رام الله- مع إصرار الحكومة الإسرائيلية على اقتطاع جزء من أموال الضرائب الفلسطينية، في وقت تغلق فيه الباب أمام نحو 200 ألف عامل فلسطيني، فإنها تدفع الضفة الغربية في فلسطين إلى ضائقة اقتصادية قد تفتح الباب على مصراعيه لانفجار حتى أواخر يناير/كانون الثاني على أبعد تقدير، وفق خبراء تحدثوا للجزيرة نت.
وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وجه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، بتجميد أموال المقاصة الفلسطينية، لعدم إدانة السلطة الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة في السابع من الشهر ذاته.
ووفق اتفاقيات بين الجانبين تتولى إسرائيل تحصيل أموال الضرائب عن البضائع الواردة إلى الضفة وغزة من خلال المنافذ التي تسيطر عليها مقابل 3%، على أن تحولها شهريا إلى السلطة الفلسطينية فيما اصطلح على تسميته بالـ”مَقاصّة”.
خصم بذرائع مختلفة
وتعد المقاصة المصدر الأول الذي يساعد السلطة الفلسطينية في صرف رواتب موظفيها، لكن سلطات الاحتلال اعتادت الخصم منها تحت ذرائع مختلفة، وهو ما يدفع السلطة لرفض استقبالها.
وتقدر وزارة المالية الفلسطينية القيمة الشهرية لأموال المقاصة بنحو 750 مليون شيكل (202 مليون دولار)، في حين تقدر حصة غزة المحتجزة بنحو 270 مليون شيكل (نحو 73 مليون دولار).
وإذا ما أضيف لحصة غزة اقتطاعات تساوي ما تدفعه السلطة لعائلات الأسرى والشهداء وأسعار كهرباء وماء وديون مستشفيات وذرائع غيرها، يصبح مجموع الاقتطاعات الشهرية نحو 600 مليون شيكل (نحو 162 مليون دولار).
وبسبب اقتطاعات المقاصة لا تستطيع السلطة الفلسطينية دفع رواتب موظفيها، واضطرت أواخر نوفمبر/تشرين الثاني لصرف سلفة من البنوك تعادل نصف راتب للموظفين العاملين في القطاع الحكومي عن أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وإضافة إلى الاقتطاعات الإسرائيلية، يمنع نحو 200 ألف فلسطيني، كانوا يدخِلون سيولة تصل إلى 900 مليون شيكل شهريا (243 مليون دولار) إلى السوق الفلسطينية، من التوجه إلى أماكن عملهم داخل إسرائيل، وهو ما شكل عبئا إضافيا ينذر استمراره باتساع دائرتي الفقر والبطالة.
ويضاف إلى كل ما سبق ركود وتراجع اقتصادي بمختلف القطاعات في الضفة الغربية، فضلا عن دمار قطاع غزة وحصاره المستمر منذ أكثر من شهرين.
ووفق تقديرات الأمم المتحدة منذ أيام فإن الاقتصاد الفلسطيني خسر ما يزيد على 12% من قيمته أو 2.5 مليار دولار في “صدمة اقتصادية غير مسبوقة”.
حلول أو انفجار؟
يقول الخبير الاقتصادي في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) رابح مراد، إن كل ما سبق قد يؤدي لانفجار الوضع في الضفة الغربية خلال يناير/كانون الثاني القادم إذا لم يتم إيجاد الحلول المناسبة.
ويضيف: “حتى نهاية يناير (كانون الثاني) قد ندخل في أزمة اقتصادية كبيرة جدا، إذا استمرت الحكومة الإسرائيلية في منع عودة العمال، الذين يشكلون القوة الشرائية الأبرز في الضفة الغربية، نحو 900 مليون شيكل شهريا، أي قرابة 3 مليارات شيكل من بداية الحرب حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول)”.
ويشير رابح مراد إلى خسائر تقدر بنحو 900 مليون شيكل بسبب عدم دخول مواطني الـ48 إلى الضفة للتسوق والدراسة وغيرهما، بالإضافة إلى مبلغ مماثل بمثابة خسائر غير مباشرة لتضرر وتوقف قطاعات مختلفة.
ويتابع الخبير الفلسطيني: “مع نهاية شهر يناير/كانون الثاني، إذا لم يكن هناك انفراجة سندخل أزمة اقتصادية كبيرة وغير مسبوقة حتى في انتفاضة الأقصى (2000-2004) وفترة كورونا (2020)، ستؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي”.
