بينما يُتوقع أن يغير الاحتياطي الفدرالي الأميركي (البنك المركزي) تكتيكه، بعد أن حقق تقدما في التحكم بمستويات التضخم في 2023، للانتقال إلى مرحلة الهبوط السلس للاقتصاد الأميركي متجنبا الركود الذي كان قاب قوسين أو أدنى، وهذا يعني وفقا لناسداك الانتقال السريع من زيادة أسعار الفائدة إلى قطع الفائدة.
وتشير ناسداك إلى أن انخفاض أسعار الفائدة وتحقيق النمو في الأرباح قد يوفران خلفية إيجابية للأسهم في 2024. حيث يشير محللون تحدثت إليهم المنصة إلى النمط التاريخي للأسواق الصاعدة لمؤشر ستاندرد آند بورز، مشيرين إلى أن الارتفاع الحالي قد يستمر في المستقبل. ويلاحظ المحلل الإستراتيجي للاستثمار في معهد بحوث “سي إف آر إيه” سام ستوفال، أن متوسط سوق الأسهم الصاعد لمؤشر ستاندرد آند بورز قد أنشأ عائدا بنسبة 157٪ تقريبا، واستمر أكثر من 4 سنوات، مما يشير إلى احتمال استمرار الارتفاع لفترة طويلة.
الضباب يغطي أوروبا
وكانت شركة “ستاندرد آند بورز ماركت إنتلجنس” المتخصصة في أبحاث السوق، قدمت مؤخرا “توقعات السوق الأوروبية لعام 2024″، مع تسليط الضوء على الموضوعات الرئيسة التي قد تؤثر في الأسواق الأوروبية.
واتسم المشهد في 2023 بعدم اليقين وعدم الاستقرار، مع إحراز تقدم في خفض التضخم، ولكن مخاوف الركود تلوح في الأفق.
وناقش التقرير ستة محاور مهمة لعام 2024، هي أسواق رأس المال، وعمليات الاندماج والاستحواذ، والذكاء الاصطناعي، والاستدامة، وسلاسل التوريد إلى جانب التحول في الطاقة.
وباختصار، فقد أشارت ستاندرد آند بورز إلى أن “توقعات السوق الأوروبية لعام 2024” تشير إلى مشهد مليء بالتحديات مع عدم اليقين الاقتصادي، مع تطور سيكون ملحوظا في إدارة الذكاء الاصطناعي، ومخاوف الاستدامة، والتحولات في ديناميكيات سلسلة التوريد وسياسات الطاقة. ويؤكد التقرير ضرورة اتباع إستراتيجيات حذرة للمستثمرين في مواجهة هذه الشكوك.
على وقع ذلك، تظهر نظرة أسواق رأس المال لعام 2024 بأنها ضبابية وفق التقرير، مع تزايد مضطرد في حالات الإفلاس، وتباطؤ حاد في نمو الائتمان عبر معظم قطاعات البنوك، ويشير التقرير إلى أن البنوك المركزية الأوروبية ما زالت تحتفظ بتوجهاتها بالتشديد حتى وصولها إلى أعلى معدلاتها الدورية. وقالت “ستاندرد آند بورز” إن “تشديد الظروف الائتمانية المستمر سيساعد في خفض التضخم في 2024، ولكن بوتيرة متواضعة”.
وشدد التقرير -أيضا- على التوفر الكبير للسيولة في مجال الاندماج والاستحواذ، حيث بلغ إجمالي الرصيد النقدي الخاص برأس المال الخاص على مستوى العالم 2.49 تريليون دولار في منتصف 2023، مرتفعا أكثر من 11٪ منذ نهاية 2022.
وعلى الرغم من انخفاض قيمة الصفقات المدعومة برأس المال الخاص، توقع التقرير تحولا محتملا في إستراتيجية البنك المركزي الأوروبي لرفع أسعار الفائدة، مشيرا إلى نقطة تحول في مكافحة التضخم.
فرص كبيرة في الشرق الأوسط
وأشار تقرير من بلومبيرغ إلى أنه على الرغم من البيئة العالمية الصعبة للاكتتابات العامة الأولية في العام المنصرم، فقد برزت منطقة الشرق الأوسط مركزا حيويا لإدراجات البورصات فيه، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى 2024.
وعلى مدى العامين الماضيين، أصبحت منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط نقطة محورية لنشاط الاكتتابات العامة الأولية، حيث تهدف الحكومات إلى تنويع اقتصاداتها بعيدا عن الاعتماد على النفط، عن طريق بيع حصص في الشركات المملوكة للدولة. وقد تجلى ذلك بشكل خاص مع استمرار ارتفاع أسعار النفط الخام. بالإضافة إلى ذلك، أدت الأحداث الجيوسياسية -مثل: استبعاد روسيا من مؤشر للأسواق الناشئة وتباطؤ النمو الاقتصادي في الصين- إلى توجيه انتباه المستثمرين نحو منطقة الخليج العربي.
وقالت بلومبيرغ إنه على الرغم من أن إجمالي الأموال التي جُمعت من خلال الاكتتابات العامة الأولية في المنطقة كان محدودا “نحو 5 مليار دولار” فإن الشرق الأوسط يسير على الطريق الصحيح لتأمين المركز الثالث من بين أفضل الأعوام أداء لعائدات الاكتتابات العامة الأولية منذ 2007 والجدير بالذكر أن منطقة الخليج تمثل 45% من إجمالي حجم الاكتتابات العامة الأولية في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا المتوقعة في 2024، مقارنة بـ 51% في العام السابق.