تراجع الدعم
ويقول رابح مراد إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أضعف من أن ينتزع موافقة الجيش والشرطة على عودة العمال والخضوع للضغوط الأميركية لوقف اقتطاعات المقاصة أو إعادة العمال.
وفي ظل تراجع الدعم الأوروبي بسبب اشتراطات التجديد السياسي، فإن المتاح لدى السلطة للتغلب على أزمتها فقط هو “التبرع العربي السخي” لكنه أيضا غير مضمون بسبب ذريعة التغيير والإصلاحات.
أما عن إمكانية اللجوء إلى البنوك، فقال مراد إنها تواجه تعثرا في استرداد ديونها سواء في غزة أو الضفة، وبالتالي فإن إمكانية مساعدتها محدودة ولن تحل الأزمة.
وتظهر بيانات وزارة المالية الفلسطينية حتى نهاية سبتمبر/أيلول الماضي أن حجم الدين المحلي يبلغ نحو 3.4 مليارات شيكل، منها قرابة مليار شيكل للبنوك.
ورقة الضغط الوحيدة
من جهته يقول الدكتور نائل موسى، الخبير الاقتصادي والمحاضر بجامعة النجاح الوطنية إن السلطة الفلسطينية “وصلت إلى عنق الزجاجة، فلا تستطيع التقدم أو التراجع”.
وأضاف أن 70% من إيرادات السلطة هي من المقاصة، و30% إيرادات محلية، وانعدامهما يعني انخفاض النشاط الاقتصادي.
أما عن خيارات السلطة، فقال إن المطلوب “وضع العربة أمام الحصان، وأن تعلن فشلها في تحمل مسؤولياتها، وتعطي الموظفين -بمن فيهم منتسبو الأجهزة الأمنية- إجازات بدون رواتب”.
ويرى أن تسريح موظفي الأمن وعددهم نحو 70 ألفا “خطوة مطلوبة وأداة ضغط بيد السلطة تقابِل ضغوطات الحكومة الإسرائيلية”.
وفي حال لجأت السلطة إلى هذه الخطوة، يقول الخبير الفلسطيني فإن ذلك “يقوي الطرف المؤيد لصرف المقاصة في الجانب الإسرائيلي والذي يخشى انفجار الضفة، ويحدث شرخا بإضعاف موقف وزراء التطرف وعلى رأسهم وزير المالية”.
وخلص موسى إلى أن الضفة أمام انفجار يعتمد توقيته على مدى تحمل الشارع المنهك بالديون “لكن ليس أكثر من أسابيع”.
فشل مزدوج
بدوره ينتقد المحلل السياسي سليمان بشارات غياب خطاب للسلطة الفلسطينية -رغم مضي شهرين- يرقى لمستوى الحرب على الأقل من الناحية الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع.
ويتحدث بشارات عن “فشل حكومي وغياب الأفق في إدارة الملف الاقتصادي، مما ساعد في كشف هشاشة الاقتصاد والخطط الاقتصادية إن وجدت خلال الحرب”.
ويقول “كانت مداخيل العمال تغطي على فشل الحالة الاقتصادية في فلسطين، وإذا استمرت الحرب بهذا الشكل سنشهد انهيارا اقتصاديا قد يدفع لعدم مقدرة موظفي السلطة على الوفاء بالتزاماتهم والبحث عن مصادر دخل أخرى”.
ويستبعد بشارات، توجه السلطة إلى إعطاء موظفيها إجازات بدون راتب، لا سيما عناصر الأمن كوسيلة ضغط على إسرائيل “لأن ذلك يعني انهيار السلطة الفلسطينية وتلبية رغبة يمينية إسرائيلية بضم الضفة وإيجاد كيانات إدارية وسلطات محلية بديلة كما هو الحال في أراضي الـ48”.
ويستبعد بشارات أي تحرك داخلي ضد السلطة، بدون أن يستبعد أن يشكل العمل الاقتصادي دافعا لدى المواطنين باتجاه خيار المواجهة مع الاحتلال.
وتابع أن مناقشة المستويين السياسي والأمني لفكرة عودة العمال في أوج الحرب، تؤشر لاستشعار خطورة استمرار منعهم، مرجحا ضغوطا على إسرائيل لتمرير أموال المقاصة أو توفير مصادر بديلة لدفع رواتب موظفي السلطة على الأقل.
وأضاف أن استمرار الوضع الحالي كما هو لشهر أو شهرين سيؤدي حتما إلى ردة فعل جماهيرية وانفجار الوضع الميداني في الضفة.