ونقلت بلومبيرغ عن مصرفيين شعورهم بالتفاؤل بشأن الزخم في سوق الاكتتابات العامة الأولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويتوقعون استمرار النمو مدفوعا بالتوسع الاقتصادي القوي والإصلاحات الحكومية، والطلب المستدام من المستثمرين.
وقال كريستيان كابان، رئيس أسواق رأس المال لمنطقة أوروبا الوسطى والشرقية والشرق الأوسط وأفريقيا لدى بنك أوف أميركا “هناك توقعات قوية لأداء الاكتتابات العامة الأولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 2024… وسيشهد الأخير، وحسب توقعاتنا دخول المزيد من الشركات الخاصة إلى الأسواق هناك”.
ويتناقض الأداء القوي للاكتتابات العامة الأولية في الشرق الأوسط مع سوق الاكتتابات العامة العالمية الباهتة، التي تتجه نحو أسوأ أداء سنوي لها منذ 2009 وفقا للتقرير. وفي الشرق الأوسط، أظهرت الأسهم ارتفاعا متوسطا بنحو 40٪ بعد الاكتتابات العامة.
تأثير العدوان على غزة
ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة وفقا لبلومبيرغ، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية. فقد شهد مؤشر “إم إس سي آي” لدول مجلس التعاون الخليجي تراجعا بنسبة 3.2% مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مما أثار مخاوف المستثمرين. وعلى الرغم من ذلك، انتعش المؤشر بنسبة 12% مع تراجع هذه المخاوف.
وحذّر صلاح شمة، رئيس وحدة استثمار الأسهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة فرانكلين تمبلتون الاستثمارية، من أنه “إذا تصاعدت الأمور وتوسع مسرح العمليات، فمن المؤكد أن ذلك سيكون له تأثير ضار على علاوة المخاطرة، وتصور المستثمرين لحجم المخاطر في المنطقة.”
روافع الأسواق.. الذكاء الاصطناعي والتوجهات الإستراتيجية
لا يزال توقع المستقبل يمثل تحديا كبيرا في عالم متسارع، لكن محللين يتوقعون مناخا من التفاؤل الحذر في 2024، مع معدلات نمو اقتصادي معتدلة، مما يشير إلى الابتعاد عن الانتعاش القوي الذي شهده ما بعد الوباء. ومع ذلك، فإن علامات المرونة والقدرة على التكيف مشجعة، مما يمهد الطريق للمناورات الإستراتيجية من المستثمرين والشركات.
ووفقا لبلومبيرغ، يشهد السوق العالمي تحولا، مدفوعا بالتقدم التقني، وتحول اتجاهات المستهلكين، والالتزام المتزايد بالممارسات المستدامة. يبحث المستثمرون والشركات بنشاط عن إستراتيجيات للتنقل في هذا المشهد المتطور والاستفادة من الفرص الناشئة.
وتبرز سيطرة تقنية الذكاء الاصطناعي (AI) على الخطط الإستراتيجية لكبريات شركات التقنية كأهم الروافع التي تبنى عليها توقعات العام الجديد المتفائلة، حيث دفعت تقنية الذكاء الاصطناعي الأسهم التقنية الرائدة في 2023، وتذكر بلومبيرغ شركة إنفيديا التي تجاوزت قيمتها السوقية 1.3 تريليون دولار في زمن قياسي، مثالا على تأثير الذكاء الاصطناعي في الأسواق، التي أشعلت تفاؤلا بشأن طول فترة الارتفاع المتوقع المدفوع بالذكاء الاصطناعي.
ويقول جيمس ديميرت رئيس قسم الاستثمار في شركة “ماين ستريت ريسيرتش” لأبحاث السوق، إن القوة الحالية للسوق هي دليل على بداية دورة جديدة وحقيقية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ودورة اقتصادية يمكن أن تستمر لعقد بفضل نمو الإنتاجية والرياح الداعمة للذكاء الاصطناعي.
وبينما يسود التفاؤل، تثير توقعات القلق حول التقديرات المبالغ فيها لقطاع التقنية، وبإضافة عامل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في 2024، فإن التوقعات الحذرة تتعزز مع بعض التقلبات المحتملة وفقا لناسداك، وهو ما يجعل المساهمين في الأسواق يتأهبون للتطورات السياسية وتأثيرها على تقديرات الأسهم.
الاحتياطي الفدرالي والسياسة النقدية.. توازن حساس
ويلعب البنك الاحتياطي الفدرالي دورا محوريا في تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي، ويشير محللون لناسداك أنه وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي حققه الفدرالي للحد من التضخم، يواجه البنك تحد كبير متمثل في الحفاظ على مستويات معقولة من الاستقرار الاقتصادي في 2024.
ووفقا لرويترز أظهر مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي انخفاضا طفيفا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية، وهو مقياس التضخم المفضل لدى بنك الاحتياطي الفدرالي، لا يزال أعلى من الهدف عند 3.2٪.
بينما تشير توقعات اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) إلى تضخم أساسي في نفقات الاستهلاك الشخصي بنسبة 2.4٪ ونمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.4٪ في 2024، مع توقعات بـ3 تخفيضات فقط في أسعار الفائدة بحلول نهاية العام.
ومع ذلك، يبدي المستثمرون تفاؤلا أكبر، حيث يتوقعون فرصة بنسبة 70٪ لخفض سعر الفائدة الأول من بنك الاحتياطي الفدرالي بحلول مارس/آذار المقبل، وفرصة بنسبة 80٪ لـ5 تخفيضات على الأقل في أسعار الفائدة بحلول نهاية 2024، وفقا لمجموعة الخدمات المالية الأميركية العملاقة “سي إم إي”.